رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحجاب والحرية الشخصية

مازلت أذكر واحدًا من قادة الإخوان المسلمين، عبر القنوات الإعلامية بعد الصدمة الهائلة فى 30 يونيو 2013، يقول بابتسامة صفراء لإخفاء الغِل والحقد والكراهية والهزيمة النكراء: "لم نهزم كما تعتقدون.. نجحنا في تحجيب بنات وستات مصر.. وهذا وحده إنجاز كبير لنا".
مصر دولة "مدنية" ومع ذلك أغلب فتيات ونساء مصر ومنهن أطفال ورضيعات يرتدين زيًا يسمونه زيًا دينيًا؟، بل نجدهن يزددن إصرارًا عليه فى زهو تحت مسمي "حرية شخصية"، ولا يعوق التفتح العقلى ولا يتعارض مع الوعى بحقوق المرأة الكاملة وبحقائق التاريخ والمفهوم الحقيقى للحرية الشخصية، والبقية التى لم تتحجب تنتظر قدوم شهر رمضان حتى تنضم إلى أخواتها، ألا يشكل هذا تناقضًا صارخًا جوهريًا واضحًا وضوح الشمس؟

أولًا، الحجاب ليس له علاقة بالإسلام، والآية القرآنية التى تستخدم لتغطية رأس المرأة جاءت لمنع تحرش الذكور المسلمين بالنساء المسلمات حين يخرجن من خيمهن ليلًا لقضاء الحاجة أو لأمر آخر، ارتداء حجاب الرأس كان للحرائر فقط حتى يسلمن من فسق الذكور. 

أما الجوارى، فلا حجاب لهن، لأنهن بلا كرامة وتحرش الذكور بهن ليس قضية، لكن الآن وبعد انتهاء الرق وخيم العرب الصحراوى فى اللبس وقضاء الحاجة فى الجزيرة العربية انتهى المقصد الاجتماعى المؤقت.

ثانيًا، الحجاب الحديث والمعاصر هو رمز سياسى لجماعة "الإخوان المسلمين" المؤسسة فى مصر عام 1928 على يد أحد الشيوخ، حسن البنا، وبفلوس الاحتلال الإنجليزى، عندما أيقن الإنجليز أن وحدة وتماسك وارتباط الشعب المصرى قوة كبيرة أكبر من محاولات التقسيم والتفكيك والتفتيت، لجأ إلى سياسة "فرق تسد" على أساس الدين والطائفة والمذهب، وإذا تقاتل الشعب على الدين فلن يجد الوقت أو الطاقة أو الوعى لمحاربة العدو الأساسى المشترك وهو المحتل المستعمر، وهذه سياسة معروفة تاريخيًا وتستخدم فى كل مكان وحتى اليوم.
ثالثًا، استفحلت الدعاية الدينية للحجاب مع منتصف سبعينيات القرن الماضى حين خرج المتأسلمون من الجحور ومن الكمون، ودشنوا آلاف التنظيمات الدينية المتطرفة، إخوانية وسلفية صحراوية، انتشرت بالتمويلات الجاهزة المدخرة معهم تحت الأرض، تحمل السلاح يعاودها  بالقتل والذبح حلم الخلافة الإسلامية وإقامة دويلات إسلامية وولايات إسلامية، تكفن النساء وهن أحياء متحالفة مع أعداء الشعوب ومحتلى الأرض ولصوص الموارد وسماسرة الأوطان والقتلة المستثمرين فى السلاح والبغاء والمخدرات وسرقة الأعضاء من الكبار والصغار.

اختلطت الدعاية الدينية بالدعاية الثقافية والإعلامية من إعلاميات وإعلاميين لا يهمها الدين ولا الأخلاق ولا الدولة المدنية.

