رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أردوغان يناور الأوروبيين: سيب وأنا أسيب!

أردوغان
أردوغان

أخيرًا.. وبعد طول انتظار، ومفاوضات، وضغوطات، وتفاهمات، وصفقات سرية، أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرج في 10 يوليو الجاري، موافقة تركيا مبدئيًا على انضمام السويد لـ"الناتو".

ورغم أن القرار جاء عشية انعقاد قمة الناتو الأخيرة في ليتوانيا، إلا أنه فاجأ العديد من المحللين نظرًا لأن تركيا كانت قد حظرت سابقًا انضمام السويد للناتو، متهمة ستوكهولم بتقديم الدعم السياسي لحزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية.

في كلمته قبل القمة، صرح أردوغان بأن موافقة تركيا على انضمام السويد للناتو مشروطة بموافقة الاتحاد الأوروبي على انضمام تركيا، ما يشير إلى صفقة سياسية يسعى إليها الثعلب التركي مستغلا حاجة الأوروبيين إلى موافقته لضم السويد إلى الناتو كونها الجار المباشر لروسيا من ناحية الشمال الغربي، وخط الدفاع الأول عن الدول الغربية إذا انزلقت الأمور إلى مستوى أخطر.

هذه التطورات أثارت الكثير من الأسئلة لدى مراكز التفكير الاستراتيجي حول دوافع أردوغان للموافقة على انضمام السويد للناتو وتوقيت الإعلان بعد أزمة حرق المصحف الشريف، وهو الذي يقدم نفسه دائما على أنه "خليفة المسلمين" الجديد.

دوافع الاتفاق:

1- تخفيف الضغط على الاقتصاد التركى: تواجه تركيا أزمة اقتصادية تفاقمت بسبب الزلزال المدمر في فبراير الماضي بالإضافة إلى ارتفاع التضخم وانخفاض قيمة الليرة التركية ووصلها إلى أدنى مستوى لها، حيث فقدت حوالي 28% من قيمتها في النصف الأول من العام الجاري، وهو ما دفع أنقرة لاستغلال حاجة الأوروبيين في ضم السويد للناتو لتحقيق بعض المكاسب الاقتصادية.

كان من بين الأهداف الرئيسية تحديث الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي، الذي دخل حيز التنفيذ في عام 1996، ليشمل مختلف المنتجات الزراعية والصناعية والخدمات الإضافية. لقد كانت تركيا تمارس ضغوطًا على بروكسل لسنوات من أجل تحديث شروط الاتحاد الجمركي، واعتبرت أن مصالحها لم تكن ممثلة بما أنها لم تشارك في صنع القرارات بشأن اتفاقيات مع طرف ثالث بسبب عدم انضمامها إلى الاتحاد.

الإجراءات التي تستهدفها أنقرة من شأنها تقليل عجز الميزان التجاري التركي، وزيادة حجم التجارة مع الاتحاد الأوروبي، شريكها التجاري الأكبر.

2- حصار الأكراد وتحجيم نشاطهم: لتصبح الدولة الـ32 التي تنضم لحلف الناتو، واجهت السويد ضغطًا من تركيا وفنلندا لإجراء تعديلات دستورية وقانونية تحظر أنشطة بعض المجموعات الكردية. صنفت تركيا هذه المجموعات كمنظمات إرهابية، متهمة إياها بتحريض الأقلية الكردية داخل تركيا وتخطيطها للانقلاب الفاشل في عام 2016. شهدت العلاقات بين أنقرة وستوكهولم بعض التوترات بسبب اتهامات السويد لاستضافتها حوالي 100 ألف كردي، بمن في ذلك عناصر يعتبرون تهديدًا أمنيًا لتركيا، كما استدعت أنقرة السفير السويدي احتجاجًا على السماح لبعض المنظمات الكردية بالتظاهر أمام السفارة التركية في ستوكهولم ونقد حكم أردوغان قبل الانتخابات الرئاسية التركية في مايو الماضي.

سعت السويد لمعالجة المخاوف الأمنية التركية ووافقت على تعديل دستورها والقوانين المحلية لتحظر أنشطة العديد من المجموعات الكردية، وبالأخص حزب العمال الكردستاني. كما وافقت على تعزيز التعاون الثنائي في مجال مكافحة الإرهاب وعدم دعم المنظمات الكردية التي تعتبرها تركيا منظمات إرهابية، مثل حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية وحدات حماية الشعب.

