رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يحيى حقى.. صاحب الدكان

يحيى حقى
يحيى حقى

فى عز اتساع الإمبراطورية العثمانية، وافتراشها خريطة ٣ قارات، هاجرت عائلة تركية مسلمة من بر الأناضول إلى جنوب اليونان، فى سبيل البحث عن حياة أفضل وموارد أكثر، لا سيما وقد اكتظت الأناضول بالكثير من الرعايا العثمانيين من الأتراك المسلمين وغيرهم من الأرمن واليونانيين والبلغار. وحدثت هجرة تلك العائلة التركية فى فترة بين نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر. وأقامت تلك العائلة التركية فى اليونان عشرات السنوات، وتزوج بعض أفرادها من مسلمات يونانيات، ومن ضمن تلك السيدات اليونانيات تمكّنت امرأة تُدعى حفيظة المورالية «نسبة إلى شبه جزيرة المورة فى جنوب اليونان» من الهجرة إلى مصر، والالتحاق بالعمل فى القصور الخديوية، لا يُعرف على وجه الدقة فى عهد مَنْ من حكّام مصر هاجرت تلك المرأة، لكن المؤكد أنها كانت قد ارتقت فى عهد الخديو إسماعيل إلى مناصب رفيعة، وتولّت مهمة الخزندارية فى بعض قصوره. اختار بعض أفراد الأسرة التركية التى هاجرت إلى اليونان قبل سنوات اللحاق بقريبتهم حفيظة المورالية فى مصر، بحثًا عن الرزق أولًا، ورغبة فى الظفر بدعم قريبتهم التى تعمل ضمن الخاصة الخديوية فى منصب رفيع، ومن بين هؤلاء كان شاب اسمه إبراهيم حقى. هاجر هو الآخر من اليونان إلى مصر، وألحقته قريبته حفيظة هانم بوظيفة حكومية، وراح إبراهيم حقى يصعد السلم الوظيفى حتى وصل إلى وظيفة مدير مصلحة فى بندر المحمودية بمديرية البحيرة، وصار ثريًا، حتى إنه امتلك ١٠٠ فدان، وطابت له الحياة فى مصر، لا سيما وقد كوّن ثروة صغيرة وصار أحد أعيان المحمودية، فتزوج وأنجب ٣ صبيان هم محمد ومحمود طاهر «اسم مركب على عادة الأتراك» وكامل.

توثّقت علاقة إبراهيم حقى بجيرانه فى المحمودية، لا سيما عائلة وكيل مكتب البريد فى بندر المحمودية «السيد حسين» التركى أيضًا. لذلك بعد سنوات قليلة وبحكم الجيرة والأصل المشترك، اتفق إبراهيم حقى مع السيد حسين على تزويج محمد ابن الأول لسيدة ابنة الثانى. وهكذا أسفرت تلك الزيجة بين فردين من عائلتين تركيتين تقيمان فى مصر منذ عشرات السنوات حتى تمصّرتا، كعادة مصر فى هضم الأجناس المختلفة ودمغهم بدمغتها، عن عدد كبير من الأبناء، لا يعنينا منهم سوى الابن الثالث، لأنه أحد نوابغ مصر على مر التاريخ، فهو الأديب اللامع وأحد رواد القصة القصيرة، الكاتب يحيى حقى الذى وُلد فى ١٧ يناير من سنة ١٩٠٥، فى حارة الميضة وراء مقام السيدة زينب.

المواطن العالمى

استندت فى كتابة هذا المقال إلى الكثير من المعلومات القيمة الواردة فى كتاب «يحيى حقى.. أديب البساطة»، للكاتب حسام الدين فاروق عبدالهادى، الذى يأخذ شكل حوار متخيّل مع يحيى حقى، وهو كتاب يستحق القراءة لأنه يجيب عن الكثير من الأسئلة حول يحيى حقى، الذى تحل علينا فى هذا الشهر الذكرى ١١٧ لميلاده.

لطالما تساءلت عن دور تلك الجذور التركية البعيدة ليحيى حقى فى كتاباته، فهو ابن ثانى جيل يولد فى مصر لتلك العائلة التركية، وابن الجيل الثالث من أفراد أسرته الذين تواجدوا فى مصر، لقد وُلد مصريًا بلا شك، فوالداه «محمد وسيدة» لم يكونا يستخدمان اللغة التركية، لقد تحوّلت العائلتان وأفرادهما إلى مصريين.

