رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خزعبلات وتخاريف دعاة الأفروسنتريك!

(١)

شكرًا لأجدادنا المصريين القدماء الذين ربما تنبأوا بتخاذل الأحفاد عن الدفاع عن هويتهم، فكوهم مشقة المعركة وتركوا أجل ما يمكن تركه مما لا يقبل الشك أو التشكيك.. تركوا أجسادهم المحنطة وتركوا لعلومنا المعاصرة خطوة الحسم الأخيرة!

فالمئات من مومياوات الملكات والملوك والنبلاء من القادة والفنانين والكهنة وعامة الشعب ترقد فى جلال فى شتى ربوع العالم لتحفظ لنا حقنا وإرثنا التاريخى من المخابيل واللصوص!

شكرًا لأجدادنا من كتاب ورسام ونحاتى وموظفى مصر القديمة الذين تركوا لنا ملايين الوثائق المكتوبة والمحفورة والملونة والمرسومة تتحدث عن نفسها وتحدد بيقين قاطع من هم ومن نحن!

ونشكر منهم بشكل خاص رجال قرية دير المدينة.. قرية الفنانين والرسامين والنحاتين والعمال خلال ما يقرب من خمسمائة عام أبدعوا لنا خلالها أعظم ما تركت الإنسانية من قطع فنية بغرب الأقصر! شكرًا لهم لأنهم تركوا لنا بطاقات هوياتهم بما لا يجد معه المزورون مدخلا للإفك!

حتى صنادل الملوك لم تبخل علينا بالبوح! نعم هذه حقيقة.. فأحد صنادل الملك توت عنخ آمون حدد بشكل قاطع رسمًا وتلوينًا من هم أعداء مصر تمييزا لهم عن المصريين!

شكرا لكل قائد أو موظف كبير تولى منصبا فى مصر القديمة العظيمة لأنه ترك لنا بطاقة هويته وشجرة عائلته كاملة غير منقوصة بخلاف سيرته الذاتية والمهنية التى سجلها وكأنها قصة مصورة بالألوان!

شكرا للقائد العسكرى المصرى (أونى) الذى تم تكليفه بتكوين أول جيش نظامى مصرى فى الدولة القديمة فطاف مصر كلها ووثق عناصر جيشه المصرى وهوياتهم!

شكرا لكنيسة الإسكندرية على قرارها بعد مجمع خلقدونيا منتصف القرن الخامس الميلادى باستخدام اللغة القبطية لغة رسمية فى الطقوس الدينية فحفظت لمصر جزءًا من لغتها الأصيلة مكتوبة ومنطوقة ومسموعة!

شكرا لها رغم تأخر القرار واتخاذه كرد فعل انتقامى فى صراع دينى لا علاقة له بالهوية الحضارية!

(٢)

شكرا لكل غاز ومحتل تعالى على المصريين فانعزل عنهم وحفظ لهم هويتهم، وتفاخر بهذا التعالى فى الوثائق الرسمية التى جاد التاريخ علينا بحفظها!

ومن هؤلاء نشكر المحتلين اليونانيين البطالمة على سياستهم الاجتماعية العنصرية الاستعلائية التى دفعتهم لعزل أنفسهم عن الشعب المصرى، فحفظوا للمصريين هويتهم!

وشكرًا لما قاموا به من تعدادات سكانية قائمة على تحديد العناصر السكانية التى تعيش فى مصر بلا لبس أو كذب!

ونشكر أيضا الغزاة العرب على سياساتهم الاستعلائية العنصرية فى القرون الأولى بعد الغزو! 

حتى إنهم وفى وثيقة رسمية بعد قرن ونصف من الغزو العربى رفضوا محاولة نسب بعض المصريين أنفسهم للعرب فحفظوا لهؤلاء المصريين هويتهم!

(٣)

شكرا لعلماء علم المصريات الأوائل - فى القرن الأول لتكوين هذا العلم الذى يبلغه عمره قرنين فقط وقبل أن يتم تسييس وترويض واستخدام العلماء المعاصرين – على ما أثبتوه وقدموه لنا - دون أن يقصدوا - من تلال الوثائق التى أكدت الحقيقة الأهم...

تلك الحقيقة -الضاحدة والماحقة لخزعبلات دعاة الافروسنتريك –هى عدم الانقطاع التاريخى أو الديموجرافى، وهى الحقيقة التى تمثل أهم سمات التاريخ المصرى!

فتاريخ مصر يتفرد عن تاريخ غالبية البلدان والحضارات فى القارة السمراء بخلوه تماما من مصطلح (الفجوة التاريخية الكبرى)!

