رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يحيى حقى يكتب: أشجان عضو منتسب.. سيرة ذاتية

الكاتب الكبير الراحل
الكاتب الكبير الراحل يحيى حقى

«عمرى القصير فى الفن ليس إلا لحظات خاطفة عابرة أتاحت لى أن أشهد فى نفسى تحولًا عجيبًا»، هكذا يصف الكاتب الكبير الراحل يحيى حقى تجربته فى عالم الكتابة التى امتدت لنحو ٥٠ عامًا. فالرجل الذى ملأ الدنيا إبداعًا وجمالًا، وكان ملء السمع والصبر، لا يرى سنوات عطائه إلا لحظات قليلة للغاية.

فى مقدمة كتابه «قنديل أم هاشم»، يسترسل «حقى» فى الحديث عن رؤيته للفن، وأصداء الكتابة والإبداع على حياته ونفسه وأفكاره، وكيف أصبح يرى الكون من منظور فنى ويرصد عناصره من زوايا أكثر رحابة وانفتاحًا، مسترسلًا كذلك فى الحديث عن شجونه الذاتية وتصوراته عن البشر.

واحتفاءً بالدور التنويرى لكاتبنا الراحل، تنشر «الدستور» نص مقدمة كتابه «قنديل أم هاشم»، خلال السطور التالية.

«مطلوب منى أن أكتب هنا سيرتى الذاتية. التحدث عن النفس! يا له من لذة ساحرة، تواضعها زائف.. يا له من ملل فظيع يستحب معه الانتحار.. أغلب أحاديثنا- بعد كلمتين ليس غير- تتحول من الموضوع- أيًا كان- إلى الذات: الشكوى أو الافتخار لكنى أحسب أنهما ينبعان من نزعة واحدة متكتمة: استجداء تبرير الوجود».

وأنت معذور حين تقرأ هذه السيرة بعد قليل إذا حكمت - ولا أقول ظننت- أننى أكتبها قد تزينت وجلست أمام مرآة أتغزل، «كم أود أن يكون بين الاختبارات النفسية دراسة مجاوبة الشخص لصورته فى المرآة العجب، عدم التصديق، الافتنان، النفور) ولكن ثق - وهذا عشمى فيك إن كنت لا تعرفنى - أن شيئًا من هذا لم يحدث. أنقذتنى حيلة بسيطة، التجأت إلى مقص قطع لى فقرات من أحاديث عديدة ظهرت لى فى الصحف والمجلات «يملأون فراغها على قفانا بالمجان» ولصقت بعضها إلى بعض، مضيفًا هنا، منقحًا هناك.... 

ومع ذلك فصورتى فى المرآة هى جلسة أمام فوتوغرافى محترف يسلط على أضواء أعشى لها، وأعوج رقبتى لكى تعتدل فى نظره، وأبتسم بلا سبب، صورتى فى هذه الأحاديث مأخوذة خطفًا - أحيانًا وأنا فى مباذلى، فهى أصدق، وهكذا أبرأت ذمتى منك وزيادة.

ولكن هذه السيرة ستقيس عمرى بالسنين والأيام، وما هو بالقليل.. طظ! لا قياس عندى لعمرى إلا بهذه اللحظات القليلة النادرة التى نبض بها عرق فى روحى مهتزًا بجذل قدسى عند التقائى بالفن، متلقيًا ومعبرًا. قمة هذا الجذل عند التقائى بالشعر والموسيقى - على قدم المساواة- ثم النحت، ثم التصوير، ثم العمارة. لست أدرى أين أضع بينها لقائى برشاقة الإنسان فى فن الباليه.

يعلو كل هذا جذل اللقاء بفن أعظم وأجل: فن الطبيعة وجمالها، لو أفضت فيه لاحتجت أن أكتب مجلدًا ضخمًا.. لحظات قليلة نادرة، ولكنى عرفت بفضلها طعم السعادة وحمدت ربى عليها حمدًا طويلًا لا ينقطع.

ولا ولوج إلى ساحة السعادة - فى اعتقادى- إلا من أحد أبواب ثلاثة: الإيمان والفن والحب، لا شىء بشع بها مثل هذا الخشوع الذى أراه فى المعابد. وإذا كان الحب هو أكثرها التصاقًا بالصلصال والحمأ المسنون، وبالزمان والمكان والصدف، فإنه شرط ارتفاع الإنسان عن مرتبة الحيوان، وكان الإيمان أكثرها طموحًا؛ لأنه يطلب الله لا الناس، الخلود فى الآخرة لا العبور فى الدنيا، فسيبقى الفن وسطًا جامعًا للطرفين، يا لها من منزلة!