نجحت الدعاية واتغسلت العقول من العقل والمنطق وتحقق المطلوب من النساء اللائى وُلدن على ذمة الإسلام، انتصر الدين فى معركة الزى الإسلامى و"تحجبت" فتيات ونساء مصر المسلمات من جميع الطبقات والأعمار والوظائف والأيديولوجيات، وامتد الانتصار إلى فتيات فى سن الرابعة من العمر وفنانات بادرن بالتحجب واعتزال الفن ترسيخًا لهذا الوضع، وبلاد معروفة بالاسم دفعت المليارات وجندت حشودًا من أهل الفكر والثقافة لتدعيم الحجاب واللغة الدينية وإشعال الفتنة الدينية، حتى وصلنا إلى إرهاب سفك الدماء العلنى، وتحولت مصر إلى شكل مقزز غريب مستورد من التعصب والتطرف والأسلمة الشكلية القاتمة المتجهمة التى تحرم الفنون وتدعو إلى تدمير تماثيل الحضارة المصرية القديمة وتحريم الفن والموسيقى والفرح وتهدر دم أصحاب الفكروالإبداع الكاشفين للمؤامرة على قتل الدولة المدنية.

عرفنا الفتاوى المريضة بنكاح النساء، الأحياء والأموات، ونكاح الأطفال والرضيعات، وفتاوى إرضاع الكبير، وتبرير التحرش الذكورى والاغتصاب، والتربص بعمل المرأة خارج البيت، وترويج شرعية كراهية الأقباط وتجنبهم، وتحريم عمليات زراعة الأعضاء، ورفض تجريم الختان، وتزويج البنات فور بلوغهن، وتكاثرت الجوامع والمساجد بالميكرفونات لنشر التعصب، وإهانة النساء السافرات، والترويج للعلاج بشرب بول الإبل، وانتشرت الشعوذة والدجل الدينى، ولبس المايوهات الشرعية، ولاعب كرة يسجد على الأرض بعد إحراز الهدف، وقد أطلق ذقنه مرتديًا الشورت الرياضى الشرعى، وظهر المفكر الإسلامى، والكاتبة الإسلامية، والداعية الإسلامية، والمدارس والحضانات والجمعيات والمراكز والبنوك الإسلامية، والجلاليب الإسلامية، والذقون الإسلامية، والخناقات الإسلامية، والأغانى الإسلامية، والدراما التليفزيونية الممولة من الخليج تمدح تعدد الزوجات، وتحجيب النساء، وعدم عمل المرأة، وسعادة النساء بأنهن أربع زوجات على ذمة رجل واحد، ورأينا الناس يقرأون بصوت مرتفع القرآن فى المترو والأتوبيسات، وتزدهر قضايا الحسبة الإسلامية، وازدراء الأديان، وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، والإساءة إلى الذات الإلهية العليا والرسل والأنبياء، وجر الروايات والمسرحيات والقصائد إلى المحاكم، لصق ملصقات دينية إسلامية على زجاج السيارات الخلفى، والشباب يشترطون قبل الزواج أن تكون المرأة محجبة، مطيعة، مختنة، قابعة فى البيت.

عاصرنا تجريم الجهر بالإفطار فى نهار رمضان، وشاهدنا كيف يترك الناس أشغالهم، ويغلقون محلاتهم، ويسدون الشوارع حينما يأتى وقت الصلاة، واستخدام الخواتم الفضية للرجال بدلًا من الذهبية ليكونوا أكثر إسلامًا، وتحية صباح الخير ومساء الخير فى التلفونات استبدلت بالسلام عليكم، وأسماء المحلات أخذت أسماء إسلامية، وعمل أفراح فى الشوارع بنقر الدفوف، وكتابة تهديدات على حيطان الشوارع تقول: "صلى قبل أن يُصلى عليكى"، "تحجبى قبل أن يختلى بك الثعبان الأقرع فى القبر"، "جمالك فى نور حجابك لا غيره يغفر آثامك"، وتعاملوا مع المجتمع المصرى على أنه "دار كفار" وهم يقومون بمهمة جليلة إعادة الإسلام لشعبها وأراضيها، وغيره كثير مما حول المجتمع المصرى إلى بؤرة كبيرة دينية إرهابية متشنجة كارهة للحرية مشغولة بتكفير بعضها البعض ومعاداة كل أسباب التقدم الحضارى وأصبح المجتمع يقوم ولا يقعد ليس بسبب قنابل تطلق على سكان عزل فى أرضهم ولكن عشان حتة ذراع مكشوف من المرأة وشوية شَعر يظهروا من رأس طفلة.

