رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خليفة عمر فتحى فى حضرة الرئيس

 

كان الأمر مدهشًا ومربكًا ودافعًا للسعادة فى آن واحد، بالنسبة لى.. شلال من عصافير البهجة طارت فجأة وحطت فى حجرتى.. اليوم عيد.. ورغم أنه العيد الأصعب والأكثر حزنًا لأنه الأول بدون والدتى.. غبت لحظات عما أعانيه بمجرد أن دست على زرار الريموت ووجدتنى، ولمدة ساعتين، وكأننى فى قاعة الاحتفال بمركز المؤتمرات.

ليست هذه المرة الأولى التى يحضر فيها الرئيس صلاة العيد ومن بعدها إفطارًا جماعيًا مع أبناء الشهداء.. لكنه هذه المرة احتفال ذو طبيعة خاصة ومميزة.. كان إحساسى من اللحظة الأولى لا يكذب.

الحالة التى امتلأت بها الشوارع فى العالم كله وفى القلب منه مصر.. تقول بأننا كنا فى حاجة إلى لحظة واحدة يقف فيها العالم كله متضرعًا إلى الله أن يقينا الأشرار والشر.. وأن يرفع عنا البلاء والغلاء والمجهول الذى لا نعرفه.

تداعيات فيروس كورونا الغامض التى حرمت الناس لمدة عامين من كل ما كانوا يحسبونه عاديًا، جعلت العالم كله وكأنه غادر محبسه توًا.. الصور التى حملتها وكالات الأنباء والتى شاهدناها بأعيننا كانت أقرب إلى لحظة الإفراج التى يعيشها المحبوسون قهرًا.. نعم.. العالم كله كان يشعر بأنه مقهور بفعل ذلك الكائن الغامض الذى هاجمنا فهدد حياتنا وأرواحنا لشهور.. وقبل أن يرحل سرق من الكثيرين منا أنفاسهم وأجسادهم وعقولهم ونقودهم أيضًا.

وكان المشهد مبهجًا ومربكًا فى آن واحد.. شوارع بكاملها فى القاهرة امتلأت بالمصلين.. الذين امتطوا كل شىء وأعلنوا عن تحديهم لأى شىء يمنعهم من اقتناص دقائق تعيد إليهم إحساسهم بالحياة.. حتى وإن تجاوز بعضهم كما فعل أولئك الذين صلوا على مزلقان القطار فى إحدى مدن الدلتا.. وأجبروا سائق القطار- والحمد لله أنه فعل- على التوقف لدقائق حتى تنتهى صلاة العيد.

أمام الشاشة جلست مرتبكًا أنا الآخر وأنا أحبس دموعى وطفلة صغيرة من أبناء الشهداء تلتف حول عنق الرئيس عبدالفتاح السيسى فى براءة ترفض ترك أحضانه.. ومن قبلها تلك الطفلة الصغيرة التى نظرت إلى صورة والدها البطل الشهيد، وأشارت إليه بأصبعها الصغير وهى تخبر الرئيس بأنه «الأب»، وكأنها تقول ها هو هنا معنا يحتفل بالعيد.. ثم تميل من على كتف الرئيس، الذى شالها بأبوة تليق بها، لتضع قبلة على رأس أخيها الصغير الذى تساقطت دموعه فى لحظة التكريم.

المشهد.. إنسانى بالدرجة الأولى.. هو الآخر دليل حى على أننا نحب الحياة.. بكل ما فيها.. ونكره كل ما يحرمنا منها أو من الاستمتاع بها.. يحرمنا من كوننا بشرًا عاديين.. نصوم ونصلى ونفرح بأطفالنا وبلحظة اسمها العيد.

وسط ذلك كله انتبهت إلى صوت كريم حراجى.. هذا الشاب الصعيدى القادم من الأقصر.. وسط فريق أيامنا الحلوة.. يغنى أمام الرئيس مع زملائه لحن زكريا أحمد البديع «يا ليلة العيد آنستينا».. ثم شارك فى أغنية أخرى لأبطالنا «الأسود».

الأمر قد يبدو عاديًا وخارجًا عن السياق بالنسبة لمن لا يعرف كريم وقصته.. هذا شاب مصرى مثل آلاف المصريين.. البسطاء.. والده رجل بسيط رحل منذ فترة بسيطة.. اكتشف فيها قدرته على الغناء وشجعه وصار أمر نجاحه فيما اختار حلمًا للوالد والولد.

