رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من عمالقة الإنشاد.. طه الفشني كروان السماء

جريدة الدستور

موسوعة صوتية في تلاوة القرآن والإنشاد والتواشيح

الملك فاروق يتقرب إلى الشعب بإذاعة تلاوة الفشني ومصطفى إسماعيل

انحبس صوته وحار الأطباء في علاجه.. ثم انطلق يشدو بالأذان على جبل عرفات




رغم مرور أكثر من أربعة عقود على وفاته إلا أنه ما زال متربعا على عرش الإنشاد في مصر والعالم العربي والإسلامي.. ومن منا يستطيع أن ينسى صوته العذب وهو يشدو "الله زاد محمدا تعظيما" و"يا أرض الحجاز لي فيك حبيب"، أو يغفل عنه وصوته يغرد رافعا نداء الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أو ينسي تلاوته للقرآن الكريم بصوت ملائكي صاف كالسماء في ليلة مقمرة.

الشيخ طه الفشني.. كروان السماء..

كان نحيف الجسم، لكن هذا الجسم الضئيل وضع الله فيه سحرا عجيبا يأسر به من يستمع إليه، وكأنه يملك طاقة روحانية، لا يمتلكها غيره، يتسلل إلى قلبك بخشوع صوته، وعذوبته، يتنقل بك بين مقامات الموسيقى بصورة غير مألوفة.

كان موسوعة صوتية شاملة، فلم يترك صوته مجالا إلا طرق بابه، وأجاد فيه، حتى صار علما في تلاوة القرآن، والتواشيح، وإنشاد المديح.

الصفحة الأولى من كتاب حياته بدأت سطورها في العام الأول من القرن العشرين.. ومدينة "الفشن" بمحافظة بني سويف كانت موضع الميلاد.

لكن الميلاد الفني للفشني كان مع تعرفه على أسطورة الإنشاد الشيخ علي محمود، شيخ المبتهلين في ذلك الوقت.

وعلي محمود هو بحق "إمام المنشدين" و"سيد القراء"، من مواليد الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتحديدا 1878 بالقاهرة التاريخية، في حي الجمالية، وعلى درب عميد الأدب العربي أصيب شيخنا بحادث في صغره أودي ببصره.

درس الفقه، واستهواه العزف والموشحات، فكان قارئا بارعا للقرآن الكريم داخل مسجد سيدنا الحسين، ومنشدا ومطربا، فكان بحق هو إمام المنشدين وسيد القراء والأستاذ الأول في تطوير وابتكار الأنغام واختيار الكلمات الرشيقة الصوفية العذبة.

وبلغ من عبقريته أنه كان يؤذن للجمعة في الحسين كل أسبوع أذانًا على مقام موسيقي لا يكرره إلا بعد سنة.

أشرق فيومك ساطع

استمع إليه في ابتهال "أشرق فيومك ساطع" وأنصت إلى الصوت الآتي من خلف السحاب.. من أعلى عليين:

أشرق فيومك ساطع بسام.. يا صفوة الرسل الكرام سلام
أوليتنا شرفًا يفيــض وحسـبـنا.. للفخـر أنك مرسل وإمام
نور بعثت به وأنت له حمى.. فيـه الهـدى والعلم والإسلام
إن البلابل في الخمائل غردت.. سعــدت بمولد أحمد الاعوام


وكان الشيخ علي محمود هو المختار لتلاوة آيات الذكر الحكيم في حفل قرآن الملك فاروق على الملكة محبوبة الشعب فريدة، وحفل زواج ولي عهد إيران على الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق.

وفى مدرسته، تتلمذ الشيخ الملائكي محمد رفعت الذي اكتشفه شيخنا عام 1918، وكذلك المبدع كامل يوسف البهتيمي، والشيخ محمد الفيومي، وإمام الملحنين الشيخ زكريا أحمد، ومطرب الأمراء محمد عبدالوهاب، وكوكب الشرق أم كلثوم، وأيضا حبيبنا الشيخ طه الفشني.