هذا المصطلح - الذى يشير إلى غموض تاريخى فى منطقة ما أو خلوها من سكانها لأسباب جغرافية طبيعية أو سياسية لمدةقرون -يلقى بظلال من الشك المنطقى على وجود أى علاقة أوارتباط بين من يأتون بعد تلك الفجوة ويسكنون تلك المنطقة بمن كانوا قبلها!

فلا فجوة كبرى أو صغرى فى تاريخ مصر، إنما هناك استمرارية وتواصل وعدم انقطاع حضارى أو اجتماعى أو ديموجرافى!

 فالدلتا ووادى النيل – وفيهما مراكز الحضارة المصرية – لم تخلوا من سكانهما على الإطلاق منذ عصور ما قبل الأسرات وحتى الآن!

ولقد بدأ هذا السيل غير المنقطع منذ عصور ما قبل الأسرات التاريخية، أى قبل الكتابة، عبر أكثر من تسعين موقعا أثريا بطول وادى مصر ودلتاها وعرضهما!

 ثم انطلق ليوثق فصول القصة التى لم تنقطع – فى التواصل والتتابع – إلى اليوم رغم الأوبئة العارضة ورغم الأحداث السياسية المتعاقبة ورغم الانحدار الحضارى فى بعض العصور!

فرغم كل تلك العوارض بقى العنصر المصرى السكانى الأصيل متشبثا بأرضه وطينه جيلا بعد جيل بنفس السمات الجينية الأصيلة! 

وأيضا بنفس الصفات والإرث الأخلاقى رغم محاولات الحقن السكانى الإجبارى الذى نفذه بعض الغزاة مثلما حدث بعد الغزو العربى!

(٤)

فبفضل كل من ذكرتهم، بقيت هوية صناع الحضارة الأعظم فى تاريخ الإنسانية ساطعة حامية لها ولهم من محاولات السرقة الجديدة التى تحاول أن تدير ظهرها لتلك الملايين من الوثائق والحقائق وتقبل فكرة خزعبلية أسموها (الأفروسنتريك)!

وقبل وبعد كل هؤلاء فالشكر الأعظم لله تعالى الذى وهب لمصر كل هؤلاء عبر العصور ليحفظ للمصريين القدماء حقهم.

وليكفى المصريين المعاصرين جهد خوض معارك كبرى لإثبات انتمائهم لهؤلاء الأجداد!فربما لو كتبت عليهم تلك المعارك الآن لتخاذل كثير منهم ولبادروا بالتبرؤ من الأجداد ورفعوا شعارهم ...(بركة يا جامع!)

هذه الخرافة الجديدة (الأفروسنتريك) تقول إن سكان مصر المعاصرة لا علاقة جينية بينهم وبين صناع تلك الحضارة! وأن صناعها أقوام آخرون من بقاع إفريقية أخرى!

وحججهم فى ذلك – وبعد أن قرأت بعضها – يمكن تلخيصها فى جملة واحدة.. إن المخرج عايز كدا!

وهذه المرة فالمخرج يرتدى قبعة الكاوبوى وينتمى أجداده للقارة السمراء!

هؤلاء الأجداد الذين تم اختطافهم أو استعبادهم منذ قرون قليلة من مواقع وبقاع إفريقية عديدة عبر سفن النخاسين والقراصنة!

تحملوا قيود الرق والاستعباد ودفعوا ثمن حريتهم غالية واستمروا فى نضالهم حتى وصلوا إلى المكتب البيضاوى الذى يعتبر شريكا أساسيا فى حكم العالم!

بعد هذا التغير التاريخى المعاصر والمواقع العليا التى وصل إليها الأحفاد بدأوا فى محاولة تأليف وكتابة صفحات مجد لأجدادهم بأثر رجعى!

..فاتجهوا بأعينهم صوب الحضارة الأعظم فى القارة.. الحضارة المصرية القديمة.. وقرروا أن تكون هدفا لسطوهم تعويضا عن تراجيديا آبائهم وأجدادهم فى بداية تواجدهم فى الأرض الجديدة!

هذه هى خلاصة القصة أو التخريفة الجديدة المسماة الافروسنتريك!

إن مصر تعتز بانتمائها الإفريقى ولا شك ولا تتبرأ من هذا الانتماء. لكن هذا لا يعنى أن تتنازل عن إرثها المشروع لأى مجموعة بشرية أخرى، فلا تتنازل أمة لأمم أخرى غريبة عن إرثها بدافع الكرم!

(٥)

ولا شكرا لأى هيئة أو مؤسسة أو شخصية مصرية كان من موجبات وشرعية وجودها التصدى العلمى لمثل هذه الخزعبلات، ولم تقم بواجبها حق القيام حتى بدأت كرة الثلج فى التكون!

