رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ المناضل

عمار بن ياسر، وأبوه وأمه، من أوائل مَن آمنوا برسالة الإسلام، والثلاثة من المستضعفين الذين تحلقوا حول النبى، صلى الله عليه وسلم، وكان ياسر أبوه من موالى بنى مخزوم. وما إن علمت هذه العشيرة من قريش بإسلام العائلة «العمارية» حتى سارعت، مثل غيرها من عشائر وبطون قريش، إلى تعذيبهم وسحقهم، ولم يكن لهم عائلة أو ظهر عشائرى يستطيع حمايتهم. صنوف شتى من الضغط مورست على عمار وأبيه وأمه من جانب أبى جهل «عمرو بن هشام»، انهار أبوه «ياسر» فى العذاب أمام عينيه، فبكى من القهر والعجز عن حمايته والدفاع عنه، وكانت أمه «سمية» من الشجاعة بمكان، فلما رأت زوجها يسقط أمامها، أغلظت القول لأبى جهل، فطعنها فى قلبها بحربة فى يديه فماتت، وهى أول شهيد فى الإسلام، خسر «عمار» أمه وأباه فى لحظات، تضعضعت نفسه، وخارت قدرته على المقاومة، انتهز المشركون الفرصة، فشددوا عليه العذاب بالحر تارة، وبوضع الصخر على صدره، وبالتغريق، حتى ينهار تمامًا.

بالفعل انهار «عمار»، ولما سمعهم يقولون له: لا نتركك حتى تسب محمدًا وتقول فى اللات والعزى خيرًا، ما كان منه إلا أن فعل، فتركوه. قام المسكين يجرجر نفسه، يقتله إحساس بالحزن على والديه، وإحساس بالأسى والأسف بعد أن سب صاحب الرسالة التى يؤمن بها مضطرًا، ضاقت السبل أمام عينيه، ولم يدر أين يذهب، أخذ المستضعفون من المؤمنين بيده، وطيّبوا خاطره، وأقاموا ظهره المحنى تحت وطأة الحزن والقهر، وساروا به إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، وهو يبكى. فقال: ما وراءك؟ فحكى له، فقال صلى الله عليه وسلم: فكيف تجد قلبك؟.. قال: أجده مطمئنًا بالإيمان. فقال: يا عمار إن عادوا فعد، فأنزل الله تعالى: «إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ».

ظل «عمار» إلى جوار الرسول طيلة سنوات الدعوة، وخاض معه غمار الهجرة، ودافع مع المستضعفين، من أمثاله، عن الإسلام أشد الدفاع، وبعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، ظل، مثل كل المستضعفين، مخلصًا للمبادئ التى تعلمها، متمسكًا بقيم الدين فى الدفاع عن الحق والعدل والإحسان، زاهدًا فى الدنيا ومتاعها. ولّاه عمر بن الخطاب الكوفة فلم يمكث فى موقعه هذا كثيرًا، لأنه لم يكن رجل سياسة، بل رجل نضال ودفاع عما يؤمن به. اشتكاه أهل الكوفة لعمر بن الخطاب وقالوا إنه غير كفء ولا يعلم عن السياسة شيئًا، فما كان من عمر إلا أن استمع لهم، فقرر تنحيته عن ولاية الكوفة، وولى مكانه أبا موسى الأشعرى. لم يكترث «عمار» بما حدث، لأنه كان يفهم المعنى الحقيقى للتمكين فى الأرض الذى وعد الله به المستضعفين فى قرآنه الكريم. فالتمكين لا يعنى الجلوس على كراسى الحكم ومقاعد الولاية، بل غرس قيم الإسلام فى الواقع، وعلى رأسها قيم الدفاع عن الإنسان وحقه فى الحرية والحياة بكرامة، التمكين ببساطة كان يعنى من وجهة نظر عمار «المثالية» غرس قيم الدين وأخلاقياته فى الدنيا، وهو أمر لم يستقم للمسلمين إلا خلال فترة قصيرة للغاية من تاريخهم.

بعد وفاة عمر بن الخطاب كان عمار بن ياسر من معارضى عثمان بن عفان، ومن الثائرين ضده، حرّكه فى ذلك طبيعته الثورية التى لم تصبها الشيخوخة رغم زحف العمر به، وبعض الأمور التى لم يرضها هو وبعض الصحابة فى أداء عثمان، وخصوصًا ما يتعلق باستعمال أقاربه من بنى أمية. وثمة لغط كبير تجده فى كتب التراث حول ما حدث بين «عمار وعثمان»، وأن الأول هاجم الثانى باللفظ، وأن الثانى أمر بضرب الأول. فى كل الأحوال علينا أن نأخذ فى الاعتبار التركيبة النفسية لـ«عمار» التى كان يحكمها نوع من «النقاء الثورى» الذى يدفعه فى بعض الأحوال إلى طلب المستحيل، ومثاليته الملحوظة التى كانت تسوقه إلى مواجهة أى بغى. وربما فسر لك ذلك قول النبى، صلى الله عليه وسلم، لـ«عمار»: «تقتلك الفئة الباغية». فالمسألة هنا ليست توقعًا لغيب، بل قراءة لنفسية واحد من المستضعفين الذى تحلقوا حول النبى، صلى الله عليه وسلم، منذ الأيام الأولى للبعثة، ووعى صلى الله عليه وسلم تركيبتهم الشخصية جيدًا. 

ولو أنك تأملت بعض الجمل التى وردت فى خطبة عمار فى جنود على بن أبى طالب قبل اندلاع موقعة «صفين» فستلاحظ أنها تعبر عن شوق لم ينقطع إلى المثالية، رغم أن الرجل كان حينها قد تجاوز التسعين من عمره. ومما قاله فى هذه الخطبة: «اللهم إنك تعلم أنى لو أعلم أن رضاك فى أن أقذف بنفسى فى هذا البحر لفعلته. اللهم إنك تعلم أنى لو أعلم أن رضاك فى أن أضع ظبة سيفى فى بطنى ثم أنحنى عليها حتى تخرج من ظهرى لفعلته». ثم قال: «اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب بدمه، ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبوها، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم، وإن قالوا: إمامنا قتل مظلومًا، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكًا، فبلغوا ما ترون، فلولا هذه ما تبعهم من الناس رجلان». 

واختتم خطبته قائلًا: «اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا فى عبادك العذاب الأليم». 

استُشهد عمار بن ياسر فى موقعة «صفين» فتيقن فريق على بن أبى طالب أنهم على الحق، وأن فريق معاوية هو الباغى، إعمالًا لقول النبى: «عمار تقتله الفئة الباغية». اضطرب أتباع معاوية بعد أن رأوا الشيخ التسعينى مضرجًا فى دمائه ملقى على الأرض، فنادى فيهم معاوية أن واصلوا القتال وقال لهم قولته الشهير: «إنما قتله الذين أخرجوه»، بمعنى أن عليًا وأنصاره هم من قتلوه، حين ارتضوا أن يخرج للقتال وقد تجاوز التسعين من عمره، وتضعضعت صحته. استراح أنصار معاوية للتفنيد الذى قدمه للموقف وواصلوا القتال.. وما أكثر كلمات الحق التى يُراد بها باطل.