رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قضية للمناقشة فى الحوار الوطنى «٢-٢»: تحرير الخيال المصرى ضرورة عاجلة

الفكر والإبداع المصرى شبه الحداثى والمعاصر، عانى، ولا يزال، من عديد القيود القانونية والسياسية، والاجتماعية والدينية على حرية العقل والخيال الخلاق، ترجع هذه القيود لسطوة العقل النقلى السائد- أيًا كانت مصادره دينية ومدنية وسياسية واجتماعية- الذى يميل إلى السيطرة الرمزية على المجال العام، وكل يسعى إلى الغلبة والسيطرة وإزاحة أى مساعٍ لمقاربات فكرية وإبداعية مختلفة، لا سيما تلك التى تحلق فى فضاءات مختلفة عن الثقافة العامة، السائدة، لا سيما الرسمية أو ثقافة المجتمع بمختلف مكوناتها، من هنا تشكل السلطات الدينية والسياسية والعرفية وما يطلبه عليه التقاليد، وفوائض التدين الشكلى، أحد كوابح وقمع العقل الحر، والخيال الخلاق، ثمة مصادر تاريخية وتراثية واجتماعية تقف وراء مشكلات الثقافة المصرية، الحديثة، والمعاصرة، ولا تجديد ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا دون تحرير الخيال، والعقل النقدى. من هنا نبدأ! 

لا يمكن التغاضى عن هشاشة بعض الروائيين الساعين للشهرة والمال من الجماعة الروائية المصرية، بالغة الهشاشة، وجريها وراء المال والشهرة السريعة، والترجمة إلى اللغات الأجنبية، وسرعان ما يتم نسيان بعضهم/ هن!

جماعة هشة مثلها مثل المطربين والمطربات والممثلين والممثلات الأكثر براجماتية فى سعيهم للمال، والذيوع ثم النسيان! للتحول فى نمط الاستهلاك الشعبى السينمائى والطربى المتغير إلى أن فرضت أجيال الثمانينيات والتسعينيات ذاتها على سوق الاستهلاك السينمائى والطربى والموسيقى، حتى موسيقى المهرجانات، فى العقدين الماضيين فرضت نفسها سيدة على المسرح الموسيقى والغنائى المصرى والعربى، مع موسيقى الراى الجزائرية والمغربية! نمط استهلاكى موسيقى وطربى وتمثيلى مختلف، وسريع الاستهلاك فى عصر السرعة المفرطة كونيًا ورقميًا!

لم يبق لهؤلاء سوى بعض من ذكرياتهم التافهة، وحكمهم ووصاياهم السطحية التى ترتكز إلى الخبرة اللا تراكمية، وضحالتهم الفكرية، والاستثناءات محدودة جدًا.

لم يعد لدى غالب هؤلاء الشيوخ سوى بعض ما يدلون به من ترهات، يمكن أن تتحول إلى «تريندات» يتم توظيفها من الإعلام السطحى لكسر الاحتقانات السياسية والاجتماعية، وإلى لهو الجموع الغفيرة التى تفتقر إلى الوعى الاجتماعى، والسياسى، فى عصر الاستهلاك بالغ السرعة للمنشورات والتغريدات، والصور المتدفقة بسرعة، ومعها الفيديوهات الطلقة الجنسية والسياسية وحول الأجساد على اختلاف أحجامها، واستعراضاتها المختلفة للأثداء والمؤخرات وغيرها من أجزاء الجسد، هروبًا من رهاب الأجساد البدينة، ومحاولة تحويلها من القبيح إلى الجميل، وإلى العادى من استعراضات الأجساد الضخمة والبدينة والمترهلة للعاديين من الجموع الرقمية الغفيرة سعيًا وراء المال من الشركات الرقمية الكونية!

لا شك أن فيضان المنشورات والصور، والفيديوهات والتغريدات، فرض أنماطًا ثقافية جديدة شاعت وسيطرت وباتت تحجب، وتستبعد الإنتاج الثقافى الرفيع لصالح ثقافة السرعة واللقطة، والصور والتغريدات سريعة الاستهلاك، والتريندات الفضائحية، والحاملة للحكم والخبرات اللا تراكمية الشخصية التافهة! فى ظل هذا التحول إلى ثقافة الاستهلاك الرقمى فائق السرعة والسطحى ظهرت فجوات واسعة النطاق، الفجوة الأولى: بين الثقافة الرقمية، وانعكاساتها الفعلية، وبين الثقافة الرفيعة، بين الترفيه والاستهلاك الأدبى، والفكرى والموسيقى، والغنائى الرفيع مصريًا، وعربيًا وكونيًا!

