رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"يعقوب".. الشيطان يبحث عن مؤرخ

رواية أثارت الفضول عن أحوال المصريين وقت الحملة الفرنسية أكثر مما اهتمت بتقديم الإجابات 
السرد السلس كشف عن زوايا غامضة للتاريخ وبين حقيقة معاناة الكاتب مع ما يكتبه


هل تطارد الفكرة كاتبها أم يطارد الكاتب أفكاره؟! وهل يمكن لمؤرخ أن يسبر حقا أغوار التاريخ أم أن جميع محاولاته مهما تعمقت لا تستطيع تجاوز حواجز الزمان والمكان؟! هل لجميع أسئلة التاريخ إجابات أم أن الأسرار الحقيقية لا تغطيها الوثائق ولا تعرفها إلا صدور أصحابها وعقولهم؟!.


هذه التساؤلات المعلقة وإجاباتها النسبية التي لا تعرف الصواب والخطأ هي أكثر ما يطارد قاريء رواية "يعقوب" للدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، الذي كتب روايته بروح مؤرخ وشغف تلميذ ونفسية شاب في عقده الثالث وتأملات حكيم متفرد يقلب صفحات عمره بين يديه مداعبا خصلات شعره الأشيب وذكريات أحلامه وصباه.


في "يعقوب" تتماهي شخصية الكاتب المؤرخ مع بطله تلميذ التاريخ، وتمتزج ذكرياته في صباه بحي شبرا وأحلام شبابه أثناء الدراسة في فرنسا وأشباح أسرته وأساتذته وأصدقائه وتلاميذه مع خلفيات بطل الرواية نفسه، فكأنك تقرأ جانبا من سيرة ذاتية أبت إلا أن تطل برأسها بين سطور رواية واقعية وخيالية معا، هي أقرب ما تكون لدفقة مشاعر وذكريات وتساؤلات ضاق عنها صدر صاحبها وأرقت عقله لعقود طويلة وأبت أن تفارقه دون أن يسودها سطورا على الورق، يفضي بها إلى قارئه بتفاصيل قصة طاردته طويلا.


في "يعقوب" يقع البطل "التلميذ"، بل والكاتب الدكتور عفيفي نفسه، في فخ الفضول العلمي والفكري والإنساني، بعدما أبت شخصية "المعلم يعقوب" التاريخية، التي ظل الجدل مرافقا لها ولدورها أثناء الحملة الفرنسية على مصر، أن تفارقه لسنوات، وكأن شيطانها يفرض عليه مطاردته، رافضا منه أن يقول "لا" لمن كانت "لا" هي طريقه للمجد.


وبدلا من أن يطارد الكاتب فكرته ستطارد الفكرة كاتبها لتجبره على كتابة سيرتها "غير المكتملة عن عمد"، و"المثيرة للجدل عن قصد"، وكأن" يعقوب" أحد الشخصيات التي تبحث عن مؤلف، وتأبي أن تموت رغم مرور قرنين على وفاتها، قبل أن تفرض نفسها من جديد على الحاضر، في زمن تكثر فيه الأسئلة وتتوه الإجابات، مختارة لمساحة "بين بين" لا تسمح فيها بقول الحقيقة كاملة ولا تستسلم تماما لأحاديث النميمة والوشاية، بل والغواية أيضا.  


ملاك ساقط أم أمير الضياء؟!، ضال مضلل أم ملهم ذو رؤية ؟!، انتهازي واقعي أم حالم متمرد؟!، تابع ذليل أم قائد وزعيم؟!، مهرطق مطرود أم نبي ضيعه قومه؟!، خاضع للمحتل أم غاز لوطنه ومحتله معا بسيفيه بالليل والنهار؟، مبتور الولد والعقب أم رب أسرة لا تزال آثارها تتمدد في 4 قارات؟، مطارد لكاتبه أم مطارد منه؟!، إجابات كثيرة لم تقدمها رواية "يعقوب" حول شخصية تاريخية ومرحلة زمنية كانت ولا زالت تثير الكثير من الجدل، لكنها في سطورها السلسة، التي تسمح لقارئها أن يلتهمها في جلسة واحدة، ألقت بإضاءات على التاريخ والمجتمع وأثارت الفضول أكثر مما اهتمت بتقديم الإجابات.


المنهج الذي اتبعه "عفيفي" في "يعقوب"، والذي يعمق الأسئلة حول الشخصية التاريخية في غير حسم، مع بيان أكبر قدر ممكن من الجدل حولها، هو منهج يصح تعميمه على كثير من الشخصيات التاريخية والشعبية، مثل "أدهم الشرقاوي" و"ياسين بهية" و"شيخ العرب همام" و"أبوزيد الهلالي" و"البشموري" وغيرهم، من الذين لا يحسن البحث عن القول الفصل في أحوالهم وأزمانهم وتقلبات مصائرهم، وإن كان لا يجب الكف عن إماطة اللثام عن زوايا غائبة من قصصهم وسيرهم وتعقيدات زمانهم.