ومن بطانة الشيخ علي محمود برز صوت الفتي النحيف يأسر به القلوب.. ليصل إلى الملايين عبر أثير الإذاعة المصرية عام 1937.. وكان دخوله لها مصادفة!!.. فقد كان يحيي الليالي الرمضانية في مسجد سيدنا الحسين، واستمع إليه سعيد باشا لطفي، مدير الإذاعة، فعرض عليه الالتحاق بالإذاعة، ويا لها من صدفة سعيدة أهداها لنا القدر.

ويأتي عام 1940، ويعين الفشني قارئا لجامع السيدة سكينة، رضي الله عنها، ويظل به حتى وفاته في 10 ديسمبر 1971.

الفشني المبدع كان قارئا لا يباري في تلاوة القرآن الكريم، وكأنه يتنزل الآن من السماوات، فيه حلاوة وعذوبة ونقاء، يزينه خشوع يطوي القلوب خضوعا لرب القرآن.

وفي قصور الملك فاروق، صدح شيخنا مع المبدع الراحل الكبير مصطفى إسماعيل بآيات الذكر الحكيم، كما كان يحلو لمذيع الإذاعة المصرية أن يقدم تلاواته، ليجلس ملك مصر خاشعا بين صوتيهما، متقربا إلى الشعب بأنه يتيح له الاستماع والاستمتاع بتلك الأصوات العذبة.

وكان الشيخ طه صاحب مدرسة متفردة في التلاوة والإنشاد، وعلى علم كبير بالمقامات والأنغام، وانتهت إليه رئاسة فن الإنشاد في زمنه، فلم يكن يعلوه فيه أحد، وهو أشهر أعلام هذا الفن بعد الشيخ علي محمود.

وسيظل الأذان الذي سجله الفشني بصوته علامة مميزة، فقد قدم الأذان بعدة مقامات، كالرست والحجاز والبياتي، وما زال صوته وهو يرفع أذان التوحيد يخلب الأسماع وهو يدعو جموع المؤمنين إلى الصلاة في بيوت الله.

وبعد رحيل الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي عام 1962 انتهت إلى شيخنا الفشني رئاسة رابطة اتحاد القراء حتى رحيله عن دنيانا الفانية.


لي في أرض الحبيب حبيب

ورغم إبداعه في تلاوة القرآن إلا أن شهرته كمنشد ومبتهل طغت.. ومن ابتهالاته المبدعة "لي فيكِ يا أرض الحجاز حبيب"

تقول كلماته:
لي فيك يا أرض الحجاز حبيب.. نور العيون وللقلوب طبيب
في الأرض أحمد وفي السماء محمد.. عند الإله مقرب محبوب

وأمام الحبيب يمدحه "رسول النور بددت الظلام.. رسول الحق حررت الأنام.. رسول الله يا خير البرايا بُعثت لتملأ الدنيا سلاما "

ومن الحبيب محمد ينقلنا الفشني إلى أعلى عليين، لنقف على أعتاب رب البرية نتضرع في خشوع:
إلى نوره سبحانه.. أتوسل
وأرجو الذي يرجى إليه وأسأل
فسبحان من تعنو له الوجوه
ومن كل ذي عزا.. له يتذلل
حليم.. عظيم.. راحم.. متكرم
رءوف.. رحيم.. متفضلا


يوم أن انحبس الصوت

ولا ينس محبوه قصة انحباس صوته لعدة أسابيع، فسافر إلى الحج وهو حزين، بعدما فشل الأطباء في علاجه.. وفي يوم عرفات انطلق في الفضاء صوت جميل يؤذن للصلاة، صوتا ليس غريبا على عشاق طه الفشني.. كان يؤذن وكأنه يحمد الله على استرداد صوته.. وعودة الكروان للتغريد في دوحة المدح النبوية.

وفي عام 1987، كرمته الدولة ووضعت اسمه ضمن إعلامها للإنشاد الديني بوزارة الثقافة، وفي عام 1991 منحته الدولة نوط الامتياز من الطبقة الأولى، وتسلمه نجله المحامي زين طه الفشني.

وإلى اليوم ما زال الكروان يغرد في سماء عالم الإنشاد وتلاوة القرآن، يجذب إليه كل محبي المدح النبوي والمسافرين إلى الله بلا متاع ولا زاد إلا القرآن الكريم.