3- صفقة المقاتلات المتوقفة: قبل حرب روسيا وأوكرانيا، سادت التوترات العلاقات التركية الأمريكية بسبب اقتراب تركيا عسكريًا من روسيا. وصف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن تركيا بأنها "شريك استراتيجي وهمي" في يناير 2021. كانت تصريحاته القوية ردًا على إصرار تركيا على شراء صواريخ إس-400 الروسية واستلام أجزاء أولية من النظام الدفاعي في عام 2019، واختباره في البحر الأسود في 2020. نتج عن ذلك فرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على صناعة الدفاع التركية، مما جعل تركيا أول دولة عضو في الناتو تخضع لقانون قضاء الولايات المتحدة لمواجهة خصومها من خلال العقوبات"جاستا"،  بالإضافة إلى استبعادها من برنامج تصنيع مقاتلات F-35 ووقف بيع مقاتلات F-16 لها.

بعد اندلاع حرب روسيا وأوكرانيا في فبراير 2022، ساهمت تركيا في تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة عن طريق دعم الأمم المتحدة لإدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، والاتفاق على بيع طائرات بيرقدار إلى كييف، والوساطة بين روسيا وأوكرانيا. في يوليو من العام السابق، وقعوا اتفاقًا لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود تحت رعاية الأمم المتحدة. في ضوء هذه التطورات، زار وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو واشنطن لإعادة التفاوض بشأن امتلاك تركيا لمقاتلات F-16 وتحسينات لأسطولها الحالي. في الأيام السابقة لقمة فيلنيوس، تمت عملية تواصل مكثفة بين وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ونظيره الأمريكي بلينكن لتنسيق مطالب تركيا لتوسيع نطاق الناتو.

يبدو أن مرونة تركيا بشأن انضمام السويد للناتو كانت جزءًا من صفقة أكبر لتعميق الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. هذه الصفقة تتجاوز غضب واشنطن من تقارب أنقرة مع موسكو والسياسات التركية شرقي البحر المتوسط، وتجاه الأكراد السوريين، حيث أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان على هامش قمة فيلنيوس أن الرئيس بايدن يرحب ببيع مقاتلات F-16 لتركيا، وجار التفاوض مع الكونجرس لإقناع الأغلبية الجمهورية بالموافقة على الصفقة.

مخاوف أوروبية من انضمام تركيا للاتحاد:

على الرغم من تحسن علاقات تركيا بالدول الغربية مؤخرًا، فإن اشتراط أردوغان لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مقابل انضمام السويد للناتو لم يلق استحسانًا كبيرًا. وعلى الرغم من بيان سوليفان بدعم بايدن لعضوية تركيا في الاتحاد، فإنها جاءت مشروطة بتنفيذ مجموعة من الإصلاحات، بالطريقة التي أكد عليها المستشار الألماني أولاف شولتس. 

في أول رد فعل، أوضحت المفوضية الأوروبية أن انضمام تركيا يعتمد حصرًا على سياساتها الخاصة، ومدى اتفاق تلك السياسات مع معايير انضمام أي عضو جديد، ما يشير بوضوخ إلى المخاوف الأوروبية التي قد تعوق انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ومنها:

1- تقييم وضع الديمقراطية فى تركيا: قد تكون الحالة السياسية في تركيا أحد العوائق أمام انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. تجاهل سياسات أردوغان الداخلية تجاه الصحافة والمعارضة بعد محاولة الانقلاب في عام 2016، وتوسيع سلطاته التنفيذية من خلال استفتاء عام 2017، أثار العديد من التحفظات في الاتحاد الأوروبي. في عام 2019، علقت بروكسل المفاوضات حول انضمام تركيا بعد انتقادات حادة لما سمته "سياسات قمعية تجاه المعارضة والأقليات". اتخذ الاتحاد الأوروبي إجراءات تأديبية ضد تركيا في عام 2021 لرفضها الامتثال لقرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بإطلاق سراح معارض فرنسي تركي يواجه السجن المؤبد بتهم تمويل محاولة الانقلاب في عام 2016. أدان تقرير الاتحاد الأوروبي النهائي لعام 2022 أيضًا "تدهور الديمقراطية في تركيا" وأعرب عن قلقه بشأن انتهاكات حقوق الإنسان وتدهور الاستقلال القضائي.

وبالتالي، فإن دول الاتحاد الأوروبي في غالبيتها ترى أن تركيا لا تزال بحاجة إلى إجراء إصلاحات سياسية كبيرة قبل الانضمام، حيث يتطلب الاتحاد مجموعة من الضمانات السياسية والدستورية المعروفة باسم "معايير كوبنهاجن" لضمان جودة الديمقراطية وحماية حقوق الأقليات في الدول المرشحة للانضمام.

