رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النخبة المدنية تنزع تاج الخلافة عن رأس «أفندينا»

 

أحدثت ثورة ١٩١٩ تحولًا مهمًا فى فهم المصريين الدين، وكذا أنماط تفاعلهم مع حكامهم من هذه الزاوية، وأدى هذا التحول إلى تحول آخر مواز على مستوى حركة الدين داخل الشارع، كان من نتائجه ظهور الإسلام الجماعاتى لأول مرة فى تاريخ الأمة المصرية.

الملمح الرئيسى الذى ميز ثورة ١٩١٩ مقارنة بثورة عرابى ١٨٨٢ أنها تحركت بكتلة المتعلمين المصريين من طلبة المدارس العليا وجامعة فؤاد الأول «القاهرة فيما بعد». فشرارة الثورة انطلقت من طلبة الجامعات، فما إن علم طلبة كلية الحقوق باعتقال سعد وصحبه يوم ٩ مارس حتى أضربوا عن الدراسة وتظاهروا داخل الكلية ثم خرجوا منها إلى الشارع، حيث انضم إليهم طلبة الهندسة والزراعة، وتحركت المسيرة الطلابية من الجيزة إلى قصر العينى، حيث انضم إليها طلبة الطب، ومن قصر العينى إلى شارع المبتديان، حيث انضم طلبة التجارة العليا والشريعة، وظلت تسير حتى وصلت إلى ميدان السيدة زينب، حيث تم القبض على بعض المتظاهرين، وترحيلهم إلى مديرية الأمن. 

أصدر المحتل قرارًا بمنع المظاهرات، على أن يقدم من يخرق هذا القرار لمحاكمة عسكرية، لكن ذلك لم يفت فى عضد شباب المدارس العليا والمدارس الثانوية، وكذا شباب الأزهر الذين انضموا إلى زملائهم من طلاب الدراسات المدنية، ثم انضم إلى ركب الطلبة العديد من فئات المجتمع الأخرى، مثل عمال السكة الحديد والمحامين، وشملت المظاهرات فيما بعد كل فئات المجتمع من شباب وفتيات ومسلمين ومسيحيين. بعبارة أخرى توحد كل من تفرق فى دروب الفكر والعلم والتعليم والسياسة والعقيدة على فكرة تحرير البلاد من الإنجليز، وبات الكل على قلب رجل واحد لتحقيق هذا الهدف.

كتلة الطلاب والمتعلمين التى شكلت وقود ثورة ١٩١٩ تمتعت بأفق أكثر اتساعًا، واطلاع أكثر شمولًا على التيارات الحديثة فى الفكر والفلسفة واللاهوت، وكانت أجنح إلى العقلانية فى النظر إلى الأمور. وقد بدت هذه الكتلة متحررة بدرجة أكبر- مقارنة بالأجيال التى سبقتها- من بعض الأفكار الموروثة التى تخلط الدين بالسياسة. وكان أخطرها على الإطلاق الارتكان إلى فكرة الخلافة الإسلامية والتبعية للدولة العثمانية فى المناداة بتحرير مصر من الاحتلال الإنجليزى. وهى الفكرة التى اعتمد عليها الزعيم مصطفى كامل فى الدعوة إلى جلاء الإنجليز عن مصر، وتأسس عليها التراث السياسى للحزب الوطنى، فأخذ يروج لفكرة «الجامعة الإسلامية» ودعمه فى ذلك الخديو عباس حلمى الثانى. 

سيطرة الدين على السياسة كانت تشكل جزءًا من الموروث السياسى الذى ساد مصر أواخر القرن التاسع عشر، وقد ظهر بشكل جلى فى الصراع الذى نشب بين الخديو توفيق والزعيم أحمد عرابى عام ١٨٨٢، فقد حرص كلاهما على اللعب بورقة الدين ما استطاعا إلى ذلك سبيلًا. كان «عرابى» لا يفوت فرصة إلا ويؤكد فيها ولاءه للدولة العلية، وأن وقوفه ضد الإنجليز يأتى كدفاع عن سلطان الخليفة العثمانى على مصر، أما توفيق فكان يلح على السلطان- مدعومًا من الإنجليز- لإصدار فرمان يعلن فيه عصيان «عرابى» لخليفة المسلمين.