وقد عرفت مقامى مُذ وعيتُ هذا العرق الذى ينبضُ فى روحى. لستُ من الملهمين، ولا لى صاحب وادى عبقر. الإلهام نور ساطع كاشف لجميع آفاق الروح والعالم. يهبط على من يختاره، دون سبب ظاهر، فيتلقَّاهُ بغير سعى منه إليه. ما أبعد الفرق بين هذا النور وبين أزيز الشرارة الخاطفة التى أحس بها وهى تتقد أحيانًا، ثم تنطفئ وتتركنى فى الشقاء حتى يتفصَّد العرق من جبينى، ومن أجل أن أصل إلى هذا الكثير الذى رأيته بل حدسته من بعيد، كأننى أنحتُ فى صخر.. وحتم على أن أزيل عن العمل كل آثار العرق، ليظن الناس أنها ولادة سهلة.

إننى ممن يدخلون معبد الفن من أشد أبوابه ضيقًا وعسرًا، وليست هذه الشرارة بزوارة، لهذا كنت من المقلين، أسمعهم يعيبون هذا على، كأنهم يطلبون منى أن أكون من المدلسين يكفينى الصدق.

ومع هذا فإن عمرى القصير فى الفن- إنه مجموع لحظات خاطفة عابرة- قد جاوز نصف قرن، وأحمد الله على ذلك، لأن هذا الطول أتاح لى أن أشهد فى نفسى تحولًا عجيبًا، ولولاه لما شهدته.

كانت الذات تندلق على الموضوع فى مطلع هذا العمر. هذا الاندلاق سهل، وله فرحة واسترضاء للأنانية. وكنت أشعر بشىء من الضيق دون أن أعرف سببه على وجه اليقين.. سببه أننى كنت خاضعًا لبداية لا بد منها. إنها مرحلة ستمر، ولكن متى وكيف.. إنها حموة الموسى!

وبدأ التحول شيئًا فشيئًا حتى تم أواخر عمرى، أصبحت الآن أحس إحساسًا واضحًا قويًا أننى لست إلا بوقًا، لا قيمة له فى ذاته، ولكن قيمته أن إرادة لا ندرى سرها قد اختارته لكى تهمس منه - على تقطع- سليقة اللغة والتراث، مختلطة بأشجان الإنسان منذ أعز أجدادى -ساكن الكهوف- حتى اليوم.. أشجان الإنسان - أولًا- فى علاقة روحه بربه، نسيانه لها- كما قال هو فى كتابه- أشد عذاب تتوجع له وتئن.. بالكون: أين وكيف ينسلك فى نظامه، يدخل خانته.. بالقدر بين الثورة عليه والرضاء به..

ينعكس هذا كله على المجتمع المتقلب ليستطيع أن ينطق بلسان إنسان ويجد من يفهمه فليس من المفارقات قولى: إن الفن للفن هو المدخل الوحيد للفن من أجل الحياة. ورغم أن هذا البوق قد عزلنى فقد استطعت أن أعرض لذة البوح بلذة المراقبة، كأننى شاهد واقف على جنب، يطل على شىء عجيب يحدث أمامه، ويحاول فهم سره، ثم لا ينقضى عجبه منه الفن بهذا المعنى هو النغمة لا الوتر، الزهرة لا البستانى، النشوة لا قنينة ألحان.

ولو بقيت وحدى لزهقت روحى، أو جفت وذرتها الرياح، لا بد للنحلة من خلية. وجدت الصحبة والراحة والاطمئنان، كما وجدت المدرسة التى أستكمل فيها تعليمى حين قدمت ما رضيت عنه من أوراقى إلى نادٍ عجيب. إنه وقف على من لمسهم الفن بعصاه السحرية، أيًا كان عصره أو لغته أو دينه أو جنسه أو لونه، والرجال والنساء سواسية- هم داخله أحياء، بينهم تواصل الأخوة وتراسل لا ينقطع، فسمح لى أن أنضم إليه عضوًا منتسبًا! 

عرفت أننى - حتى قبل انضمامى إليه- كنت أكتب لهم. هم الذين يطلون علىّ من وراء كتفى وأنا أكتب، أصبح رضاؤهم هو مطلبى الوحيد. لا تخلو ورقة لى من أثر خاف لبصماتهم، أو من إشارة مستترة إلى أعمالهم فلغة أهل هذا النادى صريحة «وشفرة» فى آنٍ واحد، ولا تجد حريتها إلا فى استعبادهم لها.