الفجوة الثانية: جيلية، بين بعض الأجيال الأكبر سنًا، وبين الأجيال التالية لا سيما الشباب، وفى مرحلتى الطفولة والصبا!

الفجوة الثالثة: بين ثقافة السلطة الحاكمة وأجهزة الدولة، والنظام، وبين ثقافة الرقمنة الجديدة، رغم دخولهم إلى فضاءاتها واستخدامهم لها سياسيًا، من خلال نظم الرقابة الرقمية، لكنهم باتوا أسرى الأفكار بين ثقافتهم التكوينية العامة، والاستثناءات محدودة بينهم، وبين ثقافة الأجيال الجديدة المغايرة، عادة ما يلجأون إلى أساليب المنع ومحاكمة الاختلاف السياسى والدينى والإبداعى المعبر عن فكر وإبداعات الأجيال الجديدة! من هنا تتفاقم مشكلات الإبداع وحرياته، وقمعه دينيًا، وقيميًا، وقانونيًا، وأمنيًا!.

جزء من التدين الشعبى المسيطر لدى غالب رجال الدين، وغالب الجموع الغفيرة، هذا الميل الغلاب لتضمين بعض القيم الدينية، والأخلاقية الواردة، والمنقولة من السرديات الدينية والسيرية التاريخية لا سيما الضعيفة السند وما دونها منذ أكثر من مائة وخمسين عامًا بعد وفاة الرسول الأكرم «صلى الله عليه وسلم» وتضمينها، وتحويلها إلى قيم عابرة للقرون والمجتمعات، وأنظمة الحكم، ونسيان أن القيم الاجتماعية والأخلاقية متغيرة مع حركة المجتمعات والجغرافيا، ومستويات التطور الاجتماعى والسياسى والاقتصادى والتقنى، وأنها ليست فى غالبها المقدس القرآنى، أو السنة لرسولنا الأكرم، صلوات الله وسلامه عليه، وإنما هى تعبير عن حركة وتفاعلات الجماعات أيًا كانت- ريفًا أو حضرًا، أو بادية- والأصول الحضارية/ الثقافية التكوينية داخل هذه الجماعة أو تلك وإنتاجها، وإبداعاتها، ونمط العلاقات الاجتماعية السائدة داخلها، لأن القبيلة والعشيرة، والعائلة، ليست سواءً مع المجتمعات الزراعية، أو الحضرية.

إذن القيم المتغيرة ليست جزءًا من مفهوم ثوابت الدين، وأخلاقياته، فى نصوصه المقدسة، والسنة، وإنما هى تعبير عن حركية الجماعة أيًا كانت! ومن ثم يفترض أن تستصحب فى واقعها المتغير الأفكار الاجتهادية التجديدية فى الفكر الدينى وفقه المصالح والعرف كمصادر والتصالح معها، أو نبذ بعضها بما لا يخالف أو يتصادم مع التطور الاجتماعى، والسياسى والفكرى حتى لا تشكل قيدًا على العقل الدينى الاجتهادى، ولا تصل إلى كونها أداة من أدوات ضبط العقل المقيد وإعادة إنتاجه كعقل نقلى دينى مسيطر عليه من خلال قيود الضوابط المعيارية السردية الوضعية التى تصنع سياجات على اجتهادات العقل الحر، والإبداعات الإنسانية أيًا كانت مجالاتها.

ما يركز عليه العقل الدينى النقلى هو العقل الإفتائى المستمد من النقل لا العقل، والذى دار تاريخيًا على ذهنية الإفتاء التى يعاد إنتاجها، حول القياس على فتاوى قديمة وتجديدها ومن ثم هى عملية سياسية وضعية للضبط وفرض القيود، وثنائيات ضدية لم يعد الواقع المتغير صالحًا لبعضها كما كان الأمر فى قرون سابقة!

