رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحقيقة تبقى.. ولو طال الزمان

من الرجال صُناع للتاريخ، ليأتي ذلك التاريخ، يومًا، ليصب جام غضبه عليهم، لا لشيء إلا لأن من كتبوا سطوره كانوا من أصحاب الهوى، الذين لا همّ لهم إلا إهالة التراب على كل مُنجز حضاري، أراد للأمة أن ترتقي، وتأخذ مكانها بين الأمم المتقدمة.. ومهما غالى هؤلاء الكاذبون في كذبهم، فإن من الرجال خُلصاء يتصدون لكشف حقيقة ما جرى، خصوصًا وأن إنجازات العظماء تظل قائمة، شاهدة على عظم ما أنجزوا وقيمة ما قدموا لبلادهم، حبًا فيها، وانتصارًا لها، بعيدًا عن أولئك الذين اكتفوا من التاريخ بحكايات المقاهى عن الفقر والديون.
حينما يكون الحديث متعلقًا بشخص اختلف حوله المؤرخون، مثل إسماعيل باشا بن إبراهيم بن محمد على أو (الخديو إسماعيل)، يصبح الخوض فى التاريخ  كالخوض فى البحر الهادر بأمواجه وتقلباته.. فالبعض يؤكد أنه جر على مصر الخراب وكبلها بأغلال الديون وفتح الباب أمام الاحتلال البريطانى ـ وهذا كذب بواح ـ بدون حاجة ماسة إلا (الفشخرة) أمام أصدقائه الأوروبيين، وحتى يبدو وكأنه أحد ملوك ألف ليلة وليلة القادم من أعماق التاريخ، حيث السحر والغموض والأساطير.. وهناك آخرون لهم رأى مختلف، أمثال بيير كرابيتس، القاضى بالمحاكم المختلطة الذى عاصر جزءًا من حكم إسماعيل، وكتب كتابًا بعنوان (إسماعيل المُفترى عليه)، أكد فيه أن الأقوال التى قيلت فى إسماعيل تنطوى على جور وافتراء وتشويه للحقيقة، وإن فى الأوراق الرسمية الموجودة فى المحفوظات الملكية بقصر عابدين ما يكفى لإنصافه، كما  كتب بيردسلى، قنصل الولايات المتحدة فى مصر، رسالة الى وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 15 سبتمبر 1873، أى بعد عشر سنوات من حكم إسماعيل، قال فيها إن إسماعيل قد أدى واجبه بمعرفة فائقة للرجال وبواطن الأمور، ومهارة إدارية قلما تصادف عند الأمراء الشرقيين، فمنذ ارتقائه للعرش وهو يتوافر على رقى مصر الداخلى، بمواهب نادرة وهمة لا تعرف الكلل، إن الوالى النشيط لا يعرف الوهن إليه سبيلًا، على أن جهوده المتواصلة بدأت تنال من بنيته القوية، فهو يغادر الفراش فى ساعة مبكرة، وكثيرًا ما يسهر أناء الليل مكبًا على دراسة المسائل المتعلقة برفاهية بلاده، وهو يستدعى وزراءه فى أى ساعة من النهار أو الليل.
لقد أدرك الخديو إسماعيل أن العالم ليس به إلا حضارة واحدة، هى الحضارة الغربية، وأن أى أمة تريد أن تنهض لابد أن تتبع علمها ونهجها، وعندما زار باريس بُهر بالمدينة، والتقى ذلك مع ثقافته الشاملة، التي تكونت خلال سنوات دراسته فى فيينا عاصمة النمسا، وفى باريس التى وقع فى غرامها، ومن تخطيطه، استلهم تصميم القاهرة الحديثة التى نطلق عليها الآن (القاهرة الخديوية)، التى تشهد الآن عملية ترميم وعناية كبرى تعيد إليها رونقها.
ويُعد كتاب الدكتور مصطفى الحفناوى، صاحب رسالة الدكتوراه عن قناة السويس، التي نوقِشَت فى جامعة السوربون بالفرنسية، ثم تُرجِمَت وطُبِعَت بالعربية في أربعة مجلدات عام 1951، أروع دفاع علمى تاريخى عن حقوق مصر التاريخية والقانونية فى قناة السويس، هذه الموسوعة قرأها جمال عبدالناصر قبل أن يتخذ قراره بتأميم القناة، التقى بمؤلفها شخصيًّا قبل 26 يوليو 1956.. ولا أعرف كتابًا ينصف الخديو إسماعيل مثل هذا المؤلَف، الذى طالب فيه مؤلِفه عام 1951 بتأميم قناة السويس قبل انتهاء امتيازها عام 1968، وقال بالنص إنه لابد من تأميم القناة قبل هذا التاريخ، وهذا ما قام به عبدالناصر.. كان موقف الخديو إسماعيل يتلخص فى عبارة كان يرددها دائمًا (لقد أرادوا مصر للقناة، ولكننى أريد القناة لمصر).. هذا الموقف الحافل بالتفاصيل التى يذكرها الدكتور مصطفى الحفناوى فى كتابه الموسوعى، يجب أن نتذكره من منظور إيجابى، لإنصاف الخديو إسماعيل من التشويه الذى لحق به، والذى تطوع به البعض، من أن كل ما كان فاسدٌ ومشوهٌ.
