رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد الشهاوى بمهرجان الفحيص: جريس سماوى شاعرٌ مُتعَب القلب اكتملَ بذاته

أحمد الشهاوي
أحمد الشهاوي

قال الشاعر أحمد الشهاوي، خلال مشاركته في حفل تأبين الشاعر الأردني جريس سماوي، والذي أقيم على هامش مهرجان الفحيص الثلاثين: عاش جريس سَمَاوي الشَّاعر المُنصت إلى المعنى في جمالهِ وتعدُّدهِ "على قلقٍ" كجدِّه في الكلام المُتنبِّي، الذي كان يعتبرهُ الأب "في القصائد والشِّعر"، حيثُ تواشجَ معه وتناص، كأنَّه يرتِّب شاهدةَ القبرِ؛ لتحمل ما جرَّد وكثَّفَ، ويكتبُ في دفتر الكوْنِ سيرتَه ومسيرتَه؛ حادسًا بموتِه المُبكِّر المُفاجِىء على استحياءٍ، مُتسائلًا : أقصيرٌ طريقنا أم يطولُ ؟

وتابع “الشهاوي”: لكنَّ مُغامرتَه الشِّعريةَ الأخيرةَ - التي ظلَّ يؤجِّلُ نشرَها سنواتٍ - بقدر ما جاءت مُتنوعةً؛ فإنَّها دالةٌ عليهِ، خُصُوصًا لمن عرفَ الشَّاعرَ من قُربٍ، كأنَّما رفض البوْحَ به، أو ما كان يبوحُ به إلى الأقرباء في الحياة، قاله الشَّاعرُ فيه، باعتبار أنَّ لحظاتِ الكشْفِ والتجلِّي هي الأنقى والأصدق لدى الشَّاعر، الذي عاش الأسئلةَ المُضْمَرةَ في الحياة والموت وألحَّتْ عليه، واجتمعت بشكلٍ أساسيٍّ في هذا الديوان، حيثُ نجدُ الشَّاعرَ يعيشُ تجربةَ الموت فلسفيًّا؛ لذا يتكثَّفُ منطقُ الحدْسِ بشكلٍ جماليٍّ هنا أكثر من أيِّ وقتٍ آخر عند الشَّاعر، حيثُ يفكِّرُ بصوتٍ عالٍ خالٍ من النشيدِ والهتافِ في مُفردةِ الموتِ ، ليصلَ إلى المعنى الذي يريدُهُ، والذي تريدُهُ القصيدةُ، وما الشَّاعر إلا مُحاولاتٌ مُتكرِّرةٌ للوصُولِ إلى الجهةِ الأبعد مما يبتغِي : «أنا لا أباهي هُنا بالخَساراتِ..لكنَّ بابَ الفجيعةِ مُنفتحٌ كالمسَارِ على رَدْهةِ الموتِ».

 

"تمهّل قليلًا إذنْ أيُّها الموتُ

كيما يودِّعُ موتَى قريبُونَ موتَى بعيدينَ في موتِهِمْ

وتمهّلْ كذلك كيما يقيمُ الفراغُ احتفالاتِه

باندثارِ الحياةِ على الأرضِ

كيما يدثّرها بالخرابِ».

 

بحثَ الشَّاعرُ مُتواصلًا عن "عُشبة الحياة" في الشِّعر، لكنَّ مُغامرة الشِّعْرِ انتهت بالموتِ، الذي لا يُمْهِلُ من يخوضُ التجربةَ، خُصُوصًا مع شاعرٍ عانى الفقدَ والخُسران، بل فُطِرَ عليه ، وأوجعته الأسئلةُ، وحيَّرتْ رُوحَهُ :

"لمن يكتبُ الشَّاعرُ القَرويُّ الذي عاشَ تجربةَ الحُبِّ كالله ؟

لمن يضعُ الوزنَ والأغنيات؟

لمن هُو يلعبُ بالعُود

والناس محضُ نشاز ؟ "

وأردف “الشهاوي”: في رأسِ جريس سماوي آلافُ القصائدِ لشُعراء من الشَّرق والغرب، وكذا آلاف النصُوص المقدَّسة وغير المقدَّسة، لكنه يقفُ طويلًا أمام المُتنبِّي (303 - 354هـجرية / 915 - 965ميلادية) والشَّنْفَرَى صاحب لامية العرب (توفي نحو 70 قبل الهـجرة = 525 ميلادية) الذي عاشَ في البراري والجبال وحيدًا حتى ظفرَ به أعداؤه فقتلوه.

