رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صناعة النشر والمواجهات التى ندركها متأخرًا

منذ فترة يلح على رأسى سؤال حول مدى معرفتنا بما ينتجه الشرق من آداب وفنون، ثم جاءت حركة «الأفروسنتريك»، وفيلم كليوباترا السمراء ليجعلا السؤال يتسع ليتضمن جيراننا فى الجنوب والغرب الإفريقى، ومدى معرفتنا بهم، وبإنتاجهم الثقافى والفنى، والمؤثرات التى يتعرض لها جماهير تلك الشعوب، وما ينتج عنها من أفكار وتصورات، تتحول مع الوقت إلى حقائق يدافعون عنها، أو يتبناها أبناء تلك الثقافات، وإن لم يكن لها فى الأصل من جذور، لكنها تتحول مع الوقت إلى معارك ثقافية، وربما سياسية واقتصادية يجب علينا مواجهتها، والدخول فيها بقوة، بينما نحن غافلون عما يجرى، ولا نعرف متى بدأت الأزمة، ولا كيف تطورت حتى وصلت إلى هذه المرحلة المتأخرة.

ولعلنا نذكر جيدًا ما تداولناه طويلًا بشأن ترجمة آدابنا إلى العبرية أو الترجمة عنها، وما صاحب تلك المناقشات والحوارات عن معرفة العدو، وغيرها من التعبيرات الفخيمة حول أهمية الترجمة للتقريب بين الشعوب، أو التفريق بينها كما فى الحالة المذكورة، أو للمساهمة فى فهم ما يدور حولنا على أقل تقدير، ما يعنى حقيقة فهم المثقفين المصريين والعرب لما تلعبه الترجمة من أدوار مهمة فى حياة الشعوب، ووضعها بين خريطة الأمم، أو على خريطة العالم.. نعرف كل ذلك جيدًا، ونفهمه، ونفنده، ونتحاور بشأنه، ولكننا لا نفعل أى شىء للتعبير عن ذلك الفهم، أو لترجمته إلى واقع منجز وحقيقى وملموس، فما يحدث على أرض الواقع يذكرنا بالمقولة المنسوبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق موشيه ديان: «إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يطبقون، وإذا طبقوا لا يأخذون حذرهم».. شئنا أم أبينا، فهذا هو الحال، بالضبط، ودون أى مغالاة.. إذ يبدو أننا قرأنا، وفهمنا، وأدركنا حاجتنا إلى الترجمة والمعرفة والقراءة، ولكن ماذا فعلنا؟! لا شىء.. لا شىء مطلقًا.

وأغلب ظنى أنه ليس من التجنى فى شىء هنا أن نعلق الفأس فى رأس القاتل الحقيقى، أصحاب دور النشر المصرية، بداية ممن تحولوا منهم إلى مجرد تجار للورق، لا يعرفون القراءة والكتابة، ويمسكون بمفاتيح صناعة العقل المصرى، وحتى الكبار منهم، المليونيرات، وحيتان المناقصات والجوائز و«ضرب الكتب».

والحقيقة أن موضوع الترجمة متسع ويتضمن مسارات عديدة، لكن ما يهمنى هنا هو ما نترجمه نحن عن اللغات الأخرى، وهو الأمر الذى يبدو مروعًا ومرعبًا ومثيرًا للدهشة، إذا ما نظرنا إلى كل جوانبه، بداية من الأعداد الضئيلة للكتب المترجمة، ومحدودية لغاتها الأصلية، ناهيك عن سوء جودة المنتج النهائى، من حيث مستوى الترجمة أو الصياغة، أو حتى شكل الطباعة والتغليف والتوزيع.

فإذا ما تأملنا عدد اللغات التى تتم الترجمة عنها، ونوعيتها، وكيفية نشرها وتوزيعها، لأدركنا أننا جزء أصيل من أى أزمة أو مشكلة أو حتى مواجهة بسيطة تدور أو تنشأ بيننا وبين دول الجوار الإفريقى، أو الشرق الآسيوى على وجه الخصوص.

