رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سينما الشعب.. عودة الروح للمقاعد المهجورة

ونحن صغار لم نكن نعرف السينما.. لا نعرف ماذا تعنى من الأصل.. كل المتعة كانت فى تلك الشاشة البيضاء الصغيرة.. التى حلت على بيوتنا فجأة منتصف ثمانينيات القرن الماضى.. كنا نعرف ذلك الصندوق الصغير واسمه الراديو.. مجرد صندوق خشب تطلع منه أصوات الأحباء التى نلتف حولها بشغف لنسمع محمد رفعت والطبلاوى وفهمى عمر وهو يحلل قبل السابعة مباريات يوم الجمعة.

ولما جاء التليفزيون إلى بيوت قليلة فى بلدتنا كان الحدث جللًا.. ليس بمقدور أى شخص أن يشاهد التليفزيون إلا فى يوم الجمعة.. من أول عالم الحيوان مرورًا بالشيخ الشعراوى حتى «عالم السينما».. ويوسف شريف رزق الله.. وفيلم السهرة.

سمعنا عن السينما من هذه البرامج أولًا.. ومن حكاوى أهالينا الذين يذهبون إلى القاهرة والإسكندرية فى الصيف.. عالم غريب من الأحلام لم تكن عقولنا الصغيرة تستوعبه.

وكل عيد.. كانت الفرصة متاحة حينما كبرنا وعرفت أقدامنا السكة والطريق إلى البندر.. حيث محلات الفول والطعمية السخنة- على طريقة على الشريف فى فيلم «الأرض»- ولم تكن الشاورما قد ذهبت إلى الصعيد بعد.. 

وقبل الذهاب إلى السينما يوم العيد.. هناك طلعة إلى المقابر فى الصباح الباكر ومن بعدها إلى النيل فى «النويرات» .. ومن بعدها نستقل السيارات «الميكروباص» وقد كان اسمها «رمسيس» إلى المركز.. إلى عاصمة المحافظة للتسكع فى شوارعها وشرب عصير القصب فى انتظار الحصول على تذاكر تسمح لنا بالفرجة على ثلاثة أفلام دفعة واحدة بقروش قليلة.

ولما ذهبنا إلى المدينة لدخول المدارس الثانوية لم يكن هناك مانع من تحويل يوم الإثنين إلى عيد أسبوعى ولم تصبح السينما طقسًا سنويًا من العيد للعيد.. صارت هوسًا أسبوعيًا مباحًا ومتاحًا.

فى محافظتى كان هناك ثلاث دور للعرض السينمائية «الحرية»، وهى الأقدم.. وأوبرا وهى الأحدث.. وسينما قصر الثقافة.. ودخلت حجراتنا الضيقة البسيطة صور نجوم هذه الأفلام التى كانت تنشرها مجلة الكواكب ومجلات لبنانية وأحيانًا «الإذاعة والتليفزيون».

صار الذهاب للسينما واجبًا.. والارتباط بنجومها وحكاياتهم وأسرارهم ولعًا لا يقل عن محبتنا للكتب وبعض الندوات الدينية التى كانت تقام فى مجلس المدينة أحيانًا وفى مسجد «العارف بالله» فى أحايين أخرى.. ولعب الكرة فى نادى سوهاج الرياضى والساحة الشعبية.

ولم تكن القرى تعرف شيئًا عن هذه السينما.. ولا حتى المراكز الكبرى التى تنتمى إليها.. باستثناء مدينة جرجا.. وقد كان فيها دار قديمة للعرض السينمائى يملكها رجل من «دار السلام»، يعنى محافظة بطولها وعرضها بها أربع دور سينمائية فقط ورغم ذلك كانت كافية لأن توفر لنا المتعة واللهو وبعضًا من الدعم الثقافى الذى كنا نحتاجه فى عز فوران الشباب.

