رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«البحر» ليس مصيفًا وزيًا ولكنه حضارة وثقافة

فى شهر أغسطس يسافر الناس إلى الشواطئ والقرى السياحية والمنتجعات داخل مصر أو خارجها، لقد توافرت أمصال كورونا وتحوراتها والاحتياطيات الطبية الوقائية أصبحت فى متناول الناس وقد تعلموا آليات الحماية وهم حريصون على التشبث بها.
وهذا ما جعلهم يتجمعون على الشواطئ ينعمون بالبحر والهواء المنعش غير الملوث بالضغوط وحمل الهموم، لكننى لظروف خاصة محرومة هذا العام من السفر للبحر الذى وعدته بألا أهجره أبدًا ظروف عنيدة قاهرة تجبرنى على البقاء فى "القاهرة".
من ضمن هذه الظروف أننى لم أعد أنام بشكل طبيعى، صحى، هادئ، مريح، متواصل وهذا يئثر على جسدى وبالتالى على عقلى، كل يوم أصحو من نوم متقطع مضطرب متسائل يشتبك مع جسدى، فى معركة فرضتها الأحكام العرفية ضد وجودى.
كل يوم تدخل الشمس إلى حجرتى لكنها لا تدخل إلى قلبى، تغتر الشمس كثيرًا بنفسها، تعتقد أن مجرد اشراقها كل صباح كاف لأن أؤمن بها، مسكينة الشمس دءوبة الإشراق.
كم أشفق عليها لو فقط تعلم أننى لا أستبشر خيرًا إلا عندما تختفى وراء السحاب لتشرق شمس قلبى، الأشياء من حولى تتآمر على هدوئى وسكينة روحى، وهذا ليس بالأمر الغريب، كيف أعيش فى هدوء وسكينة والعالم صاخب، زاعق، أكثر من القدر المسموح به، فى المواثيق الصحية الدولية؟ وأكثر من قدراتى على التحمل والتجاهل والتأقلم؟
أعشق "البحر" كل الناس يسافرون فى أغسطس إلى "البحر" وأنا محبوسة هنا فى "القاهرة"، منْ تعشق السباحة ونسمات البحر مثلى لا بد أن تشعر بأن الابتعاد عن البحر هو مثل خروج السمكة من الماء، لن أسافر إلى "البحر" الفيروزى هذا العام لون الشجن الممتع، لون الحزن المشتاق إلى مزيد من الآهات.
دائمًا "البحر"، ينتظرنى بكرم الضيافة كل عام، يهيئ لى جو التأمل والكتابة والبكاء الهادئ وانكسار الأمواج التى لا يكسرها شىء إلا اشتياقى.
على صفحة الماء أو على صفحة الورق أسبح ضد التيار، يشتد التيار فتصبح السباحة والكتابة أكثر إمتاعًا، يعاندنى التيار، يخيفنى بالدوامات، يسحبنى بعيدًا عن الشاطئ، يحرض ضدى العشب والأسماك والصخور والعيون المتطفلة، وأواصل لامبالية رحلتى مع البحر ورحلتى مع القلم.
شغلتنى دائمًا العلاقة بين السباحة والكتابة، أتأمل الخيوط المشتركة بين حركة الجسم فوق الماء وحركة العقل فوق الورق.
عاشقة أنا للسباحة إلى حد الهوس وأمارسها يوميًا على مدار العام، وعاشقة أنا للكتابة إلى حد الهوس، أمارسها يوميًا على مدار العام، ويدفعنى هذا العشق والهوس لإيجاد علاقة ما بين تدفق الماء وتدفق الكلمات؟ بين السباحة والكتابة، بين الماء والحضارة، بين البحر والثقافة.
قبل إقامة صداقة مع أى شخص، امرأة كان أو رجلًا، أسأله: هل تجيد السباحة؟ هل أنت فى تواصل دائم مع الماء؟ هل تثقفت على أمواج البحر؟ ولهذا السبب ليس عندى أصدقاء.
أؤمن مثل الفيلسوف اليونانى طاليس، تقريبا 624 - تقريبًا 546 ق. م، بأن الماء هو أصل كل الأشياء والجوهر منه خُلقت الأرض والسماء ليست مصادفة أن نسبة الماء فى جسم الإنسان هى النسبة نفسها للماء على كوكب الأرض، ثلاثة أرباع.
لا ينتابنى شك فى أن مأساة البشر تكمن فى ابتعادهم عن قيم وأخلاقيات وعواطف التى تشكل فى مجموعها ما أسميه "حضارة الماء"، كيف نتوقع خيرًا من حياة تخاصم أصلها؟ كيف يرتقى البشر وهم منفصلون عن جوهر الوجود؟
الناس مؤرقون بالبحث عن الفلوس والنفوذ والسيطرة والتملك ليس لديهم الوقت أو الفلسفة للبحث عن أصل الحياة، من الإنصات لموسيقى الكون نكتشف أجمل الغِناء من قاموس المطر نتعلم فن الشِعر، كل النبؤات العظيمة كانت تبشر بزمن الماء.
القصائد الخالدة كُتبت كلها بلغة البحر.
"البحر"، يعلمنا الانفتاح اللانهائى وتقبل الأفق الذى يحتوى على كل الألوان، ثقافة البحر متجددة، ثرية، مدهشة، لا تعرف التنميط والرتابة والجمود.
مع البحر أدركت التشابه بين السباحة والكتابة، فكما الماء أصل الحياة، الكلمة أصل الحضارة، السباحة تنظف جسد الإنسان، الكتابة تنظف جسد شعب. 
أكثر من أربعين عامًا ونحن نستهلك حضارة الصحراء، حضارة غريبة عن أرضنا لا تشبه المزاج المصرى المعتدل، المحب للحياة والحب والرقص والغناء، حتى أزياء النساء وأحوال الطقس أصبحت متزمتة قاسية، الخلاص هو العودة إلى حضارة الماء وزمن المطر وثقافة البحر. 
 
من بستان قصائدى 
  لم يشغلنى إيجاد العرسان 
  وارتداء تاج الزواج 
  أو تاج ملكات الجمال 
  لم تهمنى الجواهر والأساور 
  لم أصادق رجال الأعمال 
  يشتروننى بالفيلات والمنتجعات
  أحلامى 
  تاج الشِعر 
  وأن أنام فى حضن الدفاتر