هذه النزعة الإفتائية النقلية تمددت أيضًا بين بعض الجموع الغفيرة سعيًا وراء المكانة داخل بعض زمرة الرفاق والعمل والمسجد! وهى جزء من سعى بعضهم للاستعلاء الرمزى والاجتماعى على الآخرين، من خلال اللغة الدينية اليومية، والنزعة الإفتائية حول الثنائية الضدية الحلال والحرام، والخير والشر التى تنشرها جماعة الإخوان المسلمين، والدعاة السلفيون، وبعض دعاة الطرق/ الشوارع، ومعهم بعض دعاة الأزهر لا سيما فى الأرياف، وبعض النسوة المنتقبات والمحجبات. غالب هؤلاء يشيعون خطاب الحلال والحرام تعبيرًا عن رهاب العقل النقدى الحر، والإبداع، والأفكار الجديدة المختلفة عما هو سائد فى حياتهم الدينية الجماعية أو الشخصية، أو الآراء العلمية حول الاكتشافات أو التجارب العلمية التى تتصادم نتائجها مع بعض المرويات، والآراء الدينية والأساطير الشعبية المرتكزة على التبريرات الدينية للمشايخ وحركيو الجماعات الإسلامية، والسلفيين فى خطاباتهم الدينية، أو خطاباتهم حول الدين وسردياته، ومروياته.

رهاب الفكر النقدى والأفكار المختلفة لا يزال مسيطرًا مع التطور العلمى، وأيضًا ازدياد أعداد اللاأدريين، واللادينيين بين الأجيال الجديدة الشابة عربيًا، ومصريًا، ومن ثم الخوف المتوحش من إعادة المقاربة التاريخية حول بعض السرديات المؤسسة للفكر الدينى- الإسلامى والمسيحى- كالبخارى على سبيل المثال، على نحو ما أثار ضجة كبرى لدى الأزهريين والسلفيين والإخوان وغيرهم! حدث ذلك بعد صدور عديد الكتابات حول سردية البخارى، والهجوم الشرس عليها، ودفاعهم على نحو تقديسى ضد منتقديه بديلًا عن الرد على هذه الكتب والمقاربات خاصة أن بعضها يتسم بالعمومية وضعف المنهجية التاريخية.. إلخ!

رهاب الخوف من التجديد فى الفكر الدينى الوضعى مصدره الرئيسى الرعب من أن يؤدى إلى إعادة النظر فى بعض الموروث الوضعى حول المقدس والسنة النبوية المشرفة، على نحو يؤدى إلى تقويض نزعة العنعنة النقلية، وأسانيدها، ومعها علم أصول الفقه، والمقاربات التقليدية الموروثة فى التفسير والتأويل، والخوف من دخول بعض المناهج الألسنية- فى اللغويات المعاصرة- إلى دائرة التفسير والتأويل! وهو رهاب مصدره الجمود العقلى بينما بعض النقد قابل للردود التاريخية والموضوعية الرصينة منهجيًا! لا شك أن هذا الخوف ناتج أيضًا عن عدم انفتاح بعض رجال الدين على المذاهب الحديثة والمعاصرة فى العلوم الاجتماعية وتطوراتها فى الألسنيات والتاريخ والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والفلسفات المعاصرة ونظريات القانون وفلسفاته فى النظم المقارنة.

على الرغم من أن الفقه الشيعى ينفتح فى بعض «الحوزات العلمية» على الفلسفة المعاصرة، والمقارنات بينها وبين علم الكلام! هناك تجربة تاريخية مصرية وعراقية تمثلت فى تهجين الفقه القانونى الحديث، والمعاصر ببعض المصادر والمبادئ الكلية الهامة فى الشريعة الإسلامية، على نحو ما طوره عميد فقه القانون المدنى المصرى والعربى عبدالرزاق السنهورى، فى نظرية التعسف فى استعمال الحق، فى القانون المدنى المصرى والعراقى.

الانفتاح الفكرى لبعض المجددين فى الفكر الإسلامى الحديث والمعاصر مرجعه بيئة الانفتاح الفكرى منذ نهاية القرن التاسع عشر، حتى نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضى، حيث ساد بعض من التلاقح الفكرى بين الأفكار الحداثية أو شبه الحداثية، والفقه الإسلامى، على نحو أدى إلى ظهور المشايخ الكبار خليفة المنياوى، ومحمد عبده، ومصطفى المراغى ومحمود شلتوت وعبدالمتعال الصعيدى ومعهم خالد محمد خالد، وآخرين. 