وأول مادة فى قانون هذا النادى هى توقير الكلمة، سواء أكانت من حروف أم أنغام أم حجر أم لون.

لا طرد من هذا النادى لجريمة سوى جريمة العبث بكرامة هذه الكلمة.. فماذا يبقى لهم؟ ليس لهم جزاء سواها.

 

كان علينا فى فن القصة أن نفك مخالب شيخ عنيد شحيح، حريص على ما له أشد الحرص، تشتد قبضته على أسلوب المقامات، أسلوب الوعظ والإرشاد والخطابة أسلوب الزخارف والبهرجة اللفظية والمترادفات، أسلوب المقدمات الطويلة والخواتيم الرامية إلى مصمصة الشفاة، أسلوب الواوات والفاءات والثمات والمعذلكات والرغمذلكات واللاجرمات والبيدأنات، واللاسيمات، أسلوب الحدوتة التى لا يقصد بها إلا التسلية.

كنا نريد أن ننتزع من قبضة هذا الشيخ أسلوبًا يصلح للقصة الحديثة كما وردت لنا من أوروبا، شرقها وغربها، ولا أتحول عن اعتقادى بأن كل تطور أدبى هو فى المقام الأول تطور أسلوب.

كان علينا أن نضرب على يد من يحكى لنا قضية جنائية، ويقول اكتبوها فهى قصة جميلة حقًا، ونقول له: القصة شىء مختلف أشد الاختلاف، وكان علينا آخر الأمر أن يقبل الناس ادعاء إنسان ما أن له الحق فى إعادة صياغة الواقع، حتى ولو وقف عند هذا الحد ولم يضف قوله: إعادة صياغة بحرية لها أخلاقياتها التى قد تعد عند الناس زيفًا أو اجتراء، كان من العسير أن يتقبل الناس هذا، وأعترف لك أننى إلى اليوم أنتفض من شدة الضيق والكرب حين أقرأ: الفنان الخالق، فلان خلق هذا العمل. إنى لا أعترف بخالق إلا بالله وحده، أحب أن أكتب بدلها: هذا هو ابتكار الفنان، الفنان المبتكر، «لعل هذا هو سر موقف المسلمين- ولا أقول الإسلام- من النحت والتصوير».

وكان لا بد لنا أن نعمل حتى يكف الناس عن سؤالنا وما المقصود من هذه القصة؟ تلك العبارة التى كانت ترد بعد ختام كل حكاية فى كتاب القراءة والمطالعة، فالمقصود من حكاية أن عدوًا عاقلًا خير من صديق جاهل، وأن العاقل من اتعظ بغيره، والجاهل من اتعظ بنفسه.

ومما زاد من المشقة والعسر فى الخطوات الأولى أن الفصحى لم تكن قد أفلحت بعد فى أن تسمى لنا أشياء نلمسها بأيدينا أو أفكارًا مجردة تطوف بعقولنا، أو ظلال عواطف تلم بقلوبنا، وإذا صدقنا عددًا غير قليل من المستشرقين لاعتقدنا أن هذه المشقة لم تكن عالقة بمرحلة البداية وحدها، بل هى ممتدة لأنها ناجمة من خصائص الأسلوب العربى فهم يصفونه بأنه أسلوب يسير على خط أفقى مستقيم، سطح لا عمق، لا يتركب منه بناء ينمو شيئًا فشيئًا، إنه دلق البضاعة كلها دفعة واحدة أمام الزبون، إنه كما فى مآدبنا- وضع جميع الأطباق على المائدة فى رتل متلاصق قبل جلوس الضيوف، فالذى ينبغى أن يؤكل ساخنًا يؤكل باردًا، ويزعمون أن أسلوب اللغات الغربية- وبالأخص الإنجليزية والفرنسية- هو أسلوب يشبه عمل فنّان يرسم لوحة، إنه يبنيها خطًا خطًا ولمسة بعد لمسة من فرشاته، ناظرًا طوال الوقت إلى التناسب والشكل التركيبى للوحة وموضع كل خط وكل لمسة فيه، بل إنهم يذهبون إلى حد تفضيل الجملة الاسمية- وهى من خصائص لغاتهم- على الجملة الفعلية وهى من خصائص العربية.

