رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة الدكتور يحيى الرخاوى

كان فى نيتى أن أكتب هذا الأسبوع عن اليوم العالمى للغة العربية الذى احتفل عشاقها بها يوم الأحد الماضى ١٨ ديسمبر، ولكن وأنا نازل من المقطم بعد تشييع جثمان الدكتور يحيى الرخاوى متجهًا إلى بيتى أمس الأول لكتابة المقال، سألت نفسى: هل ستنجح اللغة الحبيبة فى مساعدتى على الكتابة عن رجل عظيم أحمل له فى قلبى محبة ريفية عريقة؟،

تذكرت ما كتبه الأستاذ يحيى حقى فى وداع أحد أصدقائه: «لا أذكر هل كان على أحمد باكثير أو محمد فريد أبوحديد؟»، لم يذكر سيرة الصديق ولا منجزه، ولكنه نبه إلى خطورة خلو العالم من رجل طيب بذل عمره لإسعاد الآخرين، والدكتور الرخاوى العالم والمثقف والشاعر والروائى والصوفى والناقد والخبير فى التراث الشعبى، هو هذا الرجل الطيب الودود خفيض الصوت الذى يطمئن عليك بين الحين والآخر، لأنك تركت عملًا، أو توقفت عن كتابة مقال فى صحيفة، لم أتعرف عليه فى «هورين» القرية التى ننتمى إليها فى محافظة المنوفية، تعرفت عليه فى القاهرة وبعد عملى فى الصحافة، شعرت معه من أول لقاء فى عيادته بباب اللوق أن بيننا ذكريات عريضة، رغم فارق السن والخبرة، أبناء القرية الواحدة يجمعهم شىء خاص، حتى لو باعدت المصائر بينهم، تتولد علاقة قربى لا علاقة لى بالقربى الحقيقية، هو يعرف أهلى وكان صديقًا لعالم كبير فى عائلتى هو الدكتور عبدالفتاح داود، الأستاذ فى كلية علوم القاهرة، وكانا رحمة الله عليهما يرسلان الرسائل لبعضهما من خلالى، رغم أنهما يعرفان أرقام هواتف كل منهما!، كانت ذائقة الدكتور رفيعة فى الشعر، وكان متحمسًا لتجربتى، وفى يوم ما اتصل بى الصديق محمد شهدى لأنه قرأ خبرًا فى الأهرام عن ندوة تتناول ديوانى الأول تفاصيل فى دار المقطم للطب النفسى، كان يعتقد أننى على علم بها، ذهبنا فى الموعد لنفاجأ بندوة كبيرة لها علاقة بالطب النفسى، تحت مسمى الشعر والجنون، لم نفهم شيئًا مما قيل، وكنت فى حالة من السعادة لم تحدث لى، أنا العازف عن مناقشة أعمالى أو حفلات التوقيع لها، كانت مودته تشعرنى بالطمأنينة، وزاملته بالكتابة فى أكثر من مكان، وكنت مفتونًا بلغته المتدفقة القريبة إلى القلب، وأيضًا بزوايا التناول لموضوعات يعجز المشتغلون فى الصحافة عن بلوغها، كتب عن علاقته باللغة: «لست متأكدًا هل تأصّلت علاقتى بها لأن والدى كان مدرّسًا لها، والأهم أنه كان عاشقًا لها، أم أن ذلك مرتبط ببيئتى ونشأتى عامة، علمًا بأن التداخل بين اللغة العربية وما هو إسلام هو تداخل شديد التكثيف من خلال القرآن خاصة، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن تأثير اللغة التركيبى على التكوين المفاهيمى الخاص بتطورى العلمى والثقافى هو أمر يتعلق بالفصحى والعامية المصرية على حد سواء، وبصفة عامة أستطيع أن أجزم أن قوة اللغة العربية، وإيقاعها الأعمق، وعلاقة ضمائرها بتحديد العلاقة بالموضوع تحديدًا متميزًا، ورسوخها تاريخًا- بسبب حفظ القرآن بها جزئيًا- كل ذلك كان دائمًا محركًا ومنظّمًا لتكوين فكرى، حيث اللغة كيان مباشر فى حضور وعيى مع وعى مرضاى، وليس فقط فى أن مرضاى كانوا يمرضون بالعربية»، لم يأخذ حقه كروائى وناقد أدبى وشاعر عامية وكاتب سيرة ذاتية، لأن قيمته العلمية ونبوغه فى الطب النفسى وظهوره فى التليفزيون جعلت قيمته الأدبية تتوارى، مجلته الإنسان والتطور كانت ملعبًا للأفكار التى تتجاهلها المنابر الرسمية، وكان يفسح المجال لأصحاب الخيال الجامح أمثال محمد جاد الرب وغيره من المشغولين بالمياه الجوفية للوجدان المصرى، كان غزير الإنتاج ويعرف جمهور كل مطبوعة يكتب لها، مقالاته فى مجلة فصول تختلف عنها فى إبداع أو فى الصحف السيارة، سيرته الذاتية «المشى على الصراط» بجزئيها، من أجمل السير فى الأدب العربى، هو يحكى لصديق عن رحلة مليئة بالتحدى والطموح، بدون ادعاء بطولات أو إنجازات، الدكتور حسين حمودة كتب أن الرخاوى هو صاحب فكرة إصدار دورية نجيب محفوظ، وكتب عددًا من المقالات هى من أهم ما كتب عن صاحب الحرافيش، والصداقة التى جمعت بين الرجلين بعد الحادث الإرهابى الذى تعرض له عميد الرواية العربية كانت صداقة مثمرة، كان مسئولًا عن علاج آثار الجريمة، وهذا العلاج أثمر عن كتاب «أحلام فترة النقاهة» الذى تدرب فيه محفوظ على الكتابة بيده من جديد، وكتب الرخاوى: «نجيب محفوظ: آخر البدايات»، «حركية الوعى بين الحلم والإبداع»، «(الشعر) والجنون دروس من أحلام فترة النقاهة»، «الله: التطور: الإنسان: الموت: الله عبر نجيب محفوظ»، «تشكيلات الخلود بين ملحمة الحرافيش وحـضرة المحترم»، «حديث الصباح والمساء‏ يكشف: جدل الإنسان المصرى مع ثوراته عبر قرنين»، «مصر فى وعى محفوظ عبر قرنين، تتجلى فى: حديث الصباح والمساء»، «مقدمة عن: حركية الزمن، وإحياء اللحظة» فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ»‏، من الصعب الحديث عن «كل» يحيى الرخاوى، تلاميذه من الأطباء نصبوا سرادقات عزاء لأستاذهم الجليل، وهم يعرفون أكثر منا ماذا قدم للعلم وللمصريين، والذين لم ينتبهوا لقيمته الأدبية الرفيعة شعروا بالخسارة الفادحة بعد رحيله، كتب وأبحاث ومقالات الراحل العظيم مطالب الأخ والصديق العزيز الدكتور محمد يحيى الرخاوى بجمعها ونشرها، وإعادة طبع كتبه الكثيرة التى لم تعد موجودة فى أى مكان.. رحمة الله عليك يا أستاذنا الجليل.