انكسرت النزعة التجديدية مع التسلطية الدينية التابعة للتسلطية السياسية والتسلطية القانونية، خاصة بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، وهزيمة المشروع الناصرى فى التنمية والاستقلال الوطنى وتراجع الاهتمام السلطوى بالثقافة، ثم توظيف خطاب الهوية من الإخوان والإسلاميين والأزهريين، وبعض السلفيين، فى تجريح السلطة الناصرية، والادعاء بأنها تؤسس لهوية مغايرة، وهو أمر بالغ الغرابة، لأن توظيف الإسلام فى شرعية النظام الناصرى وسياسته الدينية التقدمية أساس، وأيضًا توظيفه فى العمليات السياسية، والسيطرة على المجال الدينى وفى التنشئة السياسية والاجتماعية من خلال المؤسسة التعليمية ما قبل التعليم الجامعى.

مع وفاة الرئيس الوطنى الكبير جمال عبدالناصر- ولست ناصريًا- وصعود السادات إلى السلطة أعطى ظهره للتفسيرات، وللفكر الدينى التجديدى لصالح الدور الوظيفى للدين فى العمليات السياسية، فى الضبط السياسى والاجتماعى، وعمليات التعبئة السياسية والاجتماعية وفى نظام السياسة الخارجية المتغير، والمضطرب، من خلال إدراكه السياسى وتصوراته وبعض أوهامه.

والأهم فى توظيف الإسلام النقلى، والمؤسسة الدينية الرسمية والإخوان فى مواجهة قوى المعارضة الماركسية، والناصرية والقومية العربية، وبعض الليبراليين المستقلين!

لا شك أن هذا التوجه الدينى السياسى أدى إلى توظيفه فى مواجهة رهاب المثقف الذى كان يمثل مشكلة كبرى فى الإدراك الساداتى للثقافة، والمثقف بوصفه مثيرًا للأسئلة، والغليان والنقد، ويشكك فى السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة، بل وفى أنماط التدين السائدة، والمعوقة للتنمية والتطور الاجتماعى والصناعى والثقافى.

من هنا أطلق عليهم السادات وصف «الأفندية» منددًا بهم، ومستعينًا بقيم القرية، وثنائية العلم والإيمان الضدية فى محاولة ضبط الجماعة الثقافية العصية على الترويج لمشروعه الاجتماعى والسياسى، والمطالبة بالحريات العامة، والناقدة بحزم لتوجهاته فى السياسة الخارجية! ناسيًا أن المثقف أحد بناة الدولة الحديثة مع جيش إبراهيم باشا وتحديث إسماعيل باشا وبيروقراطية الدولة الحديثة.

من هنا جاءت سياسة الإقصاء للعقل النقدى الحر، ولليساريين، وبعض الناصريين من مؤسسات الدولة الثقافية لصالح نمط من الموالين، والأتباع، ضاع أثرهم الثقافى السطحى وبقى ما تراكم من سلبياتهم فى إعاقة تطور بلادهم وتخلفها!، وهو ما أثر سلبًا، وأدى إلى هجرة المثقفين إلى المنفى النفطى فى دول الخليج والعراق ولبنان وبريطانيا وفرنسا. 

فى عهد مبارك حدث بعض الانفراج النسبى إزاء المثقفين، فى ظل سياسته لدمج الإخوان فى المؤسسة التشريعية.

سياسة الدمج السياسى الجزئى لجماعة الإخوان المسلمين أتاحت الفرصة لهم مع السلفيين فى التمدد القاعدى وسط قطاعات اجتماعية واسعة، وكان ذلك سياسة النظام التسلطى الذى مايز عن خطأ، وخلل فى سياساته بين ترك مساحات وهوامش للتمدد الإخوانى والسلفى داخل المجتمع- وفئاته المختلفة- فى مقابل البعد عن السلطة وهرمية النظام عند القمة! وهى سياسة خاطئة أتاحت للعقل النقلى المحافظ والمتشدد السيطرة على المجال الدينى والعام، والتغلغل داخل المؤسسات التعليمية وجهاز الدولة، والمؤسسة الدينية الرسمية. من ناحية أخرى تم دمج بعض المثقفين الموالين داخل «حظيرة النظام الثقافية» وفق تعبير فاروق حسنى، وزير الثقافة الأسبق، مع تهميش وإقصاء المثقفين من الأجيال الشابة، لبعض السبعينيين من خارج غالب جماعة الأدباء، والأجيال الثمانينية، والتسعينية! مع هوامش لحرية الرأى والتعبير فى الصحف المستقلة وبعض الصحف القومية الرسمية كالأهرام! وذلك لقلة من المثقفين.

