رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بكاء الحجيج

جريدة الدستور

ذرف الدمع حين أتى على واديها، قال ياقلب تأمل جمالها وجلالها ؛ أحبك بين رهبة ورغبة وأنس ووحشة، عشقي لك ياكعبة الطواف غريزة، وفي أفئدة الطائفين كم أنت عزيزة!

وحي أوحِي أنه لن تمـوت نفس حتى تستوفي رزقها، كما قدر لها أزلا رازقها رزق عذب فيه عذاب أو ملح أجاج به شفاء وعلاج، سعادة في شقاء وشقاء في سعادة، فمن المحن منح وفي المنح محن، هبة وسلْب، فقْد وجلْب، والنعمة والملك له، وما بين أيدينا ليس من أيدينا.

قالوا الرزق ما أنتفع به واستمتع معه، وقيل ما ملك وأمتلك، والأمر متاع ما به متعة إلا ظلال، والملك ما ملك منه إلا خيال، وتوهم امتلاكه محال، قالها ذات يوم بعدما أنفق فيها ما أنفق، أنها لن تبيد أبدا، ولم يدرك أنها ستصبح خاوية غدا، حديقة غناء صارت كالقفار، فالأصل تراب، "هو" والنخل والشجر والثمار، إنها الحياة في التقاء مائيين خلْق السماء، والوعاء كان حواء ، والنبت بعد وعثاء إنسان خرج من ظلماء، يبحث رزقا يهبط من علياء، وما "هو" و"رزقة" إلا هَشِيمً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ، إنها خليط بين أفراح وأتراح.

حين ترتدي ثياب كثياب النهاية، يكون النداء والرجاء في مكة قبل الرحيل رزق جميل، البكاء قبل الانتفاء نفع جليل، وشتان شتان بين رزق العرض ورزق الجوهر؛ فإذا ما كُشفِت عن النفوس أغوارها، وانكشف عنها عوارها؛ القادر قادر على ستر أسرارها، والغافر غافر لأخبارها؛ فلتُسكب حينئذ العبرات، فالمجير سيغفر الذنوب والعثرات، ما أعظمه من رزق، وما أجلَّه من ثمرات. دموعك هناك من حياء، ولكم في البكاء حياة.

بنداء خفيّ ناجى الحاج في بكاء شجيّ: الستائر لا تحجب السرائر، مسّني من الحب ضر، ولامسني من العشق قهر؛ ياقاهرا فوق العباد، عقر السهاد الفؤاد! اجعل يارب القلوب لي قلبا نَدِيّ قبل الفوات، قبل الموات. سأله صاحبه: أتخشى ياحاج الموت؟: أتخشى أن يدركك؛ أن يقلقك؟ أجهش بالبكاء قائلا: نومنا ظل وكذا محيانا؛ كذب القائلون بوجودهما ولو صدفوا؛ الخلق شهود لواحد الوجود، ولذلك وُجِدوا! لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ، وَالنِّعْمَةَ، لَكَ وَالْمُلْكَ!