رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فنان كبير.. وفن عظيم

الأستاذ يحيى حقى «١٧ يناير ١٩٠٥ - ٩ ديسمبر ١٩٩٢» هو أحد أعمدة الثقافة المصرية والعربية، ليس فقط بسبب ريادته فى فن القصة القصيرة وفن الرواية، ولا بسبب دوره الطليعى كرئيس تحرير لمجلة «المجلة» التى انحازت للكتابة الجديدة وقدمت جيل الستينيات للقارئ العام، ولكن لأنه صاحب روح محبة للثقافة ويعرف أهميتها، وساعدته ثقافته الرفيعة وسفرياته العديدة ومعرفته الجيدة بالبسطاء وانحيازه لأحلامهم البسيطة وأساطيرهم، فى الكتابة عن مصر الحقيقية، بشرًَا وشوارع وكتابًا، بلغة ساحرة تجمع بين الفصحى الخالية من الزخارف والعامية التى تحملها البداهة إلى مرتبة عالية جدًا، فى ذكراه كل عام يتحدث الصحفيون بإسهاب عن الفترة التى عمل فيها الأستاذ نجيب محفوظ مديرًا لمكتبه عندما كان رئيسًا لمصلحة الفنون، ويبحثون فى الأرشيف عن حديث كل منهما عن الآخر فى تلك المرحلة، ولا أعرف لماذا يتم اختزال العلاقة بين الرجلين فى هذه المرحلة، فى حين أن تقدير الكبيرين لبعضهما أكبر وأقدم من ذلك؟، محفوظ حين فاز بنوبل قال إنه يشعر بالخجل، لأن الجائزة الأهم فى العالم تجاوزت أستاذيه: يحيى حقى وتوفيق الحكيم، التقيت صاحب قنديل «أم هاشم» أربع أو خمس مرات فى بيته بمصر الجديدة، بحكم عملى فى مجلة أدب ونقد التى تصدر عن حزب التجمع نهاية ١٩٩٠ وبداية العام التالى، كانت المجلة تجهز عددًا خاصًا عن الأستاذ يحيى يشرف عليه الراحل محمد روميش، إحدى علامات النقاء والمحبة فى جيله والصديق المقرب لصاحب البوسطجى، وكان دورى هو دور سكرتير التحرير الذى يتابع الكتّاب، وجمع المقالات وتصحيحها، وإطلاع المحتفى به بكل جديد بناء على رغبته، وهو الذى طلب منى أن يرسم العدد الفنان الكبير نبيل تاج، الذى أبدع فى العدد ورسم أجمل بورتريهات للكاتب الكبير يتداولها عشاقه كثيرًا على صفحات التواصل الاجتماعى، أتذكر هذا العدد الذى صدر فى أغسطس ١٩٩١، ليس فقط بسبب صاحب الليلة، ولكن لأنه استدعى زمنًا ورجالًا كنت محظوظًا وأنا صغير السن أن أكون بينهم، أسماء كبيرة تحتفى بيحيى حقى فى مجلة غير جماهيرية، وتكتب مقالات وشهادات وذكريات، الأستاذ خالد محيى الدين كتب الافتتاحية، ورئيسة التحرير الأستاذة فريدة النقاش كتبت دراسة فى الداخل، وبخلاف الدراسات الرصينة كتب الشهادات أسماء عظيمة: نجيب محفوظ وفتحى غانم والدكتور مصطفى ماهر ومحمود أمين العالم وفاروق عبدالقادر وخيرى شلبى وسعيد الكفراوى وجمال الغيطانى وغيرهم، بعضهم كان يملى علىّ شهادته على التليفون، وحين هاتفت الأستاذ نجيب لكى يقدم للعدد لأنه الأجدر بذلك، حدد لى موعدًا فى اليوم التالى، ذهبت إلى مقهاه المفضل فى ميدان التحرير، وقال لى قبل أن أجلس: «بص بقى.. أنا رتبت كلمتين اكتبهم قبل ما أنساهم وبعدين نتكلم»، وأملى علىّ ما يلى: «فى الحقيقة غابت عن ذهنى الأيام التى تعرفت فيها على أعمال يحيى حقى، ولكن الذى ما غاب أبدًا هو أثر أعماله فى نفسى، ولعل أول عمل اطلعت عليه هو البوسطجى ثم قنديل أم هاشم.. وكان الاطلاع مفاجأة سارة لى. عرفتنى بفنان كبير وفن عظيم، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أتابع إنتاجه وأزداد به استمتاعًا واستنارة، وإنى لأعتبره من شوامخ نهضتنا الأدبية وأثنى على الظروف التى عرفتنى به شخصيًا منذ عملت تحت رئاسته فى مصلحة الفنون، وسيظل يحيى حقى فى نفسى هو يحيى حقى بكل ما يرمز إليه من عطاء وجمال وخلق».. «الكلمتين دول» قرأتهم للأستاذ يحيى فى التليفون أكثر من خمس مرات!، فى المقابل كان صاحب «تعال معى إلى الكونسير» يحمل تقديرًا كبيرًا لصاحب الثلاثية، ومن أوائل الذين نبهوا إلى عبقريته، وربما قبل النقاد الذين كتبوا عنه، ودافع عن رواية «أولاد حارتنا» وكتب فى المجلة نفسها «رواية أولاد حارتنا واضحة كل الوضوح، لم يفعل نجيب محفوظ سوى أنه نقل بعض الآراء السائدة فى الفلسفات المادية، والقائلة إن العلم قتل الدين، فبدلًا من أن نعتمد الغيبيات فى إدراك المعارف فإننا نلجأ إلى المعامل والمختبرات، فانتهى بذلك دور الغيبيات»، وأضاف: «لكن هناك سؤال.. هل نجيب محفوظ يعتقد هذا الرأى أم أنه يصور تطور بعض جوانب الفلسفة فى الغرب؟ رأيى أنه ليس من حقنا أن نحاكمه ونسأله هل هو هذا أو ذاك؟ فقد حذرتنا تعاليم الإسلام أشد الحذر من باب التأديب ألا ننصرف عن ظاهر الشهادة بالبحث والتنقيب و(الدعبسة) و(اللغوصة) وراءها، إلى هذا الحد بلغ اعتداد الإسلام بكرامة الفرد وحفظ سرائره، التى لا يعلمها إلا الله»، الأستاذ يحيى حقى كان يحمل أهم صفة من صفات العظماء، فى اللقاء الأول وكنت بصحبة الأستاذ روميش، أحس بحالة الرهبة التى تملكتنى وأنا أصغى إليه، فأخذ الحديث إلى مناطق بسيطة وشجية عن الشوارع وعن صديقه البنان الذى يشترى منه البنان عندما عرف أننى أعيش فى الغورية، عن تاريخ العصى التى يتوكأ عليها، صدر العدد وفرح به جدًا، وصرنا نتهاتف بين الحين والآخر، وكنت حين أقرأ مقالًا عن كتبه التى جمعها وصنفها الأستاذ فؤاد دوارة ونُشرت تباعًا تحت اسم الأعمال الكاملة، كنت أتصل به، فيطلب أن أقرأه له، وكان الراحل العزيز إبراهيم منصور يتصل به ليخبره عن المقال نفسه.. فيطلب منه أيضًا أن يقرأه له!.