أدت هذه السياسة إلى تمدد العقل النقلى وإحداث تحولات فى أنماط التدين السائدة، من الوسطية النسبية، والتعايش بين القيم الأخلاقية السائدة، وبعض القيم الدينية النقلية، إلى التدين الشكلى المحافظ والمتشدد، فى ظل ازدواجية بين السلوك الفعلى، والقناع الدينى المتشدد، بين ظاهر الخطاب اليومى، وواقعية السلوك فى ظل انتشار الفساد والرشوة، والسطو على المال العام وأراضى الدولة، والتهتك الاجتماعى، والعلاقات خارج نظام الزواج، أو الموازى له! أى استمرارية النزعة الازدواجية بين المعلن فى الخطاب اليومى الدينى، وبين السلوك الفعلى فى الحياة اليومية! وتمددات للأفكار السلفية والإخوانية، وفشل سياسة مواجهة الإخوان بسلفيى السلطة، وتابعيها من المشايخ!

أدت سيطرة العقلية النقلية إلى إزاحة العقل النقدى، والمبدع، ومواجهته بالتفسيق والتكفير ودعاوى الحسبة رغم تعديل النص القانونى بتحويلها إلى شكوى للشرطة والنيابة العامة لكى تحقق فى مثل هذا النمط من شكاوى الحسبة! على نحو ما أشرنا سابقًا.

أخطر ما يواجه الإبداع، هذا الرهاب الدينى من الجماعات الإسلامية السياسية والسلفيين وبعض العوام من العقل الإبداعى، وذلك لأن سياسة هذه المجموعات والأفراد هى الهجوم على المثقفين من خلال الإبداع الفنى، نظرًا لهشاشة بعض المبدعين فى الغالب، لا سيما الروائيين والشعراء والقصاصين، على نحو ما تم فى قضية الروايات الثلاث وتحريض الإخوان أتباعهم للتظاهر فى الأزهر، وقبلها قضية نشر ألف ليلة وليلة، وغيرها من الأمثلة.

لا شك أن التواطؤ مع هذا النمط من قضايا الحسبة إزاء الخيال الخلاق، والأفكار المختلفة، هو تعبير عن العقل النقلى السائد الذى يتسم بالنزعة التعميمية، والاجتزاء، والخلط بين الواقع وعمليات التخييل فى السرديات، وأيضًا محاولة الخلط المستمرة بين السرديات الدينية الوضعية حول النظام العقيدى، والتأويلات الفقهية، وإنزالها على الأعمال الفكرية، والنصوص والسرديات التخيلية عبر معايير الحلال والحرام الضدية! دونما بحث نقدى من خلال المقاربات النظرية فى تحليل هذه السرديات المحمولة على الخيال الخلاق! العقل النقلى السائد حول الموروث البشرى الدينى، يخلط بين الآراء الفقهية وبين النص المقدس والسنة لرسولنا الأكرم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ليوم الدين! ويسعى إلى القياس فى أمور لا تستوجب ذلك، ومنها الروايات والمسرحيات والقصص والقصائد!

يميل العقل النقلى السائد إلى اللجوء إلى تسييد نمط متخيل من الأخلاقيات على هذه الأعمال واعتبارها- وهى متغيرة أساسًا- بوصفها جزءًا من المنظومة الدينية.

لا شك أن فوائض هذا النمط من العقل الدينى السائد مسيطرة، وبعيدة تمامًا عن أدواته ومناهج النقد الأدبى والألسنى، وأيضًا عما يسود فى الفضاءات الإبداعية الكونية، وتعددياتها، وتحولاتها! الأخطر أن هذا التوجه أدى إلى كبح الخيال، والروح النقدية لدى الجماعة الثقافية المصرية وأدى إلى ضعف الثقل والقوة الثقافية المصرية فى الإقليم العربى، وفى جنوب العالم! مع تدهور مستويات قيادة العمل الثقافى الرسمى، والأخطر.. الأخطر الانفصال بين التفكير الثقافى المحلى، والدينى النقلى، وبين تحولات الثقافة كونيًا!

