رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن قناة السويس

أخشى أن ما أثير من شائعات حول قناة السويس مؤخرًا لا يعنى سوى شىء واحد هو أننا ما زلنا لا نفهم معنى الحوار ولا معنى العمل السياسى بمعناه الصحيح.. فما إن أُعلنت أنباء عن تعديل أحكام قانون هيئة قناة السويس حتى سارع البعض لممارسة التكفير الوطنى واتهام الحكومة بما ليس فيها وبما لم تكن تنوى فعله، مع استخدام شعارات عاطفية زاعقة مثل «لا لبيع قناة السويس» ونحن هنا يجب أن نفرق بين المشاعر النبيلة للمواطن العادى الذى تساق له القضية على هذا المنحى العاطفى والذى يصدم مشاعره الوطنية، وبين السياسى أو المثقف المنتمى للنخبة والذى بإمكانه أن يطلب مشروع القانون وأن يفحصه وأن يجمع المعلومات كاملة قبل أن يتحدث، ويتهم، ويحرض، ويشعل العواطف دون سند أو دليل.. وبالتالى فأنا وأنت وهو والحكومة والدولة والنواب والشعب.. نقف جميعًا ضد أى مساس بقناة السويس.. وكما أوضح مجلس النواب فى بيانه البليغ فإن القناة من أصول المال العام المصرى وهى محمية بنص المادة ٤٣ من الدستور المصرى الذى يذكرها صراحة ويؤكد على التزام الدولة بحمايتها والإضافة إليها.. لكن من سارع إلى الإمساك بجهاز الموبايل والكتابة على وسائل التواصل بمجرد أن رأى فقرة فى برنامج كان عليه أن يبحث ويدقق ويسأل قبل أن يلقى اتهامًا ضخمًا مثل هذا.. ولو فعل هذا فهو فى هذه الحالة سياسى محترف.. يدرس قبل أن يتحدث.. ويفكر قبل أن يتهم ويستعين بالباحثين ليساعدوه قبل أن يصدر رد فعل سريعًا وعاطفيًا وانفعاليًا وشعاراتيًا بعض الشىء- هذا مع الاعتراف أن الخوف على القناة حق مشروع لكل مصرى- وأن المشاركة فى النقاش حول الموضوع حق لكل مصرى.. لكن المهم هنا هو الطريقة.. وهل تهدف لإثراء الحوار وزيادة الضمانات أم للإثارة واتهام الآخرين فى وطنيتهم وامتطاء جواد الوطنية وإشهار سيف المبادئ بحثًا عن بطولة فردية.. إن المعلومات المتوافرة تقول إن هناك فرقًا بين المجرى الملاحى لهيئة قناة السويس وهو محمى بالدستور والقانون والتاريخ والدماء والأرواح.. وبين الشركات التابعة لهيئة قناة السويس التى لا يعلم معظمنا عنها شيئًا.. وربما لا يمارس بعضها نشاطًا اقتصاديًا يذكر منذ سنوات ومقرات بعضها بعيدة عن مجرى القناة ولا علاقة لها بحركة الملاحة فى القناة ولا بعائدات المرور اليومية فى القناة من قريب أو من بعيد.. إن من هذه الشركات مثلًا شركة تنتج الحبال ومنتجات الألياف تحمل اسم «شركة القناة للحبال ومنتجات الألياف» وشركة لبناء السفن تحمل اسم «شركة التمساح لبناء السفن».. وشركة لبناء الموانئ وإدارتها تحمل اسم «شركة القناة للموانئ والمشروعات الكبرى».. وشركة الأعمال الهندسية تحمل اسم «شركة الأعمال الهندسية البورسعيدية».. وهذه كلها شركات أنشئت فى عهود متفاوتة لأسباب مختلفة وهى ربما تحقق بعض ما هو مطلوب منها وربما لا.. وربما ربحت ميزانياتها فى بعض السنوات وربما لم تعد تربح حاليًا أو ربما هى فى حاجة للتطوير أو زيادة رأس المال أو الدمج فى بعضها البعض.. وربما تكون المعلومة الفارقة فى هذا كله أن الشركات الخاسرة من بين هذه الشركات تعوض خسارتها من ميزانية الهيئة الأم.. التى هى أحد مصادر الدخل القومى المصرى بالعملة الصعبة.. والمعنى أنه لو استطاع هذا الصندوق تقليل خسائر هذه الشركات أو تحويلها إلى أرباح.. فإن هذا سيصب فى مصلحتى وفى مصلحتك وفى مصلحة من سارع للتحذير من بيع القناة دون أن يعرف ما هو الموضوع من الأساس.. ودون أن يدرس مشروع القانون المقدم.. ودون أن يسأل عن الهدف منه.. رغم أن هذا هو المعنى الحقيقى للحوار الوطنى.. الذى يتظاهر الجميع بالانهماك فيه.. ولعل أسوأ ما فى هذه الممارسات «الحنجورية» نسبة إلى التفكير بالحنجرة لا بالعقل.. أنها تعطى الفرصة لأعداء الحوار التشكيك فى جدواه.. وفى نوايا المشاركين فيه.. ما دام بعضهم يمارس التكفير الوطنى والمزايدة والتشكيك فى النوايا.. دون أن يكلف نفسه مؤونة البحث والتحرى.. والعمل السياسى الصحيح هو الذى يقول فيه السياسى للحكومة لقد أخطأت فى تقديم هذا القانون بسبب كذا وكذا وكذا.. وأنا أقف ضد هذا القانون دون تشكيك فى نواياكم.. وأقترح أن يكون القانون على شكل كذا وكذا.. أما العمل السياسى «الحنجورى» فهو الذى يتخيل ممارسه أنه مبعوث العناية الإلهية للحفاظ على الوطن.. وأنه هو الوطنى الوحيد والباقون مفرطون.. وأنه هو الوحيد الحريص على الوطن والباقون متهاونون.. ويسارع إلى الكلام قبل التفكير وإلى الاتهام قبل التمحيص.. وإلى إثارة المشاعر قبل مخاطبة العقول.. وهى ممارسات لا تختلف عن ممارسات التكفيريين سوى فى اللافتة التى يرفعها صاحبها وفى أنه يرتدى القميص والبنطلون بدلًا من الجلباب وفى أن يده فى الماء ولا يرى مانعًا من المزايدة على من يده فى النار.. هذا النموذج بشكل عام ينتمى للماضى لا للحاضر.. ويجيد الكلام لا الفعل.. ويقود الوطن للوراء لا للأمام.. وأظن أن عليه أن يتيح الفرصة لأجيال أصغر وأكثر براءة فى قادم الأيام.