رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عيوب المصريين

لأسباب مفهومة ومعروفة فإننا نركز على مميزات الشخصية المصرية دون عيوبها.. أحد هذه الأسباب أننا نواجه منافسات وعداوات من دول مجاورة تحاول هزيمتنا والتقليل من حجمنا.. وأحد هذه الأسباب أننا واجهنا قوى كبرى فى الخمسينيات والستينيات، وبالتالى كان لا بد أن نذكّر أنفسنا أننا كبار حتى نصمد فى مواجهتها.. وأحد هذه الأسباب أيضًا أننا تعرضنا لهزيمة قاسية فى ١٩٦٧ تركت جرحنا مفتوحًا.. ولم يكن من المنطقى أن نضع مزيدًا من الملح على الجرح فنتحدث عن عيوبنا القومية فى وقت نحتاج فيه لأن نشد ظهرنا ونقف على أقدامنا من جديد.. ومن هذه الأسباب أيضًا أن حظنا من الثروة والتنمية كان عاثرًا وتجاربنا فى النهضة محكومة بالفشل ونصيبنا من ثروة العالم قليلًا، وبالتالى كان علينا أن نواجه الإحباط العام بمزيد من تمجيد الذات والتذكير بالأجداد وبأزمنة النهضة القريبة منها والبعيد.. ثم أضيف لهذه الأسباب سبب آخر ظهر فى العشرين عامًا الأخيرة، وهو ظهور فئة تشيع الإحساس بالدونية بين الناس، وتشعر بالانسحاق تجاه الآخرين.. ولا يفرق المنتسبون لهذه الطائفة الدونية بين ما تكرهه فى مصر وبين كراهية مصر نفسها.. وبين الاعتراض على الإدارة والاعتراض على الوطن.. وبالتالى كان على من يحبون وطنهم أن يبالغوا فى إظهار مزايا الذات القومية والتذكير بقيمة مصر بعد فترة سيولة ظهر فيها عملاء فى صورة أبطال وأذناب للغرب فى صورة مخلصين.. وسماسرة أوطان فى صورة معارضين ليبراليين.. ولكنى أظن أن الوقت قد حان لنظرة مراجعة شاملة ننظر فيها لأنفسنا ولتاريخنا نظرة فاحصة نقف فيها على عيوبنا كما نحصى مميزاتنا.. ونحاسب أنفسنا على أخطائنا كما نشكر أنفسنا على إنجازاتنا عبر التاريخ.. ذلك أننا لن نحقق النهضة دون مراجعة عيوبنا الأصيلة والوافدة.. ودون أن نعالجها كما يعالج المريض مرضًا ألمّ به ويدرك أنه سيقوده إلى حتفه إذا ظل دون علاج.. ولا مانع أن نحترز لأنفسنا فنقول إن كثيرًا من هذه العيوب وافد علينا وغريب على أرضنا وأنه نبت شيطانى ظهر فى العقود الأخيرة من عمرنا، والتى نجمع كلنا تقريبًا على أنها كانت عقود انحطاط وتراجع حضارى نما فيها التطرف والتخلف والعشوائية والفهلوة والاتكالية والنفعية حتى قيل إن رئيس الدولة وصفها بأنها «خرابة» وقال لمن سأله عن صحة نيته فى توريث نجله للحكم مستنكرًا «وهل أورث ابنى خرابة»؟؟.. بغض النظر عن مدى صحة هذا الموقف من عدمه.. فقد كان ثمة يقين بأننا نتراجع للخلف وأننا فى حاجة إلى التغيير وقاد هذا الناس إلى الخروج فى يناير ٢٠١١ سعيًا للأفضل.. لكنهم أراقوا نصف الكوب الملآن بدلًا من ملء النصف الفارغ.. واستولى الإرهابيون على الحكم وطردهم المصريون بعد مواجهات صعبة وقاسية تلتها موجات إرهاب سلم الله مصر من آثارها بفضل شعبها وجيشها وهى حقيقة لا ينكرها إلا مكابر أو مدعٍ للمعارضة وما أكثر المدعين فى هذه الأيام.. المهم أننا الآن وبعد إنجازات مادية على الأرض.. تشكل «جسد» النهضة المصرية.. فى حاجة لـ«روح» للنهضة تحل داخل هذا الجسد.. هذه الروح هى التى ستسير هذا الجسد وتهبه قوته وقدرته على مواجهة