وجاءت تسعينيات القرن وبداية الألفية الجديدة لتختفى هذه الدور واحدة تلو الأخرى.. الحرية تم هدمها فى ظروف غامضة.. وكذلك سينما جرجا التى تحولت إلى عمارة شاهقة.. وتوقفت الأوبرا وتحولت إلى خرابة، وكذلك توقف قصر الثقافة عن العرض السينمائى مثلما توقف أى نشاط فيه.. لم تعد هناك وسيلة للترفيه.. ورأينا من يحرّم السينما ونجومها وحكاياتها.. وأسهم انتشار القنوات الفضائية فى القضاء على البقية الباقية.. وسمعنا عمن اشترى عددًا كبيرًا من الدور التى كانت تملكها الحكومة.. واختفى البعض الآخر فى ظروف غير غامضة هذه المرة.. فلم تعد السينما، من وجهة نظر كل الأطراف تقريبًا، ذات أهمية، حتى رصيدنا من الأفلام القديمة بعناه فى صفقة مشبوهة.. الآن.. عادت الدولة مجددًا لتبحث فى ملف قوتها الناعمة.. عادت لتمد الجسور التى تهدمت مع أطرافها.. مع قرانا ومراكزنا.. عادت إلى نقطة الارتكاز.. فالسينما التى توافرت فى المولات الحديثة لا يقدر السواد الأعظم من أهلنا على أسعارها المرتفعة.. فمجرد خروجة ليوم واحد لفرجة أربعة أفراد لأسرة مصرية يعنى ضياع ما يزيد على ألف جنيه مصرى.. ومعظم هذه الدور فى مولات بعيدة عن «الشعب»، عن قاطنى الأحياء الشعبية.

اليوم تعلن وزارة الثقافة عن عودة الروح إلى دور السينما المهجورة.. فى مشروع ضخم لإعادة الحياة إلى مراكزها الثقافية التى أهملت لسنوات طويلة.. وعبر برنامج طموح لهيئة قصور الثقافة وقصر ثقافة السينما، تم الإعلان عن افتتاح ثمانى دور عرض دفعة واحدة بفيلم جديد لأحمد حلمى وبسعر رمزى للتذكرة.. حتى يتمكن أهلنا من بسطاء الريف والأحياء الشعبية من تلقى هذا النوع من الفن وقضاء ساعات مبهجة بجنيهات قليلة.

مرة أخرى يدرك القائمون على الأمر أهمية هذا الفن.. وهذه الصناعة التى كانت فى يوم قريب رقمًا مؤثرًا فى الدخل القومى المصرى.. بعد «القطن».. عاد القطن.. وزرعنا منه نوعًا جديدًا هو القطن الملون.. وعادت مصانع النسيج للغزل.. وها هى الشاشات الملونة تعود من جديد لتغزل إبداعًا مصريًا جديدًا.

وأتصور، حسبما فهمت من كلمات د. إيناس عبدالدايم، وزيرة الثقافة، أن هذه الدور هى مرحلة أولى ستتلوها مراحل أخرى.. لتكتمل سلاسل إمداد الزاد الثقافى والفنى لأهلنا.. بالتزامن مع احتفالات وفعاليات إعلان القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية.

تعود دور السينما لتفتح أبوابها فى هذا العيد لأهلنا فى ثمانية مراكز ثقافية كبرى.. بالتزامن مع عودة عدد كبير من مسارحنا التى تم ترميمها وتطويرها للعمل.. جنبًا إلى جنب مع مشروع المسرح المتنقل الذى يذهب إلى أهلنا فى قرى ونجوع «حياة كريمة».. فلا حياة بدون ثقافة.. ولا بهجة بدون سينما.. لا عقول سوية وقلوب سليمة بدون فن راقٍ ومبدع.. عودة الروح لدور السينما المصرية بمقاعدها التى هجرناها بفعل كورونا وبإهمال لسنوات طويلة.. هى عودة «للعقل».. ولروح مصر التى تزرع وتصنع وتبنى وتعالج وتفكر..

كل عام وأنتم بخير 

كل لحظة وأيامكم عيد 

وسلمت يد كل من يبنى..

ويسعد ويبهج الناس.