الأسرة البسيطة فى إحدى قرى محافظة الأقصر لا تعرف كيف ينجح المطربون أو من هم فى ساحة الفن، ولا تعرف إلا ما يشاع عن أن كل شىء بالواسطة، وهم لا يملكونها.. لذلك حاولوا على استحياء منع كريم من الاستغراق فى ذلك الحلم.. حتى رحل الأب.. وكاد الشاب البسيط الذى يشارك كثيرًا فى حفلات الذكر والإنشاء ويُعلم نفسه بنفسه أن يصدق أنه لن يستطيع أن يغادر قريته ومحافظته.. وأنه لن يصل فى يوم من الأيام إلى ما وصل إليه ابن مدينته الراحل عمر فتحى صاحب أجمل نغمة مبهجة فى تاريخ الغناء المصرى.

وكان أن وجد ضالته دون قصد مع زميل له من أسيوط فى «اليوتيوب».. يسهران معًا..ويغنيان ما يحلو لهما من أنغام لبليغ حمدى الذى يعشقه كريم ثم يرفعان الفيديو.. لتبدأ مراهنات من يعرفهما على صوتيهما.. وشهرًا وراء الآخر يحظى كريم وصاحبه إسلام بقدر من التشجيع من جمهور السوشيال ميديا.. ثم يبدأ الفتى رحلته إلى القاهرة ليشارك مع صاحبه فى بعض تجارب ساقية الصاوى ومن بعدها عدد من التجارب الخاصة فى أغنيات خاصة لم تجد لها الحظ المناسب وإن بشرت بقدوم صوت مصرى خالص يملك الكثير من مؤهلات الصوت الحلو الذى لا يشبه أحدًا.

وكان أن جاءت الفرصة.. أو هى نصف فرصة.. ليشارك فى حلقة مميزة مع الإعلامية إسعاد يونس وبرنامجها الأشهر «صاحبة السعادة».. وكأن السعادة أخيرًا تشاور له وتستقطبه.. وبعدها بدأت الأحلام تأخذ طريقًا مختلفًا.. كاد أن يقترب من تحقيق ما جاء من أجله من الجنوب.. لكن الحظ لم يحالفه وذهبت الأغنية الموعودة لنجم كبير يحبه.. وقال خيرها فى غيرها.

لم يكن يدرك كريم حراجى ابن جنوبنا الملىء بالمواهب.. أن لحظة سعادته مدخرة.. كريم الذى يملك قماشة صوتية نادرة تجمع بين البهجة والشجن فى وقت واحد.. البساطة والعمق فى آن واحد.. الروح المرحة والتحكم الواثق فى الحنجرة فى آن واحد.. كل تلك الإمكانات التى رآها وعرفها من لهم علاقة بالموسيقى وأخبروه عنها.. جعلته يشعر بأن «الفرج والفرح» قريبان جدًا.. فكان أن اُستدعى من «الأقصر» للقاهرة ليشارك مع «أيامنا الحلوة» فى الاحتفال الخاص بالعيد وليقف مذهولًا أمام الرئيس فى لحظات تسبق إشراقة يوم جديد وفى لحظة احتفاء خالصة بأبناء شهداء مصر.

الأمر ليس بسيطًا لمن لا يعرف.. فهى رسالة جديدة.. ومتجددة.. أن بلادنا بخير.. وأن ذائقة المصريين بخير.. وأن الأحلام قابلة للتحقق.. وأن أبناء الجنوب البعيدين عن القاهرة والذين كانوا يشعرون بأنهم مهمشون ولا أحد يسمعهم أو يعرف عنهم شيئًا.. صاروا يحصلون على أحلامهم دون «واسطة».. فقط لأنهم موهوبون.. ويستحقون.

رسالة كريم حراجى الذى أعتقد أنه سيكون نجمًا عما قريب.. هى أننا قادرون على تجاوز لحظاتنا الصعبة.. وأننا شعب مخلوق للفرح ولاقتناص لحظاته من وسط الأنواء.

رسالة كريم حراجى الذى أثق بأنه سيكون أحد الأصوات المصرية المهمة فى القريب العاجل.. هى ألا يتوقف أحدنا عن العمل.. وعن الحلم.. وعن «محبة» الطريق حتى وإن كان مليئًا بالشوك.

ورسالة مصر للعالم كله من المؤكد أنها وصلت.. وصلت إلينا قبل أن تصل إلى الآخرين.. ها نحن نغنى.. ونفرح.. نصلى ونحصل على بهجة صلاتنا فى عيدنا.. مع شهدائنا.. وأبناء شهدائنا الذين لم يغادرونا لحظة.. بل المغادرون هم من أرادوا بنا سوءًا ونحن شعب نخلق الأعياد ونخترعها إن لم نجدها.