وكل هذا كذب فى كذب وحماقة ليس بعدها حماقة، فليست اللغة كائنًا مستقلًا عن الفكر الذى يقودها، فحين يلزم الفكر المستخدم للعربية ما ينبغى لكل فكر، من وضوح وبصر وجد وعمق، فإن لغتنا الفصحى لن تكون أقل قدرة على الأداء من لغات هؤلاء المستشرقين الأجلاء، فالعيب ليس فى اللغة، بل فينا نحن أنفسنا. 

ولكن ينبغى لى أن أعترف وأقرر أن مشقة الخطوات الأولى فى انتزاع أسلوب القصة من أسلوب المقامات تمثلت أكثر ما تمثلت لدى من كان يقرأ الآداب الغربية بلغتها غير مكثف بالترجمات إن وجدت، فإن الذى كان يراد اقتباسه من الغرب لا فن القصة وحده بل أسلوبها وصياغتها، وتستطيع إلى اليوم أن تلحظ الفرق بين أسلوب قصصى له اطلاع على الآداب الغربية بلغاتها، وأسلوب قصصى لا يعرف غير العربية.

وقد داعبتنا اللغة العامية أول الأمر فهممنا أن نجرى إليها- لا هربًا من مشقة الفصحى فحسب- بل لأننا كنا نتلهف أن يكون الأدب صادق التعبير عن المجتمع ولكننا تحولنا- كأنها بدافع غريزى- إلى الفصحى، لأنها هى الأقدر على بلوغ المستويات الرفيعة، على ربط الماضى بالحاضر، على توحيد الأمة العربية. ومن الممتع أن ندرس. كيف ساير تأثير العروبة فى الأدب المصرى تأثيرها فى سياستنا القومية.

ومما زاد من المشقة والعسر فى الخطوات الأولى أننا- نحن القصصيين- كنا نعيش فى شبه عزلة عن أبناء الفنون الأخرى، مع أن المشكلة عندنا جميعا واحدة، ولا بد أن ينتفع بعضنا بتجارب بعض، لكى يتساوى الخطر إلى الأمام على الأقل فى جميع ميادين الفن.

بسبب هذه العزلة كان لا بدَّ لعملنا أن يكون هشًا وفقيرًا مهما ملك من ماله الخاص. «لهذا الفقر أسباب أخرى سأعرضها فيما بعد». أقول: كنا فى شبه عزلة، إذ كانت لنا اتصالات لم تتصف بالنشاط مع أبناء الفنون الأخرى، نعد أنفسنا زمرة واحدة تضمنا وتضم مختار وسيد درويش ويوسف كامل وأحمد صبرى.. وعددًا آخر غيرهم.

والعجيب أن هذه العزلة ممتدة حتى اليوم، بل يخيل لى أنها تفاقمت وكان المنتظر وقد زاد عدد المشتغلين بالفنون اليوم عن عددهم فى أيامنا الأولى أن تعمل هذه الزيادة على تيسير القضاء على تلك العزلة، فإذا بها تزيدها مشقة، فلا لقاء فى زحام شديد.

 

لم نكد نضع أقدامنا على أول الطريق حتى طارت بنا آمالنا، كأن القصة وقد سكتت لاقتحامنا لحماها، فأردنا أيضًا أن ندخلها بحمارنا، لم نكتف بالاقتضاء بالقصة المستوردة بل أصبحنا نطمع فى أن ندخل تجديدًا على شكلها داخل إطارها الذى عرفناه لها، أى دون أن نخرج عنه، فكان منا من سبق إلى كسر الترتيب الزمنى ولجأ إلى «الفلاش باك». أو من زعم أنه كتب قصة لها شكل دائرى، أى تنتهى من حيث بدأت... إلخ الخ.

ثم قفزنا بعد ذلك سريعًا إلى مطلب أهم أن تكون لنا قصة مصرية لحمًا ودمًا، تنبع من خصائصنا وتدل علينا.. لكننا لم نستطع أن نتقدم فى هذا الطريق «لذات الأسباب التى وعدتك أن أعرض لها فيما بعد» وكان لا بد لهذا المطلب أن ينتظر حتى تمد الفنون الشعبية رواقها فى ظل الاشتراكية، وتمثل تحقيق هذا المطلب أكثر ما تمثل فى المسرح. يجب أن أعترف أن أغلب المنجزات فى هذا الميدان غير مقنعة، وتبدو أحيانًا مضحكة. إن اعتناقنا للاشتراكية لم يفرض أن يندرج أدبنا وآداب الأمم الاشتراكية فى وحدة واحدة، ناجمة من وحدة المذهب، أو وحدة المجتمع الذى قام أو يراد إقامته، ولكننا قلنا إن اشتراكيتنا مصرية ليست صورة طبق الأصل من نظام اشتراكى أجنبى. لذلك ساغ حتى فى ظل الاشتراكية السعى إلى ظهور أدب محلى صميم.