من ناحية أخرى سطوة ثقافة الميسورين وذائقتهم الموسيقية والغنائية التى تدهورت منذ السبعينيات من القرن الماضى على ثقافة بعض الميسورين والفئات الوسطى، ثم طغيانها واستهلاكهم لها، كما حدث مع أغانى أحمد عدوية وكتكوت الأمير فى السبعينيات والثمانينيات ثم شعبان عبدالرحيم، وموسيقى وغناء المهرجانات.

هذا التحول فى الذوق الموسيقى والغنائى يمثل تعبيرًا عن التغير فى الثقافة المصرية، وأيضًا فى بروز قوة الأغلبية الشعبية وحواريها وشوارعها فى فرض قوتها العددية وذائقتها كجموع على بقية المكونات الاجتماعية الأخرى، بما فيها الطبقات الأعلى، وفرض هذا النمط الغنائى- الممزوج بموسيقى الراى وغيرها- على ثقافة المجتمع فى غالبه والاستثناءات محدودة. 

العقل النقلى السلطوى لدى بعض النقابيين فى نقابة الموسيقيين سواء المطربون أو العازفون يقف ضدهم لأسباب تتعلق بالسوق الغنائية والموسيقى والطلب على هذا النمط الغنائى من الأجيال الجديدة، ومن ثم يشكل إزاحة لبعضهم من السوق الغنائية. من هنا يلجأون إلى أساليب قمعية وسلطوية بداعى الدفاع عن الذوق الغنائى، وهو منطق نقلى وتراثى فى تحديد الذوق الغنائى، والقيم، وهو ما يتناقض مع المفهوم المتغير للذوق الغنائى، والموسيقى، والمغايرة فى الذوق والاستهلاك والإنتاج مفهوم ماضوى يتصادم مع حقائق التغير الاجتماعى واسع النطاق، لكنها المصالح، وبعضهم ساهم فى هذا النمط من الموسيقى فى بداياته!

هذا التوجه النقلى التراثى فى الموسيقى هو تعبير عن الانفصال بين سلطة الرقابة النقابية، وبين حركة الثقافة العامة فى الواقع وتحولاتها!

إن أشكال وظواهر التفكك فى تركيبة المجتمع المصرى خلال أكثر من ثلاثة عقود وانهيار سردية الانتماء الوطنى والاندماج الوطنى، وإقصاءات وتهميش بعض تمثيلات وتعبيرات المكونات الثقافية المتعددة داخل الثقافة القومية المصرية، أدت إلى ارتباكات كبرى فى مسألة بناء نظام المعنى الذى يمثل جوهر ثقافة المجتمع، فى سعيه للمعنى، والمعانى، لوجوده، وحياته، فى إطار الشرط الإنسانى، فى ظل نهاية عالم السرديات الكبرى الأيديولوجية، وغيرها، والتشظى الفعلى الذى كرسته الثورة الرقمية، وعالم الوسائط الاجتماعية وجموعها الرقمية الغفيرة، وسعى «الأفراد» الرقميين إلى إثبات ذواتهم، وتعريتها بالمنشورات والتغريدات، والصور، والفيديوهات الطلقة، والسعى وراء المواقع الإباحية.. إلخ!

لا شك أن الاختلالات الاقتصادية، والتفكك الاجتماعى وانهيار ما يطلق عليه الأخلاقيات والقيم الأسرية، فى ظل التفكك الأسرى، وارتفاع معدلات الطلاق، والعلاقات خارجه وبموازاة نظام الزواج، دلالة كاشفة عن زيف خطاب القيم الأخلاقية، وأخلاق الأسرة، والآداب العامة الذى يعبر عن فجوات بين السلطات، والجماعات الدينية والسلفيين وغيرهم، وبين المجتمع وقيمه المتغيرة!