فكم من الخزعبلات التاريخية أصبحت كرات لهب كبرى حرقت مجتمعات ودولا حين تهاون أصحاب الحق فى الدفاع عن حقهم رغم سطوعه!

فلا شكرا لأى هيئة مصرية ذات طبيعة علمية أو ثقافية أو أى طبيعة أخرى تهاونت مع هذه الخزعبلات فى بداياتها وتعاملت معها بمنطق (خليهم يتسلوا)، فتكاسلت وهونت من الأمر حتى بدأ يشق طريقه ويقدم نفسه للعالم كنظرية علمية!

أننى أؤمن بأن من يتناول أى قضية بالكتابة إن لم يحتوى تناوله على فكرة أو أفكار يمكن تنفيذها على الأرض، فلا قيمة لما يكتب!

ومن هذا الإيمان الشخصى فإننى أتقدم للهيئات العلمية والأكاديمية المصرية ذات العلاقة بما نتحدث عنه بعدة اقتراحات عاجلة وآجلة للتصدى الجدى والواقعى لتلك الهجمة التى تزاوجت فيها السياسة الدولية بتزوير التاريخ!

فهناك مؤسسات دولية سياسية ذات غطاء علمى أكاديمى تنفخ فى كير هذه الخزعبلات كعمل سياسى موجه بشكل صريح  ضد الدولة المصرية المعاصرة!

الفكرة الأولى والعاجلة هو أن تتولى هيئة أو جهة علمية مسئولة تكوين لجنة أثرية علمية من كبار أساتذة علم المصريات ممن يجيدون اللغات الأجنبية لتتولى بشكل عاجل دراسة كل ما صدر ويصدر من مطبوعات من دعاة هذه التخاريف التاريخية الموجهة للحضارة المصرية.

تقوم هذه اللجنة العلمية بتوثيق ردود علمية أثرية على كل عبارة أو ادعاء فى مطبوعات باللغات الأجنبية.

تتم طباعة وتوزيع هذه الردود فى دوريات علمية دولية وإتاحتها مثلا لمجلات مصر للطيران ومكاتب هيئة الاستعلامات خارج مصر وتوزيعها تجاريا عبر منافذ بيع الكتب بجميع المناطق السياحية ومطارات مصر!

الفكرة الثانية أن يتم تكوين فريق علمى من شباب علماء المصريات المصريين ممن يجيدون اللغات الأجنبية بكليات آثار مصر المختلفة، على أن يتم تكليفهم بمتابعة جميع فعاليات تلك الحركة السياسية المتدثرة بغطاء علمى زائف..

لا يقتصر دور هذا الفريق على المتابعة، بل تقوم جهات إدارية بتسهيل مشاركاتهم فى تلك الفعاليات والرد على أى إدعاء ردا علميا فوريا!

فالمواجهة العلمية الجادة فى كل الفعاليات خارج مصر وداخلها هو الطريق الحتمى الآن!

أما الفكرة الثالثة فهى طويلة الأمد وتستهدف تحصين الحضارة المصرية من الهجمات المماثلة مستقبلا. فى كليات الآثار المختلفة تقريبا لا يمر عام دراسى دون تسجيل عشرات الرسائل العلمية من ماجستير ودكتوراه، بعضها مكرر، وبعضها الآخر ربما لا يضيف شيئا للواقع المصرى رغم إضافته الأكاديمية!

فلماذا لا تتبنى إحدى كليات آثار مصر فكرة تخصيص جميع الرسائل العلمية أو معظمها فى عام دراسى معين لدحض تلك الادعاءات؟!

لماذا لا يتم ربط المسار الأكاديمى للدراسات العليا بكلية آثار أو أكثر برؤية مصر الاستراتيجية وبما تواجهه الدولة المصرية فيما يتعلق بهويتها الحضارية؟!

الفكرة الرابعة تخص نقابة المرشدين السياحيين ودورها التثقيفى لأعضائها. أن تقوم النقابة بتوفير كتيبات علمية تتناول الردود العلمية بمقار النقابات الفرعية بمختلف مناطق مصر الجغرافية!

وأخيرا فتنفيذ فكرة المبادرة أصبح واجبا وطنيا. والمبادرة هى أن تتولى هيئة علمية أثرية تنظيم مؤتمر علمى دولى يتم فيه نشر الردود العلمية على خزعبلات تلك الحركة السياسية المغرضة!

علينا ألا ننتظر حتى يطرق اللصوص بابنا، بل علينا المبادرة بحرقهم علميا على رءوس الأشهاد!

افضحوا اللصوص والمرتزقة علميا قبل أن نراهم يطرقون قدس أقداسنا وهم يرتدون مسوح العلماء!