رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من حُسن حظى أننى أنام وحيدة

قال محمود درويش - 13 مارس 1941 - 9 أغسطس 2008-  شاعر أقدره وتختبئ فى أعماقى بعض من حكمته وطريقة تذوقه للعالم "من حُسن حظى أننى أنام وحيدًا فأصغى إلى جسدى وأصدق موهبتى فى اكتشاف الألم".
هذه المقولة الفلسفية الشاعرية التى تتدفق شِعرًا وشجاعة وفهمًا عميقًا للحياة وللذات اختبرتها عقليًا وأيضًا عشتها بأعصابى وعواطفى واغترابى وهى تناسبنى تمامًا وتتناغم مع طباعى فى النوم وحيدة بجسد أملكه وأقرر أنا ولا أحد غيرى مصيره وسلوكياته ومعايير شرفه وكرامته.
مقولة تعتبر أن اكتشاف الألم موهبة تحتاج إلى وحدة واستغراق وتركيز تمامًا مثل كتابة الشِعر، والرواية والقصة، وهكذا ترتفع مكانة الألم ويفتح لنا دروب أسراره العظيمة التى لا تقل أهمية عن أسرار الكون والنفس.
أغلب البشر يتفننون فى تفادى الألم ويهرولون إلى المتعة وهم يعتقدون أن هذه هى السعادة والحياة ذات المعنى، أعتقد أن القضية ليست فى الألم أو فى المتعة فى حد ذاتهما ولكنها كيف ننظر إلى الألم وإلى المتعة، كيف يكون الألم طريقًا للمتعة وسببًا جوهريًا لعمقها وشرطًا لا غنى عنه لجنى الثمار المتفردة المفيدة.
هناك سوء تفاهم أزلى أبدى بيننا وبين الألم، البعض يراه شرًا والبعض يراه عدوًا والبعض يراه ضعفًا والبعض يراه شؤمًا  والبعض يراه نحس الحظ، البعض يراه عائقًا أمام الإبداع والإنجاز، والبعض يراه سمًا فتاكًا قاتلًا والبعض يراه شقاء والبعض يراه مؤامرة والبعض يعتبره داء.
لكن الحقيقة أن الألم هو مصدر كل الاكتشافات العظيمة وهو سر النبوغ الفكرى وهو الدواء المُرْ الذى نشربه من أجل الشفاء وقهر المرض.
الألم يصنع الفارق بين الإنسان الحقيقى والإنسان الديكور، الإنسان الصلب والإنسان الهش، الإنسان الحكيم والإنسان الأحمق، الإنسان فى أعلى مكانته والإنسان فى أدنى مراتبه، الألم هو البطاقة الشخصية الدالة على منْ حقا نكون الآن ومنْ سنصبح فى المستقبل، لقد عانقت سحابات من الجمال لكننى لم أمطر ولم أذق نشوة التحليق إلا حينما امتزجت واحتفيت بلحظات الألم.
بل إننى أدركت أن كل متعة حقيقية لا تستطيع الدخول إلينا إلا إذا أخذت "تأشيرة" معتمدة من الألم، لا شىء يؤهلنا لمعرفة وتذوق الجمال مثل ألم تنزف له الروح وتضطرب معه كيمياء الجسد.
ألم يعتصر الكيان ويأبى إلا أن نشرب حتى الثمالة رشفات المرارة، الألم ليس عضوًا غريبًا ينمو فى جسد الحياة إنه "القماشة" المتجددة التى صنعت نسيج الحياة فى إتقان مبدع، الألم إذن هو قدر البشر.
تكمن مشكلة الإنسان فى كل زمان ومكان فى محاولته المستمرة للهروب من نصيبه الطبيعى من جرعة الألم مدفوعًا بقناعة خاطئة أن الحياة دون ألم أجمل، لكننى أعتقد أن الحياة الخالية من الألم حياة لا طعم لها، وإذا كان الألم هو المادة الخام أو النسيج الطبيعى اختارته الحياة لتصنع مأساتها النبيلة، فإن تفادى الألم يعد خيانة عظمى للحياة.
إن الشخص الذى ينتحر يقول: "ألم الحياة أكثر مما أحتمل"، وأكثر الناس يريدون الحياة بشروطهم هم لا بشروط الحياة، يريدون حياة هاجرت من وطن الألم وهذا مستحيل مثلهم كمنْ يريد للطائر التحليق شرط أن يقص جناحيه.
إن الرغبة فى استبعاد الألم ليست فقط خيانة للحياة ولكنها أيضًا خيانة لأنفسنا فقط الألم يكشف عن طاقاتنا الكامنة وعن قدراتنا المختبئة، والمفارقة المدهشة أنه كلما ازداد الألم ازدادت عظمة ما نكتشفه، الألم نار تحرق النفوس الضئيلة الخاوية لكنه نور يضىء النفوس الممتلئة الثرية، إذن الهروب من الألم ضرر جسيم.
تجارب الألم تجعلنا نعيد ترتيب الأشياء وتجبرنا على إعادة تأمل الحياة وكيف نعيد الانتماء إليها والخروج بصياغة جديدة تقوينا وتسعدنا وتمنحنا الحكمة، من تجاربى الخاصة مع الألم أقول إن كل الأشياء "الجميلة" تنطوى على قدر ما من الألم، المنظر الجميل مؤلم، الذكريات الجميلة مؤلمة، الفن الجميل مؤلم والإنسان الجميل مؤلم، والحب الجميل مؤلم.
علمتنى الحياة ألا أخاف لحظات الألم، علمتنى أن أفتح لها الباب، أحسن استضافتها، أتعطر وأرتدى لها أجمل أثوابى، أجالسها وأشرب معها نخب زيارة لست من الحماقة أو التطفل لأردها الإنسان القادر على التألم العظيم هو وحده القادر على الإحساس العظيم، هو المثقف الأكبر والمتحضر الأرقى القادر على إعطاء الآخرين إضافة حقيقية من المعرفة والمحبة والفرح.
من بستان قصائدى
- دون سبب متوترة.. أذهب لإعداد فنجان
- من القهوة الفورية.. أضع السكر
- أخفى توترى.. أقلبه بهدوء متمهل
- دون عصبية.. على وجه الفنجان
- أرى كل حياتى.. العلنية والسِرية
- أرى حسرة قلبى.. أرى تاريخ أحزانى
- أرتشف القهوة.. السكر غاب عن المذاق