2- العلاقات الاقتصادية بين تركيا وروسيا: تمكنت تركيا من إدارة علاقاتها مع كل من روسيا والغرب بشكل متوازن نسبيًا منذ الحرب الأوكرانية. ومع ذلك فالاتحاد الأوروبي ليس سعيدا بالروابط الاقتصادية بين أنقرة وموسكو، خاصة في ضوء وثيقة المفهوم الاستراتيجي الجديد لـ"الناتو"، الصادرة عن قمة مدريد في يونيو 2022، والتي اعتبرت أن روسيا أكبر تهديد لأمن أوروبا.

لم يكن مقبولًا بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي أن تتناقض أنقرة مع سياسات الناتو، في وقت يواجه فيه الأمن الأوروبي تهديدًا غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. في هذا السياق، عبّر ممثل الشئون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، عن قلقه في ديسمبر من العام الماضي حول الشراكة الاقتصادية بين الأتراك والروس، مخافة أن يسهم ذلك في تجاوز العقوبات الاقتصادية الأوروبية على روسيا.

لم تنضم تركيا إلى سلسلة العقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على موسكو، واستمر تدفق الغاز الروسي لتلبية احتياجات تركيا الطاقوية من خلال خط الأنابيب التركي الروسي. من جهة أخرى، رحبت موسكو بوساطة أنقرة في الحرب المستمرة، وأجلت بعض ديونها لشركة جازبروم المملوكة للدولة، وزادت استيراداتها من السلع التركية. مع زيادة التجارة بين البلدين، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت متأخر من العام الماضي أن تركيا ستدفع ربع احتياجاتها من النفط الروسي بالروبل بدلاً من الدولار الأمريكي، مما ساهم في تخفيف أزمة الاقتصاد التركي.

3-  سياسة تركيا تجاه الأكراد: بالرغم من أن الاتحاد الأوروبي يصنف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية، فإن تركيا ترغب في أن يكون معظم المنظمات الكردية في أوروبا لها نفس التصنيف، وهو ما يرفضه العديد من دول الاتحاد الأوروبي. 

ويظل الاتحاد الأوروبي قلقًا حيال نشاطات منظمة الذئاب الرمادية، الجناح المسلح لحزب الحركة القومية الذي يدعم سياسات أردوغان. انتقد الاتحاد الأوروبي تركيا لاستخدام هذه المنظمة ضد المعارضة الكردية. مع تصاعد العنف من قبل الذئاب الرمادية ضد الأكراد، قرر بعض الدول الأوروبية حظر المنظمة، ووصفها البرلمان الأوروبي في عام 2021 بـ"منظمة إرهابية". امتدت انتقادات بروكسل لسياسة تركيا تجاه الأكراد ليس فقط إلى أوروبا وإنما إلى محيطها الإقليمي أيضًا. بينما دعمت الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي بعض المجموعات الكردية في سوريا، مثل قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ووحدات حماية الشعب، في معركتهم ضد المنظمات الإرهابية مثل داعش، شنت تركيا عمليات عسكرية عدة ضد هذه القوات في شمال سوريا.

4- الصراع في شرق المتوسط: واجهت السياسات التركية في المنطقة انتقادات حادة من بروكسل بعد أن أجرت السفن التركية استكشافات طاقة في مياه تخص جمهورية قبرص واليونان، وهما عضوان في الاتحاد الأوروبي. دعم الاتحاد الأوروبي البلدين في مواجهتهما مع تركيا وانتقد أنقرة في مايو 2021 بسبب احتلالها شمال قبرص وتنازعها مع اليونان حول جزر بحر إيجة. دعا الاتحاد الأوروبي الأطراف الثلاثة إلى إعادة التفاوض حول تحديد الحدود البحرية والمنطقة الاقتصادية الخالصة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982. ومع ذلك، رفضت تركيا توقيع هذه الاتفاقية الدولية على الرغم من أنها تعد من التشريعات التي يجب على الاتحاد الأوروبي الامتثال لها للانضمام.

مُناورات أردوغان:

يمكن القول إن المسافة أمام تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لا تزال طويلة. أردوغان يدرك تلك الحقيقة تمامًا، غير أن اشتراطه الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي للموافقة على انضمام السويد للناتو يأتي من قبيل التكتيك السياسي لتحقيق مكاسب استراتيجية دون قيود أو تأخيرات، وقاصدًا تحقيق مصالح بلاده اقتصاديا وعسكريا وأمنيا. تجدر الإشارة هنا إلى أن البرلمان التركي هو المخول بالموافقة على انضمام السويد للناتو من عدمه، ما يعني أن حزب "العدالة والتنمية" الحاكم يمكن أن يعرقل انضمام السويد إذا لم يحرز أردوغان تقدمًا في تحقيق هذه المكاسب.