رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صحافة المهرجانات

من فترة قصيرة ضجّ الجميع مما يسمى «أغانى المهرجانات» الهابطة المبتذلة، لكنى لاحظت أن ظاهرة المهرجانات ليست مقصورة على الأغانى بل إنها تزحف بقوة إلى الصحافة! وإذا كنا نشكو من كلمات الأغانى فلماذا لا نشكو ونضج من نشر موضوع صحفى عنوانه كالتالى: "مريم فخرالدين تصرّح بقولها: جوزى عاشرنى تسع أيام متواصلة على السرير"! وبغض النظر إن كان الموضوع ملفقًا أم حقيقيًا فما الذى تضيفه مثل هذه المواضيع إلى ذكاء القارئ أو ثقافته؟ 

سأضرب أمثلة أخرى، ولن أشير إلى المواقع والصحف التى جاءت فيها، لكن بوسع من يشاء أن يجد المصادر على النت، انظر مثلًا موضوع عنوانه: "نجمة شهيرة تقول إن رائحة فم عبدالحليم مقرفة"! هنا نحن نتجاوز الإسفاف الذى يميز أغانى المهرجانات إلى الخوض فى سيرة فنانين رحلوا ولم يعد بوسعهم الدفاع عن أنفسهم، بل ونلطخ سيرة شخصيات أحبها الجميع ورفعوها أحيانًا إلى درجة التقديس.

صحيفة عربية يومية شهيرة تكتب بالبنط العريض: "لماذا كسر عماد حمدى باب شقة شادية ليضربها بيد الهون؟!"، ألا نرى فى هذه النماذج ومثلها كثير عقلية وروح وهمجية مطربى المهرجانات حمو بيكا وشطة وكزبرة وشاكوش وحنجرة؟!

مثال أخير، لكى لا أطيل، هذا العنوان لموضوع طويل: "الصراع بين يوسف شاهين ويوسف إدريس ونجيب محفوظ" علمًا بأن الموضوع لا يعتمد على أى مصادر كما أنه نشر بعد وفاة العظماء الثلاثة. 

وحين أعرض لهذه النماذج فإننى لا أتوقف عند حالة طارئة، أو عابرة، أو استثنائية، فمثل هذه العناوين والموضوعات تتكرر بشكل شبه يومى وعلى مدى زمنى طويل، خاصة فى المواقع الصحفية التى تسعى لاجتذاب المزيد من القراء وعلامات الإعجاب حتى لو كان ثمن ذلك الخوض فى سيرة حياة الراحلين. 

أليست هذه صحافة مهرجانات تتحرك جنبًا إلى جنب مع أغانى المهرجانات وبنفس المستوى المتدنى لفظًا ومعنى؟.. وحين يدور الحديث عن الصحافة فإن المقصود مباشرة الثقافة، لأن الثقافة عندى أبعد وأوسع من دائرة الإبداع الأدبى والفنى، وهى فى المقام الأول التعليم "مستقر الثقافة" كما قال طه حسين، والثقافة أيضًا هى وسائل الإعلام، خاصة الصحف والتليفزيون، ومنهما تتلقى الغالبية العظمى ثقافتها.. وما تغرقنا به وسائل الإعلام على الشبكة العنكبوتية مؤخرًا لا علاقة له بالصحافة، وأحيانًا غير قليلة لا علاقة له بالحس والذوق السليم، وما زال حاضرًا فى ذاكرتى كتاب سلامة موسى الصادر عام ١٩٣٤ "الصحافة حرفة ورسالة"، وفيه يقول: "الصحيفة مرآة الأمة تريها نفسها كما هى الآن، ثم هى مرآتها فى الغد تريها نفسها كما يجب أن تكون فى المستقبل"، أما الحديث عن أن رائحة فم المطرب فلان قبيحة فذلك أمر لا علاقة له لا برسالة الصحافة ولا بحرفة الصحفى الذى يقول عنه سلامة موسى إن عليه أن "يرفع الصحافة إلى الأدب.. والصحافة كالشعر والأدب والفن.."، وهو ذات الرأى الذى عبّر عنه الروائى العظيم جابرييل ماركيز حين اعتبر أن الصحافة نوع من الأدب، وليس من قلة الأدب.. وبذلك الصدد كان للشاعر الداغستانى العظيم رسول حمزاتوف عبارة جميلة يقول فيها: "من خرج يفتش عن الحقيقة حكم على نفسه أن يبقى دائمًا فى الطريق"، أى أن عليه أن يواصل البحث عن الحقيقة طول الوقت وطول العمر، وأعتقد أن الصحفى ينتمى لأولئك الباحثين عن الحقيقة والذين لا تتوقف رحلتهم، إلا لحظات يقدمون فيها للقارئ ما عثروا عليه ثم يواصلون الرحلة بعيدًا عن طبول المهرجانات وتخدير العقول واستهلاك حياة ووقت الناس فى الهراء.