الحفاظ على حقوق مصر فى القناة، أول مأثرة لهذا الحاكم العظيم الذى تحلى بوطنية جارفة، والمأثرة الثانية التى تُحفَظ للخديوى إسماعيل، بناء العاصمة الحديثة لمصر.. لقد استدعى المعمارى الفرنسى العظيم هوسمان، الذى خطط باريس الحديثة وصمم ميادينها الرئيسة وشوارعها المستقيمة، استعان به لتصميم القاهرة الجديدة.
أقام الخديو إسماعيل بمصر حكومة إصلاحية، فقامت بأول عملية إصلاح قانوني وتشريعي، بعد أن كان القضاء لا يزال يعمل بنظام قاضى الأرياف، الذى لا يعلم شيئًا عن العالم الخارجي.. وكان نتيجة هذا الإصلاح إنشاء المحاكم المختلطة، بما يُمكّن للقضاء المصرى محاكمة الأجانب، فى حين كانوا يسلمون قبل ذلك إلى قنصليات بلادهم لمحاكمتهم عن جرائم ارتكبوها بمصر.. أقام الخديو إسماعيل نظامًا ماليًا جديدًا يسمح بالمحاسبة الضريبية العادلة وفقًا لنظام تصاعدى.. وأسس موازنة للدولة منفصلة عن موازنة الدايرة (القصر)..  أصر الخديو إسماعيل على التخلص من تجارة العبيد نهائيًا، حتى أنه فرضها على كل الأقطار الإفريقية الواقعة تحت حكم مصر.. كما أصر على تطبيق المساواة بين كل المواطنين، أيًا كانت خلفيتهم الدينية، فأرسى مبدأ الوحدة الوطنية لأول مرة فى مصر.
قام بإعلاء شعار (مصلحة الشعب وسعادة الشعب)، مما اضطر الدول الأوروبية إلى قبول مبادئ الحكومة المصرية عندما كانت تصطدم بمصالحهم التجارية.. وأسس أول برلمان مصرى (مجلس نواب الشعب)، الذى بدأ أول أعماله باعتماد ميزانية الدولة فى يوليو 1871.. واجه الخديو إسماعيل مشكلة تفتيت الملكية الزراعية، عن طريق شراء أراضى غير القادرين على زراعتها والتعايش من عائدها.. وقرر إلغاء نظام السخرة نهائيًا، بما فى ذلك عمالة السخرة فى حفر قناة السويس.. وفى ذات الوقت استرجع من شركة القناة 80% من الأراضى التى كانت قد تملكتها بموجب حق الامتياز.. وقد تحملت مصر فى ذلك الوقت تكلفة إلغاء هذين البندين مبلغًا قدره 124 مليون فرنك، (يقدر بمليارات الآن).. ووافق على سداد هذا المبلغ الضخم حتى لا ينتقص شيئًا من سيادة مصر على أرضها، ومن كرامة العامل المصري.
يضاف إلى ذلك كله، إنشاء العديد من قنوات الرى والسدود، وتمت إعادة إحياء ترعة المحمودية وتطهيرها، وتم استصلاح آلاف الأفدنة، بالإضافة إلى ترعة الإسماعيلية.. إنشاء شبكة خطوط سكك حديدية للمسافات البعيدة.. إنشاء نظام البريد وجميع مبانى البريد فى كل التجمعات السكانية.. إنشاء عدد كبير من المدارس، ولأول مرة العديد من مدارس البنات.. إنشاء العديد من المصانع، وخاصة مصانع الطوب.. إنشاء المتحف المصرى، والأوبرا المصرية.. إنشاء حى وسط (القاهرة الخديوية).. إنشاء مدينة الخرطوم (العاصمة الحالية) بالسودان.. فكرهت أوروبا هذا الحاكم المصلح المتمسك بمصريته.. فكان الخداع الذى قامت به البنوك الأوروبية لحساب فوائد تراكمية للديون، بما سمح لها بفرض الوصايا المالية على مصر.
وعندما ضجر إسماعيل باشا من هذه الوصايا، حاول تنظيم تحرك من الجيش لاسترجاع كامل استقلال البلاد، فما كان من الإنجليز، بمعاونة شركة قناة السويس، إلا الضغط على السلطان العثمانى لخلع إسماعيل باشا، عام 1879، ونفيه خارج البلاد، واختارت بريطانيا ابنه توفيق، الموالى لهم، لحكم مصر.. فلنحذر من هؤلاء الذين يشوهون صورة حكامنا ويبررون التصرفات الاستعمارية، فالتاريخ يتكرر أحيانًا.
وفى النهاية.. ما أشبه الليلة بالبارحة، ولعنه الله ومقته وسخطه وغضبه، على كل من يزور تاريخك يا مصر.