رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ركلات ترجيح مصر فى ملعب الكورة وملعب الحضارة

لم يحدث أبدا أننى تابعت مباراة مصر خارج الوطن ، بالحماس والقلق والرغبة فى الفوز ، مثلما كان حالى الخميس الماضى الخميس 3 فبراير 2022 ، أمام الكاميرون ، فى نصف نهائى كأس الأمم الافريقية . 
مباراة طويلة ، استنفذت كل الوقت الممكن . ووصلت مصر ، بالمنتخب الوطنى ، الى ركلات الترجيح . 
تقتضى الأمانة أن أشيد بأداء منتخب الكاميرون ، القوى ، حتى اللحظة الأخيرة . واللحظة الأخيرة أعنى بها ، لحظة الوصول الى ركلات الترجيح . 
بالطبع زاد قلقى ، وتوترى ، فركلات الترجيح يدخلها الحظ ، والقدرة على ضبط الأعصاب وثبات الانفعال ، وبراعة التركيز ، خاصة بعد مباراة استغرقت وقتا طويلا ، يسبب الانهاك والارهاق . 
لكننى فى أعماقى ، كنت لسبب ما ، مطمئنة رغم توترى ، وقلقى ، أن مصر ، ستفوز فى ركلات الترجيح ، رغم أن الكاميرون ، على أرضها ، وأمام جمهورها .
لسبب ما فى أعماقى ، كنت أربط بين ركلات الترجيح الفائزة فى ملعب الكورة ، وركلات الترجيح التى تضربها مصر فى ملعب الحضارة ، وأمامها صعوبات وتحديات كثيرة .
هذا من شيم الكاتبات والشاعرات والشعراء والكتاب ، فهم يربطون بين أشياء قد تبدوبعيدة عن بعضها البعض .
وأنا بالتحديد ، أستمتع بتخيل العلاقات التى لا تخطر على بال أحد ، أو أربط بين ظواهر
تبدوغيرقابلة للربط . 
      قلت أن ركلة مصر الأخيرة ، سترجح فوزها على الكاميرون ، وسترجح فوزها فى حروبها الداخلية ، ضد أعداء الحضارة الناهضة المستنيرة ، ضد سمساسرة الدين والوطن ، وضد المتاجرين بمحاسن القيم واستقامة الأخلاق وحماية الفضيلة .
     ربما الأشياء تبدو مبهمة ، والمنتخب بعد وقت طويل منهك القوى ، يائس ، محبط . لكننى تذكرت ثورتى الشعب المصرى 25 يناير 2011 ، 30 يونيو 2013 ، حيث فاجأ الشعب المصرى ، العالم كله ، بطاقات هائلة من الحشد والتحرك والتحدى والصمود واعلان مطالبه ، فى عِز الشِتاء مثل هذه الأيام . 
    لم تضيع مصر ، ولا ركلة ترجيح واحدة . الطرف الآخر أضاع وخسر. تأكدت مشاعرى
المطمئنة ، وأدركت أن هذا الفوز بعد مشقة وقت طويل ، على أرض غريبة ، لهو رسالة 
قوية ، لمنْ بركلات الترجيح يفهم ، ولمنْ يقرأ ما بين السطور ، ولمنْ يعرف تاريخ مصر
الحقيقى ، وابداعات مصر ، ولمنْ يطلق اشاعات ويرفع بلاغات لاضعاف مصر . 
        فازت مصر ، وكسبت الرهان على مصر ، الذى آمنت به منذ نعومة أظافرى . رهان ، 
ولدت به ، من رحم أمى ، وتشبثت به ، وسأظل حتى الممات .
     رهان ، أشبه بالحلم ، الذى لا يأتى فى المنام ، وانما فى الصحو ، وقمة الوعى والادراك.
حلم ، لم يتزعزع ، لم يضعف ، لم يشمت فى قرارى الذى عاهدت نفسى به ، فى طفولتى وصباى ومواهقتى وشبابى .  . 
لم يراودنى أبدا ، " الحلم الأميركى " ، أو " الحلم الأوروبى " ، تلك الأمنية الحالمة  الكبرى ، التى يجرى وراءها الناس ، من أجل التحقق ، والاستمتاع . 
لم يحدث أبدا ، فى أى مرحلة من مراحل حياتى ، أننى قررت بناء مستقبلى فى الكتابة ، والسعادة ، الا فى مصر ، التى ولدت على أرضها . 
لن أقول الكلام المستهلك ، الذى يتردد بمناسبة ، وغير مناسبة ، أننى لم 
أفكر فى الحياة خارج مصر ، بدافع من عشق تراب مصر ، وبشعور جارف بما يسمونه
" الوطنية " ، والتى تُستخدم فى أغلب الأوقات ، بشكل كاذب ، مخادع ، له مصالح ،
ومبالغ فيه .
     هناك شئ  بداخلى ، كان طول الوقت ، من " الحلم الأميركى " ، أو " الحلم الأوروبى " ، المسيطر على العقول . أنا مصرية ، المفروض ، والطبيعى ،  اذن ، أن أحلم ب" الحلم المصرى " ، وليس " الحلم الأميركى " ، أو أى حلم آخر .  
