رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل تقتل الذقون الأقلام؟

وقائع تكفير إبراهيم عبد المجيد وسمير سرحان وعلاقة الفن بما وقع بالبلاد من خراب فكرى 

 

طلبت من الأديب والناقد الكبير إبراهيم عبد المجيد أن يقص عليّ ما عاشه، وورد عليه وما كان في زمان من تاريخ كاتب شاب لم يكتب في حياته إلا ثلاثة أعمال، واتهم بالإلحاد، وكاد يهدر دمه، وكان له مما في البلاد من خراب فكري ودمار عقلي أنداد، وكأنه كان جزءًا من سلسلة ممتدة من الآلام، سلسلة توضح ثنائية الفنان/ المجتمع، وما طرأ بالمجتمع المصري، سنذكر بعضا منها منطلقين من "الصقار"، الصادرة عام 1996، والتي يعيش كاتبها سمير غريب إلى الآن في فرنسا، بعد سفره إليها بعد ما حدث، إذ كان متزوجًا من فرنسية فأتاح له الزواج السفر والإقامة هناك.

وكأن المجتمع المصري قاطن بنفسه وعقله تأثير السنوات؛ بل العقود والقرون. 

سيد قطب وحسن البنا ومن بعدهما "دعاة عصر السادات"، وأبرزهم محمد متولي الشعراوي وعبد الحميد كشك ومحمد الغزالي ومحمود مزروعة، وحتى من ظهروا بعدهم، بداية من دعاة الرأسمالية حتى دعاة "السوشيال الميديا" لوثوا رؤية المصريين للفن والحياة؛ فالفن بوابة الحياة.  

وهذا الصدأ الرابض بالعقول ما زال قائما. نسمع يومياً أحاديث عن حرمانية الفن، والسينما النظيفة، والأدب النظيف، ووجوب إهدار دم فنانين ومفكرين واتهامهم بالإلحاد، وآخرهم الأديب السير البريطاني الهندي سلمان رشدي، والذي تعرض لمحاولة اغتيال أسفرت عن فقدانه عينه، كما فقدت الشعوب عينها إثر رؤية متشددة ذات أهداف عدة للأديان، ومن نقطة سلمان رشدي يجب رؤية التاريخ الممتد لمعاناة الفن تجاه المجتمع. 

"الصقار"  القضية الأقل شيوعاً

بعد تولي الأديب المصري إبراهيم عبد المجيد رئاسة تحرير مشروع أدبي جديد يصدر عن "الهيئة العامة المصرية للكتاب" عام 1996 يقرر أن يخلد اسم التجريب والشباب، فيكرس السلسلة لتخليد التجريب والأقلام الشابة تحت عنوان "كتابات جديدة"، ويهتم من خلالها بالنصوص والكتاب المجربين من الشباب، والسلسلة ما زالت مستمرة حتى الآن تحت رئاسة تحرير الكاتب والناقد المصري منير عتيبة.

ولأن إصدارات الهيئة كانت تصدر وقتها كثيراً، فلم يقدر "عبد المجيد" ومعاونوه، فتحي عبد الله "مدير التحرير" وأيمن حمدي، على إصدار أعمال شهريا، فانتظروا حتى اكتملت سبعة نصوص ونشروا، وكان منها رواية "الصقار" لسمير غريب علي، وهي رواية يقوم بناؤها الروائي على التجريب ويتأثر بالبنية الشعرية. رواية تشيد نظرة فلسفية للموت والحياة والجنس والحب، وتخلق نظرة للمجتمع والدين والذكورية الشرقية والرأسمالية وقهر المرأة وغيرها، وكأن الكاتب تطبيق أصيل لعلاقة الفنان، والإنسان ككل، بالبيئة الجغرافية والمتغيرات السياسية، فانطلقت الرواية من الآلام المحلية والفقر في السودان إلى النظرة للفلسفة وثنائياتها. 

هذه هي الرواية التي كانت سبباً في هجوم فهمي هويدي الشديد عليها في جريدة "الأهرام"، وكانت سبباً للشروع في تكفير إبراهيم عبد المجيد وسمير سرحان، فقد اجتمعت لجنة من علماء الأزهر لتكفير حسن حنفي، وكان مقررا لها الاجتماع في المساء لتكفير إبراهيم عبد المجيد وسمير غريب علي وسمير سرحان، وهو ما تأكد منه إبراهيم عبد المجيد عن طريق كلمات اتجهت من فم الصحفي الشاب وقتها ماهر حسن، الذي كان قد قابله عبد المجيد في اليوم السابق في قطار عائدا من الإسكندرية، لكن تم حل اللجنة قبل اجتماع المساء. 