فى عالم الثورة الصناعية الرابعة، ومشارف الخامسة، والذكاء الصناعى، وعالم الروبوتات يطرح السؤال: هل تستمر الثقافات الإنسانية تبحث عن المعنى، فى ظل هذا العالم الهادر بالتحولات فائقة السرعة، وذلك وفق الأفكار والمفاهيم الموروثة واللاتاريخية عن بعض الثوابت والأخلاق العامة؟!

فى اللحظات التاريخية الراهنة، يبدو الاضطراب والعنف، والتشيؤ الإنسانى بارزًا، ويستصحب معه التحول فى القيم وسطوة العودة إلى بعض من التطرفات اليمينية المفرطة، ورهاب الأجانب فى الدول الأكثر تقدمًا فى أوروبا وأمريكا على الرغم من اختيار أوباما رئيسًا، والسيدة رايس نائبة لبايدن، ووزراء من أصول عرقية وقومية من خارج أمريكا وانتخاب ريشى سوناك رئيسًا لوزراء بريطانيا عن حزب المحافظين، السياسى من أصول هندية مهاجرة منذ عقد الستينيات فى القرن الماضى!

ازدياد حدة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية فى القارة العجوز، والعالم قبل وبعد الحرب الروسية الأوكرانية، كل هذه المتغيرات دفعت نحو تقلصات عنيفة ارتدادية، وفى ذات الوقت كشفت جائحة كورونا عن بروز الخلل فى النظام البيئى الكونى وعدم التوازن، وأن الإنسان ليس مركز الكون، وهناك فيروسات كثيرة غير مكتشفة علميًا، وتشير إلى مخاطر وجودية على الحياة الإنسانية، ومن ثم على أنظمة المعنى لثقافات العالم المتعددة!

أحد مظاهر الاضطراب وتشتت الفكر الفلسفى الغربى، فى مقاربة هذه الأسئلة من خلال خطابات فلسفية جديدة. من ناحية أخرى لا يزال العقل الدينى المسيحى الغربى- الكاثوليكى والبروتستانتى- لا يقارب إلا قليلًا الأسئلة والتحولات الجديدة، على الرغم من تطور الفكر الدينى فى الكنائس الإمبراطورية الكبرى فى عالمنا.

العقل النقلى السائل لدينا- الدينى وغيره- يبدو محاصرًا فى سياجاته البسيطة وأسئلته الماضوية، وإجاباته الموروثة والشعاراتية! من هنا لن يحدث أى شكل من أشكال حركية العقل المصرى إلا من خلال أسئلة عالمنا، ومجتمعنا، والسعى إلى تجديد نظرتنا إلى طرائق تفكيرنا، وسلوكنا، وقيمنا، وأساطيرنا، وأوهامنا، التى تشكل سياجات مغلقة نسبيًا وتعوق تطورنا، وإيجاد حلول لمشاكلنا كافة، هل يمكن أن يتحقق ذلك وورائنا وأمامنا ثقافة النقل التباعية الدينية والمدنية أيضًا!

ألف باء التجديد الثقافى، هو تجديد العقل النقدى، والخيال المبدع الخلاق، فى الآداب والفنون والخطابات النقدية والتمايز بين العلوم الطبيعية، والإنسانية، وبين المجال الدينى وتحرير المجال العام من عالم الثنائيات الضدية الدينى، والمدنى معًا لأن ثمة سلفية علمانية مستمرة فى فضاءات ما بعد العلمنة قبل التحولات الروبوتية الجديدة، وعالم ما بعد الإنسان الذى يلوح فى الأفاق . ثمة ضرورة موضوعية لإتاحة الفرص كاملة للعقل الحر فى كل المجالات، وتحرير النظام القانونى من القيود على حريات البحث والرأى والتعبير وحرية التدين والاعتقاد وحرية الضمير التى تشكل حجر الأساس فى حركية الثقافة فى بحثها عن الأسئلة والمعنى والتطور ومواكبة عالمنا المتحول!

لم تعد حرية العقل الناقد الحر، وحمايته من الاتهامات، والهجوم الشرس، ترفًا وإنما فريضة وضرورة ونظام حياة!

حرية العقل والضمير فريضة وضرورة من هنا نبدأ وفق كتاب خالد محمد خالد الشهير فى حياتنا الفكرية الذى حرره القضاء المصرى العظيم من رِبقة المصادرة الإدارية الغشوم!