   سؤال منطقى ، يفرضه العقل البسيط ، ليس فيه أى تعقيد ، أو وطنية صعبة . سؤال آخر ، يفرضه المنطق ، والعقل ، اذا كنت سأفشل فى مصر ، الأرض التى ولدت فيها ، وأتكلم لغتها ، وأعرف واقعها ، وتذوقت ابداعاتها المختلفة ، ومررت بما مرت به ، وأحمل فى دمى " الجينات " ، الممتزجة المتداخلة من الحضارات والثقافات التى شهدتها ، اذن بالبديهة البسيطة ، سأفشل أكثر ، على أرض غريبة . 
على مدى مراحل العمر ، زرت بلادا عديدة ، شرقا وغربا ، شرقا وجنوبا ، من فنلندا ، والسويد ،وايطاليا ، والمجر ، والمملكة المتحدة ، وأمريكا ، وكندا ، وهولندا ، وألمانيا ، والنمسا ، غيرها الكثير. وسافرت الى الهند ، وأثيوبيا ، ومدغشقر ، وتونس ، والمغرب.
كان من السهل جدا ، أن أستقر خارج مصر ، حيث أن لغتى الانجليزية الجيدة ، 
تساعدنى ، وعاداتى وتقاليد وأفكارى ، ومزاجى ، وأخلاقى ، تتناغم أكثر مع النمط الأوروبى ، والأميركى .
لكننى كنت أشعر بأن تحقيق النجاح ، والسعادة ، لن يكون بحلاوة المذاق نفسه ، الذى سأشعر به ، اذا حققت هذه الأشياء ، فى مصر . كنت أقول ، سأكون ناجحة ، مثلا ، وفى رفاهية اقتصادية ، لا دوشة ميكرفونات ، ولا قمامة متناثرة فوق الأرصفة ، الدين منفصل عن المجتمع ،لا فتاوى دينية تأمر بارتداء الحجاب أو النقاب ، لا تكفير دينى أو نبذ اجتماعى، ولا تشويه أو تجاهل اعلامى للكاتبات والشاعرات المتمردات ، لا تطفل على حياة النساء ، الكتابة تؤتى ثمارها ماديا ، وأدبيا ، نظام منضبط من الألف الى الياء ، فى كل الأشياء ، والمجالات ، أعيش بكامل حريتى ، وطاقاتى الكامنة ، لا تطفل على النساء،أمارس هواياتى ، وأسمع وأشاهد الفنون الراقية ، واذا مرضت سأجد مستشفيات طبية ترعانى فورا دون أن أكون فاحشة الثراء ، واذا حدثت لى حادثة على الطريق ، أو فى المنزل ، سوف تأتى سيارة الاسعاف ، أو سيارة البوليس فى ثوان معدودة . ثم ماذا بعد ؟؟ . أهذا كل شئ ، فى تحقيق السعادة ، والرفاهية ، والاستمتاع ؟؟. شئ بداخلى يتمنى ، لو كنت فى مصر ، أعيش فى أمان اقتصادى ، وأمان صحى ، وأمان ثقافى . لكننى فى الوقت نفسه ، لم تداعبنى مجرد الفكرة ، فى بناء مستقبلى خارج مصر . 
حتى أننى بعد الثانوية العامة ، لم أفكر فى دخول الجامعة الأميركية ، كما كان يفعل البعض  . لا الجامعة الأميركية ، كانت أمنيتى ، ولا الحلم الأميركى ، كان هدفى . دخلت جامعة القاهرة ، وأحببت بناء مستقبلى فى مصر ، وتحقيق " الحلم المصرى " ،  الخاص بى وحدى . وعندما تحتل مدينة " فيينا " المرتبة الأولى ، سنوات متتالية ، فى جودة الحياة ، وكنت أغنى 
" ليالى الأنس فى فيينا " ، لأسمهان ، من ألحان " فريد ، ومن كلمات " أحمد رامى " ، وأنا أمشى نشوانة ،  تحت المطر فى شوارعها ،  لا أجد نفسى ، نادمة ، على عدم الاقامة هناك . كنت أتوق الى " ليالى الأنس فى القاهرة ".
وكنت أقول لنفسى ، كل مجتمع له مشاكله ، وكل شعب له ما عليه ، وكل حضارة لها عيوبها ، وكل ثقافة لها سلبياتها ، وكل بيئة لها أمراضها ، وأيضا يقول العقل ، أن التغيير أسهل فى بلد أعرفه ، وأنا لا أستطيع العيش ، لمجرد العيش . لابد أن يرتبط " التغيير " ، بالحياة التى أعيشها .  
وكنت أتسائل ، لو فى مصر ،مشاكل ، وأزمات ، وأمراض ، وعيوب ، وسلبيات ، فمنْ سيحلها ، لتكون وطنا أفضل ، اذا كان أهلها ، يهجرونها ، للاستمتاع بالحياة فى وطن آخر ؟؟. لا أحد يستطيع تحمل عيوبنا ، الا أنفسنا ، أصحاب العيوب أنفسهم . 
