رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى والدى

يتصادف أن يكون موعد نشر مقالى هذا السبت الأول من أبريل، الذى يتوافق مع ذكرى رحيل والدى 1987.. بعد الرحيل تذكر محمود السعدنى أول مرة التقى به، فكتب: «حضر إلى قهوة عبدالله ذات مساء وقضى السهرة فى ركن أنور المعداوى، وأشاع جوًا من البهجة والمرح، وعزم الشلة كلها على العشاء، ودس فى يد الولد الذى قام بتلميع حذائه جنيهًا كاملًا، المهم أنه غادر المقهى فى ساعة متأخرة من الليل وقد وهب السعادة للجميع.. حديثًا وطعامًا وهبات.. كان نموذجًا للفنان الذى رسمته فى خيالى: كان شديد الزهو، شديد البساطة، عظيم الكرم، دائم الفلس، وكان يمشى دائمًا فى الطريق يتبعه أكثر من شخص يلازمونه كظله، ويطيعون إشارته». 

أما يوسف إدريس فكتب فى الأهرام يقول: «هذا الشاعر المخترع الموسيقى كاتب القصة راوى الحكاية.. الخميسى.. كان قويًا عملاقًا متفائلًا إلى ألف عام مقبلة، وكان فمه مفتوحًا إلى آخره مستعدًا لابتلاع الحياة كلها، بكل ما فيها من طعام وشراب وجمال.. وهو قوى مقاتل وطنى عنيد». 

وكتب أحمد بهجت ينعيه: «الخميسى مزيج عجيب من الشخصيات المتداخلة المختلفة المتعددة.. إنه شاعر، يجيد العزف على البيانو، وهو كاتب قصة ينصرف أحيانًا إلى اللعب كما يفعل الأطفال، وهو إذا لعب قام بتأليف فرقة مسرحية، أو إخراج فيلم سينمائى، أو كتب قصيدة من الشعر، وكان فى كل ما يلعبه سيدًا من سادة اللعبة، إن حقل الفنون جميعًا ملعبه وهو يتألق فيه مثل بيليه ومارادونا». 

أما الكاتب صلاح عيسى فقص فى مقال له حكاية الخميسى مع وزير الداخلية شعراوى جمعة، وكان المسئول عن التنظيم الطليعى فى الاتحاد الاشتراكى، حين التقى شعراوى بوالدى وسأله لماذا لم ينضم للتنظيم الطليعى بينما انضم أغلب التقدميين إليه؟ فقال له والدى: «الحقيقة يا شعراوى بك أنا فى عيب وحش قوى.. ما تتبلش فى بقى فولة.. وإذا حضرت اجتماعًا حزبيًا قد أخرج منه وأفشى أسراره.. فيلقون القبض عليكم»!! قهقه وزير الداخلية وقد أدرك أن الخميسى يروغ منه. ومع انقضاء ٣٦ عامًا على رحيل والدى لكنى لا أذكره إلا ضاحكًا، وقويًا، وحين كان فى المعتقل عام ١٩٥٤ بعد دعوته مع طه حسين لعودة الجيش إلى الثكنات، أرسل من المعتقل خطابًا لأمى، ما زال عندى، يحذرها فيه قائلًا: «إياك وأن يحزن الأطفال.. الحزن يهدم النفوس.. شجعيهم واجعليهم يضحكون، وقولى لهم إننى مسافر وقريبًا أعود». وقد سافرت معه من مصر إلى لبنان بالباخرة عام ١٩٧٢، وعلى سطح الباخرة ونحن فى عرض البحر اكتشفت أنه ليس معه مليم واحد من أى عملة فى العالم. اكتشفت ذلك حين قلت له: دعنا نشرب شاى من بوفيه الباخرة، فأقسم لى أنه ليس بجيبه مليم واحد. نظرت إليه مذهولًا وصناديق ثيابنا حولنا، أفكر كيف إذن سنهبط بيروت؟ ومن أين سنعيش هناك؟ لكنه ضحك وقال: لا تحمل همًا. 

ومع أن كل الكتاب الكبار الذين عاصروه وكتبوا عنه قد لمسوا هذا الجانب أو ذاك من شخصيته الفريدة، إلا أنه كان عشرة أو عشرين فنانًا فى شخص واحد، وأذكر أنه فى حديث له مع التليفزيون سألته المذيعة عن أنشطته المتعددة، فى القصة والمسرح والسينما والإذاعة والصحافة والنقد والتمثيل والإخراج والتأليف الموسيقى، فضحك قائلًا لها: «أنا أصلى رجل كثير». رحل ذلك الرجل «الكثير» الذى لا أذكره إلا مقترنًا بالبهجة والأمل والقوة وخيالاته الساحرة الجميلة.