كان إبراهيم عبد المجيد وقتها في زيارة لجريدة "الدستور" في مقرها القديم قرب ضريح سعد زغلول، وتأكد "عبد المجيد" من الخبر من إبراهيم عيسى، الذي كان يرأس تحرير جريدة "الدستور" وقتها، فقد وصل الخبر إليهم.

كما حدث مع فرج فودة، الذي اغتيل عام 1992 بعد عقد مناظرة له بمعرض الكتاب ضد محمد الغزالي ومرشد الإخوان المسلمين، وكان في فريقه محمد خلف الله.  

مناظرة شهيرة لم تسع القاعة التي تمت بها في معرض القاهرة الدولي للكتاب أن تستوعب قدر من حضروها، سواء من الإخوان المسلمين وكانوا هم الأكثر أو من الآخرين. قدر فرج فودة على استعراض آرائه في الحل من أزمات الدولة، فظهر بعدها الشيخ محمد الغزالي في أحد البرامج التليفزيونية وأعلن عن أن فرج فودة دمه حلال، وأطلق محمود مزروعة فتوى له على إهدار دمه، فاغتيل أثناء خروجه من "الجمعية المصرية للتنوير"، التي أسسها في منطقة "مصر الجديدة"، وفي المحاكمة ضد من قتلوه أقر قاتله أبو العلا عبد ربه أنه لم يقرأ له، ولكنه ينفذ ما أمر به العلماء قائلا: 

"الاقتصاص لدين لله تعالى؛ لأن فرج فودة مرتد، وقد أفتى العلماء بذلك وقتله حكم شرعى صحيح" وفقا لتفكيره المتطرف. 

مثلما حدث مع من حاول اغتيال صاحب نوبل نجيب محفوظ، وهو ما يؤكد الضمير الجمعي للشعب، وضرورة التأريخ الاجتماعي لمعرفة ما طرأ عليه، وإجابة ولو جزء من سؤال: "ماذا حدث للمصريين؟".

هل دعاة عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات بمحاولاتهم لمحو الناصرية، واكتساب الشهرة، والدفاع عن إلههم محمد أنور السادات، وقتل مبادئ الدين وسماحته بإحياء مبادئ الإرهاب والتشدد هم من قتلوا عقول المصريين، وجعلوهم يسيرون بمبدأ "أمير الجماعة"، حيث هو أمير يسير الكل وراءه دون النظر والتدبر، ويفكرون بالنقل لا العقل. 

لماذا شمت المصريون بعد محاولة اغتيال سلمان رشدي، ونجد من يقول عن نجيب محفوظ ملحد، ونجد من يأمر بقتل كل من هو غير مسلم؟. لماذا نرى دعاة "السوشيال الميديا"، الذين هم امتداد لمن سبقهم، وتمثيل للفكر الجمعي للمجتمع؟. بين طيات الإجابة تقطن تفاصيل كثيرة، وأحداث عظمى، وأخرى لا ترى بعين التاريخ المجردة. 

ثنائية الدين/ الشعب، أو بمعنى أدق رجال الدين/ الشعب ثنائية ممتدة الأواصر. من الممكن أن تكون سجية بشرية تدل على رؤية الإنسان للمقدسات، وبالتالي لجوء الشعب المصري لكل ما هو مقدس واستغلال الجهلاء لهم. من الممكن أن تكون البداية من الحملة الفرنسية والجهل الديني، كما أرخ المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، ومن ثم امتداد الإخوان المسلمين ومن بعدهم عصر السادات، وهم امتداد لكل من سبقهم وتأكيد على فكرهم، وحتى دعاة الرأسمالية، الذي بدأهم مصطفى محمود وأكد على وجودهم وتأثيرهم عمرو خالد، حتى دعاة "السوشيال ميديا"، وأبرزهم عبد الله رشدي وحازم شومان وغيرهم، وهم مثال شهير للوضع الديني في البلاد.