لن أزعم أننى فى وطنى مرتاحة كل الراحة ، التى من المفروض أن أشعر بها ، ومن المفروض أننى أستحقها بالكامل ، دون أن أطالب بها . لكننى انسانة مخلوقة بشكل ، أننى أجد " نصف الراحة " ، أو " ربعها " ، فى وطنى ، أكثر متعة ، من الراحة "الكاملة" ، على أرض أخرى . 
واذا كنا قد أصبحنا منذ سنوات ، فى قرية عالمية صغيرة ، فان كونى كاتبة ، سهل جدا ، فى أى مكان ، لا يشترط فى وطنى . من خلال الكمبيوتر الصغير ، أكتب مقالاتى ، وقصائدى ، ومجرد الضغط على " زر " واحد ، ستذهب مقالاتى الى مصر ، و الى أى مكان آخر أريد ، فى ثانية واحدة . 
لكننى لم أرغب أبدا فى مثل هذه الأحلام " المستوردة " . كنت دائما أريد دائما ، ومنذ نعومة أظافرى ، حلما من انتاج مصر  ،  " صُنع فى مصر "  ، 
" ماركة مسجلة مصرية " ، يتطلع اليه العالم ، مثل " القطن المصرى " . 
   يتكلم الناس عن " المواطن العالمى " ، الذى يجعل من " الانسانية " فى أى مكان ، وطنا له . 
  هناك نماذج من النساء والرجال المصريين ، الذين صنعوا " حياة " بأكملها ، ناجحة ، ومتحققة ، وسعيدة ، خارج مصر . لكننى لست واحدة منهم . 
       أتذكر عندما كنت أستقبل أمى " نوال " فى المطار ، عائدة من السفر ، أول جملة تقولها لى ، ضاحكة ، وهى تأخذ نفسا عميقا : " رائحة الوطن يا مُنى ". أقول لها : " رائحة الوطن ايه يا ماما اللى مليانة تراب وعفار و طين ومعاناة وتعب ".  تقول : أمال ماسكة فيها ليه ؟ " . نضحك ، ونمضى الى طريقنا ، سعيدتان برائحة الوطن ، التى نعيش ، ونموت وهى فى أنفاسنا ، رغم شدة انتقادنا لها . رائحة الوطن ، نرتمى فى أحضانها ، وان خنقتنا .
    رحلت أمى ، " نوال " ، وتركت لى ضحكتها وكلامها . 
     رحلت أمى " نوال " ، وبقيت " رائحة الوطن ".  
لست أضع شروطا للبشر ، ولست أحكم على رغباتهم ، أو  اختياراتهم . كل انسان ، امرأة ، أو رجلا ، يضع تعريفاته للأشياء ، ومقاييسه للنجاح ، و التحقق ، والسعادة . 
لكننى امرأة ، تبهرها الأهرامات ، وتمثال أبى الهول، وبرج القاهرة ، أكثر مما يبهرها الأكروبوليوس ، أو  تاج محل ، أو برج بيزا المائل ، أو تمثال الحرية  . 
امرأة ، لا يرويها ، نهر الميسسبى ، أو نهر الدانوب ، أو نهر التيمز ، وانما الماء ، الذى يشق طريقه ، فى نهر النيل ، يتحمل طول وعناء الطريق ، ليصل سالما ،الى بيتى ، حاملا ، أفراحى ، وأحزانى . 
  ولذلك كنت وأنا أتابع مباراة مصر والكاميرون مسء الخميس 3 فبراير 2022 ، أشعر بأننى  " متورطة " بكل كيانى ، طالت المباراة وطال قلقى ألا يفوز وطنى ، الذى راهنت بالاقامة فيه ، حتى التراب .. وطنى الأخير . 
      لست متعصبة للكورة ، أو لأى شئ . لكننى ، و " مصر " تلعب ، أحس أن كل حضارتها المدنية المشتنيرة ، وفنونها وابداعاتها العريقة المؤثرة ، ونهضتها التى يعاكسها أطراف عديدون محليا ، بالأساس ، هى التى " فى الملعب " . لابد اذن أن يكون " قلبى معاها " ، ولابد أن تفوز . 
   وستظل فائزة ، مصر ، اذا انحازت دائما الى ملامحها المسروقة من تجار الأديان ، وأدعياء الفضيلة ، وكارهى الفرحة والبهجة والرقص والغناء والرياضة ، داعمى طاعة وضرب النساء.

----------------------------------------------- 
من بستان قصائدى.. قصيدة من أجلهم 
---------------------

لن نتوقف 
عن البهجة
عن انتاج الفنون 
وتحرير الابداعات 
ليسعد حراس الزيف 
وأدعياء الفضيلة 
رافعو البلاغات والاشاعات
سنظل نزعج ذكور الكهنوت 
وقال الله وقال الرسول 
لن نحول مجرى البحر والنهر
من أجلهم 
لن نحبس العصافير 
ونُحلى ماء القهر 
لن نغير من أجلهم 
حقائق التاريخ
وحروف الأبجدية 
ننصب الفاعل 
ونرفع المفعول.