رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الفتوى والسياسة سلطة النص ونص السلطة».. إشكاليات ورؤى جديدة

جريدة الدستور

ظلت عملية إبداء الرأي والاجتهاد وتفسير ما يغمض عملية فردية، وتتطلب صفات صعبة من العلم والأخلاق، ومع الزمن تباعد الناس عن البداية، وظهرت قضايا جديدة احتاج الناس لمن يجيب عن أسئلتهم، وتقدم الفقهاء لبيان وتوضيح الدين من خلال التأويل والتفسير، وهنا ظهرت حاجة حقيقية لما درجنا على تسميته الفتوى، فقد خشي المسلمون على الأحكام الدينية نتيجة التطورات التي اصابت مجتمعاتهم وحكامهم الذين لم يعودوا متفقهين في العلوم الدينية، وكان الفقه في البداية ينمو ويتطور بواسطة عمل شعبي بعيدا عن نشاط الدولة واجهزتها.. اي من وظائف المجتمع المدني وليس الدولة.

دراسة الفتوى وعلاقتها بالسياسة وتأثير النص الديني على السلطة، وتأثير السلطة على النص الديني هو محور كتاب الدكتور حيدر ابراهيم "الفتوي والسياسة سلطة النص ونص السلطة" الذي يقع في 214صفحة عن دار آدال للصحافة والنشر بأمريكا بالتعاون مع دار النسيم للنشر والتوزيع بالقاهرة.

كتاب الفتوى والسياسة هو الجزء الثاني لكتاب "سوسيولوجية الفتوى.. المرأة والفنون نموذجا" والذي ناقش قضية الفتوى وعلاقتها بقضايا المجتمع الرئيسية وعلاقة الدعاة الجدد بها.

سلطة النص الموحية

ففي الفصل الأول وضع المؤلف مدخلا أوليا: لسلطة النص ونص السلطة ووضح مفاهيم الفتوى وما يعرف بظاهرة الدعاة الجدد المسيطرين على وسائل الإعلام والرأي العام الآن.

فما زال النصّ يحتلّ سلطة مركزية مسيطرة فى الشارع، وتحوّل النص إلى الخضوع لسلطة الواقع أمر بات يحاول أن يمارسه البعض ليحدث هذا التحوّل أو الانعتاق إما بشكل تدريجي أو عبر تحول دراماتيكيّ قد يتّصف بالتسارع والثورية والعنف، فالشواهد التاريخية الإسلامية لا تخلو من حقب قدّمت أكثر من نموذج لمثل هذا الانعتاق، والتي -للأسف- لم تتوفّر لها شروط التطوّر أو الاستمرار.

كذلك توجد نماذج حالية، لكنها ما زالت جزئية ومستضعفة، لدراسة الإسلام الخارج على سلطة النصّ، والأقرب بالتالي إلى سلطة الواقع وضروراته وأحكامه، مازال هذا الإتجاه فى حاجة إلى مزيد من الجهد والعمل "حيث توجد المصلحة فثم شرع الله ".

لقد اسفر الصراع بين الدولة وحركات الإسلام السياسي حول الفتوى عن نفسه وتتنافست الدولة مع المعارضات الدينية علي احقية إصدار الفتاوى مما أدي لكثير من التضارب والنزاعات، وهنا ظهرت طبقة من رجال الدين اعتبرهم البعض فقهاء السلطان، وتمددت ظاهرة ما يعرف بالدعاة الجدد الذين يملؤون شاشات القنوات الفضائية، وكونوا شعبية عريضة من المشاهدين يلتقون مع الدولة في الغاية وهي نشر العقل الغيبي والفكر المحافظ.

مأسسة الفتوى

نقل الكتاب اهتمام الباحثين في الفترة الأخيرة بظاهرة الدعاة الجدد في الفصل الثاني، لأن موقفهم من الفكر الإسلامي العربي وعلاقته بمأسسة الفتوى وتطور المؤسسة كان شيئا هام ، وضرورات التشريع وعرض تنافس المؤسسة الدينية التقليدية والدعاة الجدد ظاهرا في بعض مجالات عمل المؤسسات الدينية، فمن الملاحظ أن كتب واشرطة هؤلاء الدعاة توزع بسب تفوقهم على فقهاء المؤسسة الدينية، حسب الإحصائيات والمقابلات مع الناشرين وأصحاب المكتبات، وهذا سبب المعركة التي اندلعت بين الأزاهرة والدعاة الجدد.