فى ظل هذا المناخ هل يكون الحجاب "حرية شخصية" للمرأة؟ بل هل تكون حرية العقيدة أصلًا وحرية تغيير الدين ومتروكة ومكفولة دون أدنى نبذ أو استنكار؟ كل هذا لكى تخضع مصر سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا للقوى المتحالفة داخليًا وخارجيًا وتنطفئ شعلتها الريادية القائدة فى منطقتها لتحل محلها ريادات أخرى لها أهداف سياسية ودينية؟

المعروف تاريخيًا أن تحجيب أى مجتمع يبدأ بتحجيب النساء والفتن الدينية تبدأ بالتمييز على أساس الزى.

رابعًا، الحجاب قائم على صورة ذهنية وعقلية أن الرجال ذئاب جنسية شهوانية تتحرك بغرائز النصف الأسفل من أجسامهم، وهى غرائز حاضرة طول الوقت مكبوتة طول الوقت، لا يمكن التحكم فيها ولا يمكن تهذيبها وتأديبها بالتربية الصحية والقواعد الأخلاقية الحسنة، أو بزرع احترام النساء، وأن هذه الغرائز تترك كل شىء فى الحياة وتثار فورًا دون تعقل برؤية أى جزء غير مغطى من دلائل طبيعة المرأة، وعند الإثارة تحدث التهلكة الكبرى وما لا تحمد عقباه، والوضع الأمثل أن تتغطى كلها لأنها عورة.

ولكن إذا تعذر هذا فعلى الأقل وحتى تقام الخلافة، لابد أن تغطى شعرها وتخفيه وتبعد فتنته الشريرة الشيطانية عن الذكور دائمى الهياج، أهذه صورة أخلاقية متحضرة راقية للمرأة والرجل؟

الرجل "المتربى" لا يمشى فى الشوارع بحثًا عن "أنثى" لا يعرفها تلبى غرائز دنيا غير مسيطر عليها، بل يمشى بحثًا عن "وظيفة" يأكل منها أو بحثًا عن "شقة" ولو "خرم إبرة" تؤويه مع زوجته، الرجل "المتربى" هو الأب والأخ والحبيب والصديق والزوج والجار والزميل والصنايعى الحرفى العامل فى كل مجال الذى لا هم له إلا اتقان عمله وكسب الرزق، وبدونه لا تسير حياتنا ولا نقضى لوازمنا.

أما الرجل "غير المتربى" وشهواته الجنسية تمشيه فلابد من علاجه أخلاقيًا وثقافيًا ونفسيًا وحجبه، حتى يصبح لائقًا للعيش بتحضر واحترام ورقى وتهذيب.
المرأة لم تخلق لتختبئ وتتغطى لحماية الذكور المنحرفين بشهواتهم.

الرجل "غير المتربى" هو الذى يدفع ثمن قلة تربيته، هكذا العدل والأخلاق الصحيحة والمسئولية غير المعوجة والمنطق الرشيد، هذا غير أن الرجل الماشى يحركه النصف الأسفل جسده لن تفرق معه سواء غطينا المرأة أو لم نغطها، ففى كل الأحوال يعرف جيدًا كيف يقضى شهوته منذ آلاف السنوات.