لكن يبدو أن الرافد الثقافى الأجنبى فى تركيبة يحيى حقى لم يكن راجعًا إلى جذوره التركية، بل إلى الثقافة والمعارف التى اكتسبها فى سفراته المتعددة للعمل، بالتحديد عمله فى السلك الدبلوماسى، الذى جعله يسافر إلى السعودية وتركيا وليبيا وإيطاليا وفرنسا. فوفّرت له تلك السفرات التى تتباين مددها، روافد ثقافية مهمة أثرت معرفته. وجعلته يكاد يكون «مواطنًا عالميًا» يمتلك ثقافة «هجينة». ففى تركيا مثلًا استعان حقى بمدرس خصوصى ليقوى له لغته الفرنسية، وفى إيطاليا التى أقام فيها ٥ سنوات أتقن الإيطالية ووضع كتابه «تعالى معى إلى الكونسير». هذا بخلاف إلمامه ببعض جوانب اللغة التركية بسبب جذوره التركية. تضاف لذلك سنتان قضاهما فى فرنسا كسكرتير أول للسفارة المصرية فى باريس.

وربما يكون هذا الاحتكاك بالغرب الحافز الأكبر لكتابته قصته الأشهر «قنديل أم هاشم» التى تحوّلت لاحقًا إلى فيلم شهير. وضع فيه الشرق الذى ينتمى له، أمام مرآة الغرب المتحضر عبر شخصية طبيب العيون إسماعيل «شكرى سرحان» الذى راح يتصدى للخرافة فى المجتمع المصرى، والخرافة هنا هى قدرة زيت قنديل مسجد أم هاشم على شفاء عيون الناس. كما وضع جزءًا آخر من احتكاكه بالعالم الخارجى فى كتاب «كناسة الدكان»، وتحديدًا فى القسم المعنون بـ«من ذكريات الحجاز»، الذى حكى فيه عما عاينه فى السعودية: البوادر الأولى لاكتشاف النفط، ومشاهد الحج المهيبة، والتقائه الرحالة والجاسوس الإنجليزى جون فيلبى، والرحالة الهولندى دانييل فان در مولن.

وإلى جانب هذا الرافد الثقافى الغربى، جمع «حقى» فى تركيبته المعرفية جانبًا محليًا راسخًا، يمكننا بوضوح إرجاعه إلى إلمامه بالريف المصرى، فقد عمل كمعاون للإدارة فى منفلوط بمحافظة أسيوط، حيث تعرف على ريف الصعيد وفلاحيه وعاداتهم، وكان قبل ذلك قد حاول العمل بالمحاماة وسافر إلى الإسكندرية ودمنهور لممارسة المحاماة، وعبر تلك السفرات توافرت ليحيى حقى المعرفة ببلده ومواطنيه فى وجهيها القبلى والبحرى. وقد استطاع أن يضع عصارة معرفته تلك فى نصوصه الأدبية، لا سيما مجموعة «دماء وطين»، المكونة من ٦ قصص قصيرة تعكس أجواء ريف الصعيد وطقوسه وناسه، الهامشى منهم والمركزى. وبالمثل فقد وضع جزءًا آخر من تلك المعرفة بالمجتمع المحلى فى مصر فى قسم خصصه عن الصعيد فى كتابه «خليها على الله» الذى يخلط فيه بين المقالة والسيرة الذاتية.

أبودم خفيف.. مهجّن الأنواع

يقولون إن «الأسلوب شرف الكاتب»، وإذا صح ذلك، فلا شك أن يحيى حقى هو من أشرف الكتّاب وأرفعهم مقامًا، لأن له أسلوبًا ساحرًا يكاد يكون رأسماله بجانب معارفه الواسعة. فقد امتلك حقى ناصية اللغة، وهذا ليس عجيبًا على رجل درس الحقوق وتعلم فى تلك الكلية «فنون الخطابة»، وورث الشغف باللغة من والده الشغوف بالمتنبى، وعمه محمود طاهر الذى يعد الأديب الأول من آل حقى، حيث نشر رواية بعنوان «عذراء دنشواى» فى ١٩٠٦، وورث يحيى حقى عشق اللغة أيضًا من أخويه إبراهيم الذى شارك فى تحرير جريدة «السفور»، وإسماعيل الذى سبقه لكتابة الأدب وخط مسرحية واحدة لم يتم تمثيلها.

