رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ميلاد إبراهيم عبدالمجيد

للكاتب الكبير والصديق إبراهيم عبدالمجيد منزلة كبيرة فى قلبى، ليس فقط لأنه كاتب فنان يحلق فى كل عمل فى أجواء شجية ومدهشة، ولكن بسبب شخصيته الودودة البسيطة، ولأنه يعيش الحياة كما يعيشها الناس العاديون.

أعرفه منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، وأحب كتاباته وأعرف قيمة منجزه الإبداعى، فى البداية خطفتنى قصصه القصيرة، التى تصطاد لحظات شعرية بلغة مباغتة تتحرك الشخصيات فيها بعيدًا عن قوانين القص المألوفة، هى شخصيات مأزومة بالطبع، ولكنها تبحث عن البهجة بعيدًا عن الصخب والحسابات الضيقة والأسباب التى صنعت الأزمة.

ففى «الشجر والعصافير وإغلاق النوافذ وفضاءات وسفن قديمة» على سبيل المثال نجح إبراهيم عبدالمجيد فى حفر نهر يخصه فى فن الحكى، هو لا يشبه أحدًا من الجيل السابق، ولا يلعب فى المنطقة التى تحرك فيها جيله المشغول إلى حد ما بالقضايا الكبرى، هو اختار الكتابة والاختباء فى مصائر شخصياته.

ترك التنظيمات الشيوعية مبكرًا، وكان رهانه على تأثير الحكايات، ولم يتخل عن قيم العدالة الاجتماعية والحريات والاستقلال الوطنى ومحاربة التطرف والتطبيع، ستجد هذه القيم وغيرها موجودة وناصعة ودون شعارات، وتعتبر رواية «المسافات» هى البداية الحقيقية له كروائى، وأعتبر هذا الفن مهنته.

حكى أنه وهو عضو فى الحزب الشيوعى اعترف للأستاذ عبدالوهاب الأسوانى بأنه ينتمى إلى الحزب الفلانى، فرد عليه الراحل الكبير: «لم تُخلق لمثل هذا يا إبراهيم.. الفن أبقى»، ليلتها اعتزل العمل السرى، واستدعى أساطير طفولته وقرأ حول هذه الأساطير وكتب روايته الفاتنة «المسافات»، كتبها بروح كاتب القصة القصيرة، ونجح من خلالها فى خطف القارئ بحيل تبدو طفولية، وفى رواياته التالية سيكون الأقرب إلى قلبك الأعمال التى كتبها بروح «المسافات».

صاحب «لا أحد ينام فى الإسكندرية»، سليل الأدب الإنسانى والعذابات الصغيرة المؤرقة لوجود الإنسان على الأرض، ليس كاتبًا سكندريًا كما يروّج كثيرون، كتب عن الإسكندرية التى تربى فيها، كتب عنها كمكان كونى فى الحرب العالمية الثانية، مكان يقبل التنوع والاختلاف ويرحب بكل الجنسيات والأديان فى الجزء الأول من ثلاثية الإسكندرية، وكتب عنها بعد خروج الأجانب فى الخمسينيات وكيف أصبحت مدينة عادية لا تختلف عن المدن الأخرى، ثم عن إسكندرية السبعينيات التى اختطفها السلفيون والفاسدون لتفقد معناها، هو يحاول صناعة ذاكرة لمدينة عظيمة تم تفريغها من معناها، كتابة عن المكان والزمن، لا تخلو من شعرية شفافة لا تعرف مصدرها، ولكنها تضعك فى حالة لا يقدمها أحد غيره.

وسر تدفق كتابات صاحب الـ٢١ رواية و٦ مجموعات قصصية و١٢ كتابًا «بين الترجمة والمقالات والسينما والمذكرات» أنه من أقرب كتّاب جيله للشباب، ولأنه صاحب ذائقة رفيعة فى استقبال التجارب الجديدة خصوصًا فى الشعر، أذكر أنه بعد أن تولى رئاسة سلسلة كتابات جديدة فى هيئة الكتاب سنة ١٩٩٥، طلب أن يكون ديوانى «الشتاء القادم» هو الأول فيها، لأنه قرأه قبل تكليفه، وكان الأول لى فى قصيدة النثر التى كانت تحارب من المؤسسة الرسمية والمعارضة فى الوقت نفسه.

استطعامه للجديد هو الذى حافظ على طزاجة لغته وخلوها من الحيل البلاغية سابقة التجهيز، قبل سفره إلى العلاج بأقل من شهر التقيته فى زهرة البستان، كان يتحرك بصعوبة ويمشى بعكاز رباعى، لم نكن التقينا منذ بداية الجائحة، تحدثنا كثيرًا وبكى على أصدقائنا الراحلين شاكر عبدالحميد وفتحى عبدالله وسعيد الكفراوى، كنا معًا نذهب إلى قريتى فى رحلة سنوية مع كثيرين لنقطف البهجة فى الطريق، ولعبنا طاولة وهزمنى هذه المرة، وكان سعيدًا لأنه فى المكان الذى يحبه ووسط محبيه فى وسط البلد.

إبراهيم عبدالمجيد الذى أتم الخامسة والسبعين من عمره يوم ٢ ديسمبر الجارى سيعود سالمًا بإذن الله من رحلته العلاجية فى سويسرا لنحتفل من جديد، ففى عيد ميلاده الـ٥٨ احتفلنا معًا وسط مجموعة رائعة كانت تشير إلى زمن كامل، وكان سعيدًا للغاية بهذه الاحتفالية، فى اليوم التالى بحث عنى وعن بقية أصدقاء الأمس، ليقول إنها حسبها خطأ، وإننا احتفلنا أمس بعيد ميلاده الـ٥٧.