ويعرف "حيدر" في كتابه من هم الدعاة الجدد تعريفا بسيطا فيقول "هو الذي تلقي تعليمه الديني خارج المؤسسة الدينية الرسمية مثل الأزهر وهو يعتمد في ثقافته الدينية إما على التعليم المباشر أو الثقافة الذاتية أو على تلقي العلم على يد أحد الشيوخ سواء في المساجد أو حلقات العلم أو فى المنازل".

ويشير المؤلف في تناوله لقضية المؤسسة الدينية أن هذا الصراع اعطي اتجاها ايجابيا لدور الدين في الدولة وفى نفس الوقت اتجاها سالبا يدعو إلي ابعاد الدين عن مجال الدولة، ومن هنا دار النقاش حول فصل الدين عن الدولة، إلا ان الاتجاهين سواء الداعي إلي تدخل الدين أو فصل الدين ابتعدوا عن دراسة العلمانية بسبب الحساسية المتوهمة للقضية على حد تعبير المؤلف، لذلك أحاط الموضوع كثيرا من التجاهل المغرض وترك لمجموعة من السجالات الكلامية أكثر من الوعي والفكر والثقافة.

الديمقراطية والقبول الشكلي

وجاء الفصل الثالث عن الديمقراطية ونظام الحكم وتناول علاقة الديمقراطية بالإسلام وهل الإسلاميون والعرب صادقين في التعامل مع قضية الديمقراطية بالشكل الذي جاء بها الغرب، وتناول الصراع السياسي بخصوص هذه القضية، وضرب مثلا اثناء الانتخابات الرئاسية وما صرح به شيخ الأزهر( او افتي به ـ فهل هي فتوى ام راي شخصي ) بعد الإدلاء بصوته في الانتخابات واعتبرشيخ الأزهر من لا يدلي بصوته كاتما للشهادة " مَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ "، وفى نفس الاتجاه شبه أحد شيوخ السلفية الانتخابات الرئاسية باعتبارها غزوة مثل غزوة أحد وأطلق عليها "غزوة الصناديق" محمد حسين يعقوب شهر 3 / 2011.

وتناول هذا الفصل الأدوار المؤسسية للعملية الإفتائية في كلا من السعودية وإيران والأردن وتأثيرها علي مجريات الأمور في هذه البلدان بشكل سريع ومتلاحق.

كما أفرد فتاوى الشيوعية خلال الحرب الباردة وكيف أحدثت جدلاً كبيرا في هذه التوقيت بالذات من الناحية السياسية.

تجارب ونقد التجارب

وحول جدل المواطنة والعقيدة تناول حيدر ابراهيم في الفصل الرابع بشكل مفصل تجارب الإسلاميين فى بعض البلدان وخاصة السودان، وكيف تعاملت هذه التجربة مع التعددية الإثنية والفقهية والقبلية والدينية من خلال دارسة الدولة والخلافة والنظام وأبعدهما فى الفكر الإسلامي المعاصر.

وانتقد الكتاب دعوي الإسلاميين والتي كان يجب عليهم فيها أن يقومون بحل كثير من القضايا والمعضلات الفكرية لكي يصلون لحلول ناجحة وعملية لعلاقات الدولة المتخيلة أو "اليوتيوبية" مع مفهوم المواطنة، دون الخروج عن أصول الدين والعقيدة لأن مفهوم الدولة عند الإسلاميين غائب وهم يعيشون بين مفهومين الجماعة أو الامة على الدوام.

وضرب فى هذا الفصل أمثلة من تجارب (الإسلاميين) عن فشلهم في اقامة مجتمع عادل في قضية مثل قضية غير المسلمين في السودان، لقد قدم الإسلاميون مشروعهم الحضاري الإسلامي علي الدم واعلان الجهاد ضد الجنوبيين في السودان وفتح الإسلاميون أبواب الجنان لشهدائهم في الجنوب وعقد" حسن الترابي" زعيم حزب المؤتمر الشعبى، عقود قران الشهداء مع بنات الحور في الجنة ولكن الجهاد اوصلهم إلي نيفاشا"مدينة اقتصادية في كينيا تقع على بحيرة نيفاشا " وليس إلي الجنة حيث عقدت اتفاقية السلام في الجنوب والتي أدت إلي التقسيم.