كما في رأسه التوراةُ والإنجيلُ والقرآنُ؛ ولذا لا يبدو مُستغرَبًا عليه عندما يُسمِّي ديوانه "ثَلاثُ لَيالٍ سَوِيًّا" ، حيثُ رأى أنَّ علامته ﴿ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ﴾ أي: أن يحبسَ لسانَه أو يعتقلَهُ عن الكلام ثلاث ليالٍ، وهو صحيحٌ سويٌّ من غير مرضٍ ولا عِلَّة، ولا يتكلم إِلَّا رَمْزًا و إشارةً في شِعْرِه الذي وصلَ إلينا عبر هذا الكِتاب الذي حفظه واعتنى بنشره صديقُه – صديقُنا الشَّاعر زهير أبو شايب، حيث كان جريس يثقُ به ثقةً لا حدُودَ لها أو سواحل :

" إنِّي سأرحلُ كالشَّنْفَرَى

راحلٌ كالصَّعاليك

إلى وطنِ الشِّعْرِ والغيْب

وما وطنُ الغيْبِ إلَّا أنا

أنا رحلتي داخِلي

أنا سَفَري نحوَ ذاتي

وذاتي مكانٌ بعيد

بعيدٌ هناكَ على طرَفِ الكون

لمن أقرأ الحُزنَ وحدِي إذن؟

ولماذا أغنِّي؟ ".

ولفت “الشهاوي” إلي: لنتأمَّلَ العلاقةَ بين جريس سماوي وجدِّه الشَّنْفَرَى - أحد وجُوه صعاليك الشِّعْر العربي في العصر الجاهلي - الذي هجَرَ قومَه وأقام في الصَّحْراء متآلفًا مع الذئاب ، وتركَ لنا قصيدتَهُ الشَّهيرة :

أَقيموا بَني أُمّي صُدُورَ مَطِيَّكُم

فَإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لَأَمْيَلُ

...

في هذا الديوان يؤرِّخُ جريس سماوي أيامَهُ بالشِّعر، ويكشفُ سِرَّهُ ، كأنهُ كان يكتبُ سيرتَه الأخيرة، ويضيئ للموتِ الطَّريقَ، ويرشدُهُ إلى البيت، بعدما رأى ذبح "المقامات والشِّعر"، فمنذ بدايات الكِتاب يطوفُ الشَّاعر في المعنى، ويرحلُ في الكلام .فهو يدخل وهو في مقام الازدلاف أو الدنو والاقتراب: " كعبتي داخِلي / وحجيجي معِي"، "دعوتي لوعتي" وطوافِي / حول رُوحي " فالشَّاعر في الديوان يعرف المُتَّجَهَ، ويحدِّد المَقْصِدَ الذي يبتغيه؛ مُستخدمًا الحوار في النصِّ، وموظِّفًا الرموز ذات الدلالات الدينية . و"الحوار – خُصوصًا الداخلي الذاتي - كالشِّعر لا مكانَ فيه للكلمة الزائدة "؛ ليُسْهِم في بناءِ النصِّ، وخلق التلاحُم فيه، ويكُون مُعادلًا للنفس، ويأخذ صُورة المُناجاة، حيثُ يخاطبُ ذاته، أنا الشَّاعر المُتحيِّرة التي يخشَى الشَّاعر أن تكُونَ قد أضاعت الطَّريق.

ربَّما في هذا الكتاب الشِّعري على وجهٍ خاص أطلَّ جريس سماوي "على نُقَطِ الضَّوْء" داخله حيثُ كتابة الرُّوح شِعْرًا، وخارجه حيثُ الوطن الذي يحمل؛ كي يصلَ إلى مقامِ السرِّ عبر لُغةٍ مُتقشِّفةٍ، وإيقاعٍ هادئ غنيٍّ في تعدُّده الفني .

ويمضي “الشهاوي”: هذا الكتاب أكان الرسالة الأخيرة للشَّاعر ؟ أكان بيانه في الكتابةِ، حيثُ كتبَ في مواضعَ كثيرةٍ من ديوانِهِ عن الشِّعرِ داخل الشِّعر، على عادة الشُّعراء المهجُوسين بطرائق التعبير وجماليات الكِتابة، هو ديوانُ اعترافِ الكائن الملآن حُزنًا : "مسَّني الحُزنُ.. لامسَني كالنَّدَى ..كالغمامِ الشَّفيف .. مسَّني كالخَدَرْ"

يكثرُ التعبيرُ باستخدام ضمير المُتكلم أنا الفاعل، حيث تطغى الذاتيةُ على النصِّ، إذْ يعُودُ الكلامُ على صاحب الكلام نفسه: "تصوفتُ في حضرةِ الحُزن شيخِي". وأحيانا يستخدمُ ضميرَ الغائب الذي يُكنَّى به عن الغائب، لكن الغائب هنا حاضرٌ، تقديره "أنا " الشَّاعر الذي يكتبُ في نصِّهِ "المزمُور المُتعب" : "على من سيلقي الفتي القويُّ مراثي وكيف يؤبِّن أحزانَهُ في البعيد ؟ لمن يقرأُ الحُزنَ".

واختتم “الشهاوي”:  جريس سماوي شاعرٌ مُتعَب القلب اكتملَ بذاته، واحتضنَ بيديه العابدتين المُنصتتيْن.