خامسًا، أين كانت "الحرية الشخصية" للحجاب فى الخمسينيات أو الستينيات من القرن الماضى، ألم يكن هناك دين أو إسلام فى مصر؟ ألم نعرف "الحرية الشخصية" إلا على أيدى الإخوان وتوابعهم الخارجين من الجحور؟ وإذا كانت "حرية شخصية" لماذا يشن أشرس هجوم دينى على المعارضين له أو على منْ تقرر خلع الحجاب؟ وإذا كان الحجاب كما يدعون "حرية شخصية" لماذا أصبح الرجال يشترطون فى الزوجة أن تكون "محجبة"؟.

إذا كان الحجاب "حرية شخصية"، لماذا طلب مرشد الإخوان المسلمين من الرئيس "عبدالناصر" عندما تولى الحكم أن "يحجب" نساء مصر ويلبسهن الطرح، ورفض "عبدالناصر"، وتهكم على طلبه فى واحدة من خطبه المهمة والشهيرة؟

سادسًا، المفروض أن "الحرية الشخصية"، لا تتعارض ولا تتناقض مع توجهات المجتمع الذى أعيش فيه، وإلا فلماذا تكتب الدول الدساتير؟ إن الدستور المصرى يمنع استخدام الرموز الدينية بأى شكل لأنه تمييز دينى صارخ على الملأ.

"الحرية الشخصية"، لابد أن تكون متناغمة مع مصلحة الوطن واختياراته ومحاربة أعدائه فى الداخل، والخارج.

"الحرية الشخصية"، أمارسها فى بيتى بطريقتى متى أشاء، ولهذا أسميها "شخصية" ومكفولة للجميع، لكن مفيش "حرية شخصية" إذا كانت رمزًا لعدو الوطن وتسبب فى الإرهاب وسفك الدماء وتخريب المجتمع ومن خلفية دينية.

"حرية شخصية"، للمرأة إذن لا تلبسه إلا فى البيت لكنها لا تفعل لماذا؟ لأنه لن يراها أحد، وبالتالى سوف تنتفى الرسالة التى توجهها للمجتمع، الرسالة المنبثقة من كل التاريخ والتوضيح والتفسير الذى ذكرته سلفًا.

يا ناس اقرأوا التاريخ قبل تسمية الأشياء بغير مسمياتها حتى لا تجرونا إلى مناقشة أمور من المفروض أن ننتهى منها جذريًا لنصنع الدولة المدنية المصرية الحديثة، إننى على يقين أنه لا توجد فتاة أو امرأة محجبة فى بلادنا قرأت كتابًا واحدًا عن تاريخ الإسلام، ونشوء الأديان، وعلاقة تغطية النساء بتغطية الحكم السياسى الباطش باسم الدين وإحياء الإسلام، أبدًا مصر لن تتقدم إلا بنبذ "القهر بمرجعية الحرية" وفضح السموم المندسة فى العسل.

من المحزن أن تكون ثورة 1919، أكبر ثورة شعبية مصرية منذ 103 سنوات شهدت خلع الحجاب والمطالبة بالسفور، كجزء عضوى مكمل من المطالب الوطنية الثورية ودلالة بليغة على النضج الفكرى الثقافى السياسى للشعب المصرى واستجابت النساء والرجال.

ربما أفهم وهذا حق لها من باب الحرية الشخصية الحقيقية التى يدخل فيها حرية الزى أن المرأة تغطى شعرها ولكن ليس بسبب "دينى" مثلًا هى تحب شكلها أكثر إذا غطت شعرها أو أن تغطية شعرها سيعفيها من عبء العناية اليومية بشعرها إذا كانت تخرج كل يوم للعمل أو لأسباب أخرى، لكن لا تقول إنه فرض دينى لإرضاء الله وللالتزام بالاسلام.

فأركان الإسلام خمسة ليس من ضمنها الحجاب أو تغطية النساء أو الإجبار على زى معين، الأزياء وليدة عادات وتقاليد أساسها التناغم مع المناخ والعصر وضمان أساسيات الحريات الشخصية التى هى بالمناسبة فى دستورنا المصرى.