وبجانب هذا التيار تيار آخر، تيار ثقافة مترفة تقول بعالمية الفن دون نظر إلى انقسام هذا العالم إلى اشتراكية ورأسمالية، فالفن عنده جوهر واحد لا يقبل الانقسام، وله هدف واحد لا يتعدد.

وقد حاولنا عقد صلح بين التيارين فقلنا: إن كان الفن نهرًا عظيما فلأنما له روافد عديدة، كل منها له ذاتيته وخصوصيته، ويجب أن نعمل وفقًا لهذا الفهم.

لكى أشرح الأسباب الأخرى لهذا الفقر الفنى الذى عانيناه فى مراحلنا الأولى دعنى ألجأ إلى التشبيه فإنى من المغرمين به، حصيرة الصلاة عندنا، قد تعد نقوشها- مهما بلغت بساطتها- تعبيرًا عن ذوق فتى جميل وأصيل، ولكن أقلبها وتأملها، ستجدها مجدولة من ساقين لا غير من سيقان القش، حتى بالعرض وحده دون الطول، ارتفاع سطحها عن الأرض يحدده غلظ الساق وحده، حقًّا لها ظاهر وباطن ولكن ليس لها عمق. قارن بها سجادة عجمية، دعك من فنون سطحها - بهرجة ووقار وأصالة مولودة فى عصر حدیث- أقلبها وتأملها، ستجدها سيمفونية من خيوط متشابكة من عقد عديدة، وكلما زادت العقد زادت القيمة لها دون الحصيرة عمق وتشابك.

كان المجتمع الذى بدأنا كتابة القصة فيه يشبه هذه الحصيرة، فكان لا بد للقصة أن تكون مثلها فى البساطة والسطحية، وكيف تريد لها أن تثرى وتتعمق دون أن يكون بجانبها حركة نشيطة فى الفلسفة فى الاجتهاد الدينى، فى الدراسات التاريخية واللغوية - مجتمع بسيط لا انكشاف بعد فيه لفروق بليغة ومصادمات بين المصالح، كان هناك جوار لا اشتباك.

إن إثراء نسيج المجتمع فى الحضارة الغربية ليس سببه تشابك خيوطه فحسب، بل لأن هذا التشابك يجد أسانيده فى مقولات الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد، ولكن المجتمع الغربى يشترى هذا الثراء الآن بثمن باهظ هو تفتت الشعب إلى خلايا مغلقة على ذواتها، لا تدافع إلا عن مصلحتها هى أولًا، فلنحذر هذا.

وقد تجلى هذا الخلاف بين حصيرة الصلاة والسجادة أكثر ما تجلى فى الترجمة فهى لیست نقل لفظ إلى لفظ، وحتى لو كان الأمر كذلك ففى اللغات التى نترجم عنها تنشأ كل يوم تقريبًا ألفاظ جديدة ليس لها مقابل عندنا، إنها ليست ألفاظًا مبتكرة، فقد انقطع عهد الابتكار فى اللغة، بل هى ألفاظ مألوفة ولكن خصصت لها معانٍ جديدة لم تكن لها. من قبل، فاستقلت بها دون معانيها السابقة، أو مع معانيها السابقة، وأصبحت الألفاظ غير معبرة عن معانيها فحسب، بل عن علاقات يعكسها نسيج المجتمع.. فلا يمكن أن نترجم سجادة عجمية إلى حصيرة صلاة.

ولا ينطبق هذا الكلام بطبيعة الحال على الترجمة فى ميدان العلوم، ولكن أصدق مثال عليه تجده فى المسرح، وهو أكثر الفنون عكسًا للمجتمع إذ يتكلم بلغته. ما أكثر ازدحام مكتبتنا العربية بمسرحيات مترجمة، لماذا لا نعترف أن العديد منها غير مفهوم بل بعضها يدعو إلى الضحك.

لا شك أن مجتمعنا يتحول بسرعة من هذه الحصيرة إلى تلك السجادة.. ومع انتشار التعليم ومحو الأمية سيبرأ إنتاجنا الأدبى من الضحالة والسطحية، ومن هذا القدر الهائل من البديهيات، وكل بديهية لها رنين الحكمة.

كل هذا ولم أقل لك كلمة واحدة عن سيرتى وحياتى.. إليك بعضًا مما تريد.