السمة الثانية فى كتابة يحيى حقى هى خفة الدم، والميل للسخرية، والإضحاك، وهو أمر ليس ببسيط. يقول الكاتب السعودية عبدالرحمن غازى القصيبى: «على الكتاب أن يضحكنى أو يبكينى ليكون أهلًا لمجالستى»، والكثير من كتابات يحيى حقى يتحقق فيها شرط «الإضحاك»، فلك أن تتخيل مثلًا أن له فصلًا فى أحد كتبه معنون بـ«وجدت سعادتى مع الحمير»، يشرح فيه عالم هذا المخلوق الموجود بكثرة فى ريف مصر، ومستوياته وطبقاته وطباعه وطرائفه. وهذا الميل إلى خفة الدم عند حقى، جرى التأصيل له، فى فصل بعنوان «الدعابة فى المجتمع المصرى» ضمن كتابه «فكرة فابتسامة».

أما السمة الثالثة فى أدب «حقى» فهى مستمدة من المزيج الثقافى الذى حظى به، فمثلما هو مصرى من جذور تركية بعيدة، ومثلما امتلك هجينًا ثقافيًا شرقيًا وغربيًا بسبب سفراته الكثيرة، كان ميالًا لتهجين الأشكال الأدبية، فتجد أن الكتاب الواحد له يضم قصصًا، ومقالات، ومقاطع يمكن إدراجها ضمن أدب «السيرة الذاتية»، متخطيًا بذلك فكرة القالب الأدبى، لينتج ما اصطلح على تسميته اليوم «نصوص عابرة للنوع»، فى عملية تهجين أدبية فريدة.

مجلة «المجلة».. مرحلة الأب الروحى

ترك يحيى حقى العمل الدبلوماسى فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى، وذلك ليتزوج من الفنانة الفرنسية جان ميرى جيهو، هكذا أسدل الستار على مسيرة طويلة فى العمل الدبلوماسى. وفى عام ١٩٦٢، تولى حقى رئاسة تحرير مجلة «المجلة» واستمر فى ذلك الموقع حتى ١٩٧٠، تلك مرحلة شهدت بجلاء الدور الرسولى فى الثقافة الذى اضطلع به يحيى حقى. 

لقد كان كشافًا للمواهب، وشهدت المجلة بدايات طلائع كتّاب ذلك الجيل، ونذكر هنا أسماء كانت بداياتها بالنشر فى مجلة المجلة من مثل: محفوظ عبدالرحمن، ووحيد حامد الذى كان حين نُشرت أولى قصصه فى المجلة طالبًا فى السنة الأولى من تعليمه الجامعى، ومحمد حافظ رجب، وعبدالحكيم قاسم.. إلخ. ولا يمكن أن نغفل مقدمته لرواية «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم والتى لا تزال تُعاد طباعتها مع كل طبعة جديدة من الرواية. ولك عزيزى القارئ أن تحكم بنفسك، فإذا كان هؤلاء قد صاروا شيوخ الكتابة الأدبية والدرامية فى مصر، فسيجعلك هذا تدرك أى دور لعبه «حقى» عندما فتح لهم أبواب مجلته.

لكن أغرب المواقف التى تعرض لها «حقى» التى تعكس أبويته للجميع، هى حكاية الكاتب الذى ذهب له بقصة قصيرة وكان حلم حياته أن تُنشر له قصة فى «المجلة». سلم الكاتب قصته وألح على يحيى حقى ليقرأها. وقرأها ولكن يبدو أنه تحرّج من أن يصارح الكاتب الشاب برداءة قصته فأخبره بأن مزاجه ليس جيدًا وأنه سيقرأ القصة مرة أخرى وسينشرها إن وجدها جيدة. وانصرف الكاتب، غير أنه راح يزور مقر المجلة أسبوعيًا ليسأل عن قصته ومصيرها. وفى النهاية لما وجد يحيى حقى أنه لا مجال للمماطلة أكثر من ذلك، صارحه بأنها غير جيدة، فما كان من ذلك الكاتب إلا أن ركض نحو شرفة المجلة، وهدد بالانتحار إن لم تُنشر قصته. وترجاه يحيى حقى أن يرجع من الشرفة، ووعده بأنه سينشر القصة، لكنه أرفق ذلك الوعد بشرط كوميدى وهو ألا يعاود ذلك الكاتب الشاب إرسال أى قصص للمجلة! فوافق الشاب.

وبالفعل نشر يحيى حقى تلك القصة الرديئة فى العدد التالى مباشرة، فأنقذ حياة الكاتب الشاب، وبالمثل أنقذ قراء الأدب من قصص أخرى رديئة كان ذلك الكاتب محدود الموهبة ليكتبها لولا اشتراط يحيى حقى عليه بألا يعاود مراسلة مجلة «المجلة».