وقد ظهر أبرز تجليات الرؤية الجديدة التى تبناها ثوار ١٩١٩ فى تجاوز فكرة تبعية مصر للدولة العثمانية كأساس للدعوة إلى تحريرها من الإنجليز فى استبعاد أبرز رموز العمل السياسى فى ذلك الوقت من المشهد، وهو الزعيم محمد فريد الذى تولى قيادة الحزب الوطنى بعد مصطفى كامل. يشهد على ذلك أن الخطاب الذى أرسله «فريد» لسعد زغلول بعد اندلاع ثورة ١٩١٩ يحيى فيه قيادته لها، ولم يكترث به الزعيم الجديد، الذى لبس تاج الزعامة فى أجواء وظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما ترتب عليها من نتائج، كان من أهمها هزيمة الدولة العثمانية وانهيارها وإلغاء الخلافة بعد ذلك ببضع سنوات «١٩٢٤».

كانت ثورة ١٩١٩ التى قادها الطلبة والمتعلمون من أبناء الطبقة الوسطى إعلانًا عن إفساح الطريق أمام كل المصريين للانخراط فى قضية التحرير ومواجهة المستعمر بغض النظر عن ديانتهم، ليس ذلك فقط، بل لقد شرع أحد كبار العلماء فى ذلك الوقت وهو الشيخ على عبدالرازق فى مراجعة مفهوم الخلافة وفكك الفكرة التى تذهب إلى أن الخلافة أصل من أصول الحكم فى الإسلام. وكانت النتيجة تجذر مفهوم «الدولة الوطنية» لدى الكثيرين من أبناء الشعب، ناهيك عن رسوخها لدى طبقة الحكم، سواء كان الوفد هو من يتصدرها أو غيره من الأحزاب السياسية الجديدة التى نشأت بعد ثورة ١٩١٩.

ومقابل النخبة المدنية الجديدة التى تصدرت المشهد فى ذلك الوقت، ظهر تيار آخر ضم أصحاب العمائم الذين أثاروا ضجة خطيرة فى وجهها وطالبوا بالتصرف السريع لشغل منصب الخليفة الشاغر. انبرى الشيخ محمد الظواهرى، شيخ الأزهر وخلفه مجموعة من المشايخ وطالبوا بتولية الملك فؤاد خلافة المسلمين، وقالوا إنه أجدر ملوك العرب والمسلمين بالمنصب الشريف. 

كان هناك قطاع لا بأس به من المصريين يدعم هذا التوجه ويعتبر أن سقوط الخلافة مصيبة كبرى لحقت بالعالم الإسلامى الذى لم يعد هناك اسم أو رمز يتحدث باسمه. والواقع يقول إن دفاع هؤلاء عن الفكرة غلبت عليه العاطفة أكثر من الموضوعية، لأن الدولة العثمانية كانت تعيش- قبل عقود من عصر أتاتورك- عجزًا مستطيرًا عن حماية ولاياتها، ولم يلتفت هذا القطاع أيضًا إلى وجود زخم بشرى أكبر أصبح يلتف حول فكرة الدولة الوطنية المستقلة عن كل من الإنجليز والعثمانيين. 

وبالتزامن مع الدعوة لتنصيب الملك فؤاد خليفة على المسلمين كان البرلمان يسيطر عليه أغلبية من أبناء ثورة ١٩١٩ المؤمنين بفكرة الدولة الوطنية، ورأى أكثرها أن الدعوة إلى خلع عمامة الخلافة على رأس الملك فؤاد وتقليده سيفها يشكل ردة خطيرة عن الشوط الذى قطعه التيار التنويرى فى تأكيد المفهوم المدنى للدولة المصرية، فتصدى لهذا الطرح بمنتهى القوة، لتفشل خطة تنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين، على يد البرلمان.

لكن أصحاب فكرة الخلافة «من المشايخ وبعض رموز السياسة مثل أحمد حسنين وعلى ماهر» أعادوا الكرة مرة أخرى بعد وفاة الملك فؤاد فأغروا الملك الشاب الجديد «فاروق» بأن يتم تنصيبه فى حفل بالقلعة يتوج فيه كملك لمصر وكخليفة للمسلمين، ويسلمه شيخ الأزهر تاج الملك وسيف جده محمد على، على أن يؤم الملك «الخليفة» المسلمين فى صلاة الجمعة فى اليوم التالى للتتويج، ودعمت جماعة الإخوان بزعامة حسن البنا وجماعة مصر الفتاة بزعامة أحمد حسين هذا التوجه. وعندما وصلت هذه المعلومات إلى مصطفى باشا النحاس ذهب إلى الملك وكشف له ألاعيب أصحاب الفكرة وأثناه عنها.

عند هذا الحد توقفت محاولات إعادة الخلافة ولو بصورة شكلية إلى حظيرة الحكم فى الإسلام، وبات وصف «خليفة المسلمين» ذكرى من ذكريات التاريخ.