المصاعب.. تمامًا كما أن القوة الروحية للرهبان البوذيين هى التى تمنحهم القدرة على السير على النيران دون أن تحترق جلودهم.. بدون «روح النهضة المصرية» لن نستطيع أن نواصل ونتحدى الصعاب وننطلق بـ«جسد» النهضة المصرية المتمثل فى المدن والمزارع والطرق والموانئ والمصانع التى بنيناها بالفعل.. وصارت أمرًا واقعًا رغم كل الصعاب والتحديات ومحاولات التعطيل والتثبيط.. ومطالبة مصر بأن تتوقف عن الأحلام الكبيرة، لأن أحلامها مخيفة للآخرين مهما كانت حسنة النية.. إطلاق روح النهضة هذه يقتضى منا أن نتحدث بصراحة شديدة عن «عيوب الشخصية المصرية» لأن هذه العيوب هى أكياس الرمل التى تقيد أقدامنا وتمنعنا من الانطلاق وتحقيق التقدم.. لنعود مرة أخرى إلى لوم الذات والآخرين والتفكير فى تغيير نظام الحكم مرة أخرى ثم مرة أخرى ثم مرة أخرى... إلخ وهكذا فى دائرة جهنمية وعبثية أيضًا.. إننا يجب أن نسأل أنفسنا هل نحن كشعب نفرح بنجاح الآخرين منا؟ هل نحتضن قصص النجاح ونشجعها وننميها؟ هل نفرح للتقدم الذى يحققه أقراننا وزملاؤنا مثلًا؟ أم نشعر بالغيرة ونفكر أن عليهم أن يفشلوا حتى يصبح الجميع متساوين فى الفشل.. بدلًا من أن ننجح نحن حتى يصبح الجميع متساوين فى النجاح؟.. هل رعى كل مسئول فى مصر خلال الخمسين عامًا الماضية الله فى مسئوليته؟ هل اهتم باكتشاف الشباب الموهوب فى مؤسسته وتدعيمه؟ أم أن معظم المديرين والمسئولين والمثقفين لدينا تخصصوا فى قتل المواهب وتشويه الناجحين وتطفيش الموهوبين والدس للعناصر الواعدة التى يظن المسئول أنها ستنافسه على منصبه وكأنه سيخلد فى الحياة إلى أبد الدهر مخالفًا سنة الله فى خلقه.. وإذا لم يكن الأمر كذلك فلماذا تخلو معظم مؤسساتنا المدنية من الصف الثانى والثالث.. ولماذا تراجعت كفاءات الأجيال الأحدث إلى درجة كبيرة.. ولماذا تدهورت شركات القطاع العام لدينا وباتت تحقق خسائر بالمليارات مع أنها مؤهلة لتحقيق مكاسب بعشرات المليارات.. أليس هذا بسبب فساد المديرين.. وتعيين غير الأكفاء والمجاملات فى العمل.. وعدم نقل الخبرات من الأقدم إلى الأحدث.. وهذه كلها من صنوف الفساد وعلاماته.. فالفساد ليس هو سرقة الأموال من الخزائن فقط.. ولكنه أصناف شتى منها كل ما سبق ذكره.. فإذا اتفقنا جميعًا على أن هذا العيب الخطير بات من عيوب الشخصية المصرية فى العقود الأخيرة.. فكيف سنتقدم؟ وكيف سنحقق النجاح؟ وكيف سنحقق الرخاء الذى يحلم به الجميع ويلومون الحكومات المختلفة على عدم تحقيقه؟ إن هذا عيب واحد من جملة عيوب يمكن أن نفصلها للأسف فى عشرات المقالات والكتب.. لكنه للأسف عيب قاتل.. عيب رئيسى وليس جانبيًا.. وأثره منعكس على كل أحوالنا ولو تخيلنا عكس ذلك.. ولو ألقينا باللوم على كل أنظمة الحكم من عصر مينا وحتى الآن.. ولو وجهنا السباب لكل رؤساء الوزارات من نوبار باشا وحتى الدكتور مصطفى مدبولى.. فإن هذا لن يغير الحقيقة وهى أن علينا أن نتخلص من عيوبنا التى يعانى منها الحاكم والمحكوم والوزير والغفير والراعى والرعية.. وأن ندرك أن هذه أول خطوة فى طريق النهضة وبدونها سنظل محلك سر.. كما هو الحال منذ عقود.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.