رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«المصريون بين ثقافة التكيف وآفاق التمكين».. طموح غير مكتمل لفهم الشخصية المصرية وتكرار لرائعة جلال أمين

جلال أمين
جلال أمين

يستهل الدكتور فكرى حسن، عالم المصريات والآثار، كتابه: «المصريون بين ثقافة التكيف وآفاق التمكين»، الصادر حديثًا عن «دار الثقافة الجديدة»، بمدخل يُحفِّز أسئلة القارئ وفضوله المعرفى، وبطموح كبير يروم الإحاطة بتحولات الشخصية المصرية على مدار العقود بل القرون، ولكنه ما يلبث أن يتحوّل إلى إعادة جمع لأطروحات قديمة صارت أقرب لأن تكون محفوظة عن ظهر قلب. 

يشير «حسن» إلى أن دافعه لكتابة هذا العمل قد تشكّل من تشككه فى محاولة إضفاء خصائص ثابتة على الشخصية المصرية، فقد اجترح جمال حمدان فى كتابه «شخصية مصر» خصائص مصرية تحددها الجغرافيا، فيما لا يمكن أن تشكل الجغرافيا «الشخصية الثقافية». كما شاع مصطلح «الشخصية القومية المصرية»، الذى لم يكن سوى نتاج عواطف قومية ارتبطت بأحداث شهدها التاريخ الحديث. ومن ثم يُرجح الكاتب أن دراسة تحولات المصريين بطبقاتهم المختلفة، ينبغى أن تخضع لديناميكيات اجتماعية تُحرّكها التغيرات العالمية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك.

نقطة الانطلاق التى منها بدأ «حسن» كتابه ربما هى بديهية بدرجة كبيرة اليوم، بعد أن خفتت الأسباب التى شكّلت الأطروحات القديمة، ولن يدلل على ذلك أكثر من عشرات بل مئات الدراسات والبحوث التى ترصد التغيرات الاجتماعية استجابة لسياق تاريخى وثقافى وسياسى محدد، والتى استعان الكاتب بعدد غير قليل منها فى كتابه، وهو ما قد يجعلنا نتساءل عن الداعى لبعث أفكار توارت بانقضاء زمانها من مرقدها.

المسألة الأساسية التى تمثل أطروحة الكتاب هى أن «المصريين يتميزون كغيرهم من الشعوب بالتفاعل الديناميكى مع الواقع فى إطار ما هو ممكن، وأن بعض الخصائص الشخصية ترتبط بفترات تاريخية وتغيرات محلية وقومية وعالمية، وأن شخصيات المصريين ترتبط بنشأتهم ومزاجهم ووضعهم الاجتماعى ومهنهم وثرواتهم وقدرهم من التعليم، وأن من يتحدثون فى العادة عن الشخصية المصرية يخلطون بين فئات المجتمع وينتهون إلى نتائج مضللة».

ويتناول الكاتب الموضوع من منطلق السؤال عن آليات وأسباب انتقال المصريين من الاعتماد على «التكيف فى ظروف القهر» إلى «التآلف مع أوضاع يصعب تغييرها»، كما كان الحال فى المجتمعات الريفية منذ زمن بعيد، إلى السعى للتمكن الذى ظهرت ملامحه بوضوح مع انتقال أهل الريف إلى الحضر وسعيهم للاندماج فى المجتمع الجديد فى العهد الحديث. 

وفى سبيل توضيح فكرته يرصد الكاتب آليات التكيف عند المصريين على مر العصور، فيشير إلى أن المجتمع المصرى تحول من مجتمع أغلبيته العظمى من الفلاحين إلى مجتمع من الريفيين وحضريين من مراكز وفئات وطبقات متباينة مع حراك مجتمعى مستمر، ما أدى إلى اختلاف مكونات البنية المجتمعية، خاصة مع صعود أفراد من الطبقة الوسطى بعضهم من أصول ريفية إلى الحكم. 

ومع تغول «الرأسمالية الطفيلية» وارتباط الاقتصاد بـ«العولمة»، تغيّر المصريون فى نمط تدينهم، فنمت الحركات الدينية المتشددة وانتشر التدين المظهرى والتكسُب من الدين، وتفسخ النسق المجتمعى مع تهاوى قيم التعليم، وتفكك الأسر وارتفاع معدلات الطلاق والعنوسة، وتراجع قيم التعليم والاجتهاد، وتنامى ظواهر التحايل والفساد، ومعاناة النسق المعرفى من التسطيح والتجريف.

طموح الكاتب للحديث عن شخصية مصرية حرّكتها آليتا التكيف والتمكن كان يشى بـ«ثراء سوسيولجى» قوامه التحليل للمتغيرات فى المجتمع، خاصة مع مستجدات الألفية الجديدة، لكنه اقتصر على مجرد إعادة تقديم أطروحات سابقة تحت مسميات جديدة، ولم يقدم إضافة معرفية جديدة عن العقود الأخيرة، بل لم يطرح ما هو مغاير من أطروحات شهدها القرن الماضى. 

وليس مفهومًا تأصيل الكاتب لمنهجه بكونه «إعادة تركيب»، الذى يصفه بأنه دراسة ما تضمنته الدراسات والبحوث السابقة فى بيانات، وما توصّلت إليه من نتائج من حيث طبيعة التساؤلات والفروض والتحليل والتفسير»، دون أن تفضى إعادة التركيب تلك إلى تحليل جديد ونتائج راهنة، فالكتاب بدا أشبه بتكرار يعوزه العمق لأطروحة جلال أمين فى كتابه: «ماذا حدث للمصريين؟»، فإن كان كتاب جلال أمين آنذاك قد رسم صورة بانورامية للتغيرات فى المجتمع المصرى، بالتركيز على آثار تغير نظم الحكم من الملكية إلى الجمهورية ثم أثر الانفتاح الاقتصادى فى السبعينيات وهجرة المصريين إلى بلاد النفط على المصريين، فإن إعادة تقديم الأفكار ذاتها تحت مسميات جديدة وبفوائض معلوماتية لا تبدو ذا قيمة اليوم.

ومن ثم نجد الكاتب بدلًا من محاولة الإفادة مما تم إثباته فى قراءة جديدة للأجيال الحالية، يُحجم عن ذلك متعللًا بأنه «من الصعب التكهن بالخصائص الشخصية لهذا الجيل الحالى من الشباب المنفتحين على العالم وعلى كل ما يدور فى المجتمع وهل سيسعون إلى التقدم فى مجالات الإصلاح الاجتماعى والاقتصادى والمعرفى أم سيلجأون إلى آليات التمكين الأخرى».

لا يمكن لأحد أن يُنكر أن أى أطروحة فكرية لا توجد من فراغ، بل هى نتاج قراءة للجهود السابقة فى المضمار ذاته، لكن الأطروحة الجديدة تصير متهافتة حين تقرأ تلك الجهود السابقة دون رؤية واضحة أو فرضية جديدة تحاول إثباتها، وحين تغرق فيما أُنتِج عاجزة عن الإفادة فيما يحدث هنا والآن.