وأكد إبراهيم أن التجربة كشفت حكم الإسلاميين في السودان وبعض الدول العربية بعد عجزهم عن إيجاد حل سلمي لمشكلة التنوع الاثني للقبيلة مما أدي إلي ظهورها من جديد في أزمة دارفور.


الاغتيال على مائدة الدعاة
وقد افرد المفكر السوداني حيدار في الفصل الخامس موضوعا عن الردة والتكفير وتناول أبرز فتاوى الردة والتكفير والحسبة، وكيف استخدمت القوي المحافظة في المجتمعات الإسلامية موضوع إثبات حد الردة حتي اصبحت سيفا مسلطا على المثقفين، وضعتها بعض الدول في دساتيرها وتم اغفال اجتهادات مثل جمال البنا وعابد الجابري في هذا الصدد واخذت آراء الدكتور محمد عبد المنعم البري، ويوسف القرضاوى كمعبر عن هذه الحالة.

وتم تصدير مفهوم الاغتيال على مائدة النبوة وهو ما اطلق عليه دعاة الإسلام السياسي اغتيال اعداء الله وهذا تجلي في النشرة التي اصدرتها الجماعة الإسلامية عقب اغتيال فرج فودة بعنوان "لماذا اغتلنا فرج فودة "عددت هذه الوثيقة مبررات عديدة تخص علميات الاغتيال لأنها ما اعتبرته ردة وموالاة لليهود والنصاري واستهزاء بأحكام الشريعة ومحاولة تشويه تاريخ الإسلام وعلماءه.

وتناول الكتاب في الفصل السادس نقاشات فقهية حول الجهاد ويعد هذا الفصل من الفصول المهمة في الكتاب، حيث تناول فيه رؤية نقدية جديدة لمفاهيم المراجعات الفكرية عند الجماعات الإسلامية وخاصة مراجعات الجهاد او مراجعات التكفيري سيد إمام الشريف صاحب كتاب "العمدة في إعداد العدة" أو كتاب "الجامع في طلب العلم الشريف" والذي يعد دستور أو منفستو التيارات الجهادية .

وقد اعتبر المؤلف أن المبادرة التي اطلقتها مجموعات الجهاد في مصر لا تتضمن تغييرا جذريا عن أصل الأفكار المتشددة في تبرير الجهاد ولكن يلمح في ثناياها نوع من الفكر الاعتذاري عن الكتابات السابقة التي روجت بين الآلآف من شباب المسلمين والهمت الكثيرين للقيام بعمليات قتل وتخريب فى بلدان عديدة كما يلاحظ ان الوثيقة التوضيحية موجهة للعالم وليس للجماعة في مصر فقط.

وتناول الفصل نقد وثيقة سيد امام الشريف في سبعة نقاط رئيسية تضمنت عرضا نقديا لها بالمقارنة بالكتابات القديمة التي كتبها شيوخ الجهاد، حيث اعتبر كتابات العمدة والجامع والوثيقة الجديدة تعد من قبل الاجتهادات الإحيائية التي تضيف للفكر الإسلامي بما ينفع الإسلام والمسلمين، كونها ولا تزال تقوم على أن الفكر الجهادي علي حد قول المؤلف فكر استثنائي مرحلي يمكن تداركه بكل السبل الممكنة فيما بعد.

وفي ختام الكتاب اورد المؤلف ملحقا خاصا بالفتوى السياسية وضع فيها أهم الفتاوى التي يرى المؤلف أن لها تأثيرا كبيرا في واقعنا المعاصر، فقد وضع كتابات لحسن الترابي، ـوغسان علي عثمان، وحسن مكي، وعثمان ميرغني، بها رؤية تحليلية معمقة تستحق الاطلاع للمهتمين بالشأن الإسلامي.

كتاب "الفتوي والسياسة..سلطة النص ونص السلطة " هو الجزء الثاني من كتاب سوسيولوجية الفتوي وهو يعد العمل الأول من نوعه في في المكتبة العربية فى هذا المجال فقد خرجت كتابات اخري جامعية عن الفتوي في القرن 19 الميلادي، وعن الفتاوي في العصر الأندلسي، وعن الفتوى والمجتمع المصري في النصف الاول من القرن العشرين كلها رسائل جامعية لم تتحول إلى كتابات فكرية وثقافية حتي الان.