ولك أن تعرف مثلًا أنه رغم اتهامات الانحياز الغربى التى طالت لجان جائزة نوبل على مدار تاريخها، فقد فاز بها من اليابان كل من ياسونارى كواباتا عام ١٩٦٨، وكنزا بورو أوى عام ١٩٩٤، وكازو ايشيجورو البريطانى من أصل يابانى عام ٢٠١٧، ورشح لها يوكو ميشيما ثلاث مرات، بينما وصفت الصحف العالمية هاروكى موراكامى باعتباره «واحدًا من أعظم الروائيين فى يومنا هذا»، فكم عدد أعمال هؤلاء التى تمت ترجمتها إلى العربية وقامت بها دور نشر مصرية؟

وناهيك عن ألبير كامو، الفرنسى المولود فى الجزائر، والفائز بنوبل عام ١٩٥٧، فقد تلاه فى الفوز بها، كلود سيمون الفرنسى المولود فى مدغشقر ١٩٨٥، ثم ولى سوينكا النيجيرى ١٩٨٦، وبعده نادين جورديمر الجنوب إفريقية ١٩٩١، ثم مواطنها جون ماكسويل كويتزى عام ٢٠٠٣، وكان آخرهم التنزانى عبدالرزاق جرنه عام ٢٠٢١، فهل يعرف الناشرون المصريون عناوين كتبهم؟ هل تمت ترجمة أى من أعمالهم؟ كم؟ وماذا يعرف الأدباء والمثقفون المصريون عنهم؟!

لن أسأل عن ترجمة أعمال طاغور، شاعر الهند العظيم الفائز بنوبل ١٩١٣، ولا الصينى مويان الفائز بها عام ٢٠١٢، ولا جاو كيسينجيان ٢٠٠٠، ولكنى سوف أقول لك إن جهل الناشر العربى، أو انتظاره «للسبوبة» هو ما يجعلنا دائمًا فى مؤخرة خطوط المواجهة، أو على الأقل يضعنا، مثلًا، فى موقع متأخر من معرفة مكونات مشكلة مثل مشكلة «الأفروسنتريك»، ومراحل تفاعلها، وصولًا إلى ما وصلت إليه.

بالطبع هناك عدد محدود للغاية من الدور «لا يزيد على أصابع اليد الواحدة»، يعمل فى ترجمة الآداب العالمية إلى اللغة العربية، لكنها للأسف ترهن عملها هذا وفقًا «للسبوبة مسبقة الدفع»، بمعنى أن العمل يأتيها ممولًا بالكامل من ناشره أو دولة النشر، وأحيانًا من مؤلفه الذى يبحث عن الانتشار بضمان عائدات كتبه من مجتمعه المحب للقراءة، ابتداءً من أجر المترجم الذى يختارونه أو يوافقون عليه، وصولًا إلى شراء عدد من نسخ المنتج النهائى، بما يغطى تكاليف الطباعة والتجهيزات، مع ترك هامش جيد من الربح للناشر العربى، وربما يفسر ذلك أن غالبية ما نراه من ترجمات، إما أكل عليها الدهر وشرب، وانتهت حقوق نشرها منذ سنوات طويلة، أو يكون مؤلفه من الحاملين لجنسيات دول يمكنها أن تدفع جيدًا لترجمة آدابها، ونشر ثقافتها عالميًا، كهولندا والدانمارك والسويد، وغيرها من الدول الأوروبية الصغيرة باعتبارات التاريخ وعدد السكان والتأثير الثقافى أو الحضارى.. فهذه دول ثرية لا دور لها فى محيطها الأوروبى، ولا مانع لديها من إنفاق الأموال للتعريف بمواطنيها، وتصديرهم للعالم، وإلا فقل لى مثلًا: لماذا لا نجد شيئًا مترجمًا من الأدب الرومانى الحديث؟، أو حتى الإسبانى، أو اليونانى؟ ماذا نعرف عن الأدب الفلبينى، أو الأدباء التنزانيين؟

يا راجل ده حتى الأدباء العرب لا تنشر لهم الدور المصرية إلا أقل القليل، و«لمن يدفع كمان»..

عمومًا.. للحديث بقية.