رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متاهة علاء خالد

الشاعر علاء خالد حالة فريدة فى الثقافة المصرية، يعمل على مشروعه بهدوء، هو أحد رموز جيل الثمانينيات فى الشعر المصرى الجديد، ومؤسس مجلة «أمكنة» الرائعة والمعنية بثقافة المكان، فى السرد له رواية «ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر» ٢٠٠٩، وكتاب «وجوه سكندرية» ٢٠١٢، وكتاب أدب رحلات «أكتب إليك من بلد بعيد» ٢٠١٦، ورواية «أشباح بيت هاينريش بل» ٢٠١٩، ومؤخرًا صدرت له عن دار الشروق روايته الجميلة «متاهة الإسكندرية»، التى سعدت بالحديث عنها فى حفل توقيعها، الأحد الماضى، إلى جوار الكاتبة الكبيرة عبلة الروينى فى مكتبة البلد.

علاء يعيش فى الإسكندرية متفرغًا للكتابة، والرواية الجديدة ترصد التحولات العنيفة التى شهدتها المدينة فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى، يتأمل الزمن البعيد بخبرات رجل ستينى، اختار الراوى مجموعة من الفنانين الشباب الذين اجتمعوا على حب الرسم والثقافة بشكل عام، سامى وسميحة وعاصم وثائر ويوسف ومحسن وإحسان، ينتمى معظمهم لأسر ميسورة الحال، باستثناء الأخيرين، محسن ابن أحد عمال كفر الدوار، وإحسان بورسعيدية انتقلت إلى الإسكندرية مع المهجرين بعد الهزيمة، هذه المجموعة تعبر عن القلق والطموح والإحباط والبدايات لجيل تفلت من بين يديه العوالم القديمة، ومع هذا يتطلع إلى المستقبل بالحديث عن الفن، سميحة المصورة الفوتوغرافية تبحث مع الراوى عن ملامح وتجاعيد المدينة العريقة، ونتعرف من خلالهما على مواطن الجمال حتى فى المقابر، مقابر الجاليات والطوائف والديانات، الحياة والموت جزء أساسى فى العمل، جيل برجوازى يمسح المدينة ويلتقى فى أماكن محدودة ويتفق ويختلف، شباب ينتمى للمدينة ويختلف كثيرًا مع الذين فى العمر نفسه فى أقاليم مصر الأخرى، ربما بسبب ثقل التاريخ الثقافى للإسكندرية وربما بسبب الجانب الطبقى فى الموضوع، وبين هذه المجموعة أعتبر ابن العامل هو الشخصية القريبة إلى القلب، رغم نزقه ومبالغاته وحماقاته، لأنه يعبر عن شىء حقيقى وليس مجازيًا فى الحياة، وأيضًا إحسان، لا توجد عندها رغبة فى تغيير الوضع الاجتماعى ولا يوجد خجل، هما يعبران عن قطاعات أوسع فى المجتمع استفادت من مجانية التعليم، ويدرسان الفن، ويبحثان عن بصيص أمل فى عالم يتحول بسرعة ضد الطبقة التى ينتميان إليها، مصائر هؤلاء الشباب ونقاشاتهم شغلت مساحة كبيرة من العمل، تقترب وتبتعد عنهم شخصيتان أكبر سنًا، لهما نفوذ ما معنوى وهما معروفان كرسامَين فى المدينة، الراوى مات أبوه فى حادث سير وهو طفل، وأمه عانت من المرض طويلًا قبل رحيلها، وسناء الأخت هى الخيط الشعرى الشفيف فى العمل، رغم التحول الذى حدث لها بعد زواجها والانتقال إلى القاهرة، هى تعزف على العود وتغنى سيد درويش لأمها المريضة وتراسل عبدالحليم حافظ، وحاولت الاتصال به وهو مريض فى لندن، شخصية حرة ومرتبكة وقليلة الحظ، ولكنها قوية ومتفهمة خيارات شقيقها، الراوى تطوع للقراءة للمكفوفين فى بداية تعرفه على العالم الخارجى، ولأنه يريد أن ينتمى إلى جماعة ما، علّم المكفوفين هذا العالم الذى ظهرت فيه مناطق شجية، ونجح علاء فى تصويره من خلال شخصية عطية المتعلم ابن الصيادين، والده زينهم، شخصية سكندرية حقيقية، تشم أثناء الحديث عنه أو معه رائحة البحر والعوالم القديمة التى تخص السكندريين الطيبين الذين تشغلهم الحياة بعيدًا عن ثقافة الشباب والحديث عن الطرز المعمارية أو تاريخ المدينة، وأيضًا شخصية أستاذ الفلسفة الكفيف ابن الطبقة المتوسطة الذى يعتبر عمار الشريعى مثله الأعلى.. نجح علاء وهو يبنى عمله، الذى هو أقرب إلى السيرة الذاتية له ولمدينته، فى الاقتراب إلى مناطق الدفء والشجن والبهجة القليلة داخل هذه العوالم، توجد بالعمل مناطق توثيقية وأرشيفية كثيرة عن جاليات قديمة وتجار ومقابر ومقاهٍ وميادين وتماثيل ووقائع تاريخية، كنت أتمنى أن تكون أقل، لأنها كانت فى أحيان كثيرة تبعدنى عن مصائر البشر.. «متاهة الإسكندرية»، الرواية، أو السيرة، أو الكتابة المفتوحة، هى عمل فريد يشير إلى سارد كبير، يخبئ الشعر تحت حكاياته وحكايات جيله وحكايات الإسكندرية التى ابتعدت كثيرًا عن معناها، إسكندرية علاء تختلف عن إسكندرية داريل ورباعيته، وعن إسكندرية إدوار الخراط وعن إسكندرية إبراهيم عبدالمجيد وغيرهم.. هى إسكندرية جيل حزين يحاول أن يتشبث بما تبقى.