رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من يذكر مصر الأخرى؟

قد يظن القارئ العزيز أننى سأتحدث هنا عن واحد من الأعمال الإبداعية للكاتب الكبير يوسف القعيد، هذا الذى أجدنى متيمًا بطريقته فى السرد، حتى فى أحاديثه الإعلامية، كما أننى أحب قلمه منذ تعرفت عليه قارئًا لرواياته، لاسيما روايته الإنسانية «المواطن مصرى»، ورغم هذا فأنا هنا اليوم أكتفى باقتباس العنوان، وقد يأتى اليوم لأتناول إبداعات الرجل فى حديث خاص، وعلى كل حال، فإن كلامى هنا لن يخرج كثيرًا عن الخط العام الذى جعله القعيد أسلوبه وهدفه من الكتابة الروائية. ذلك أنه قرر سبر أغوار الشخصية المصرية بكل متناقضاتها، وجعل المواطن المصرى هو بطله الحقيقى.

وهنا سأتحدث لكل من تفضل بقراءة المقال، سائلًا إياه: هل أنت ممن يذكر مصر الأخرى؟ ومصر التى أعنيها فى السؤال غير تلك التى يُصدّرها لنا الإعلام كل ليلة، مصر التى عرفناها ونشأنا فيها، والتقينا فى رحابها بالطيبين، والمنصفين، والزاهدين، والصابرين، والمتسامحين والمبدعين، مصر التى أقصدها هى وطن لمواطنين يحملون من صفات «الجدعنة» بكل مفرداتها وتفاصيلها ملامح غير تلك التى صاروا بها يُوصفون، ويأبى قلمى أن يعددها. فمصر رغم زحامها وزخم أحداثها كانت تعلى من قيمة الإنسان، وينطق لسان مواطنيها بألفاظ المحبة وعبارات التسامح. مصر التى أذكرها ينسى أهلها فقرهم عندما يستنجد بهم معوز، وحين يطرق بابهم محتاج. مصر التى عشتها تقدس العزف الجماعى، ولا تطرب للعزف المنفرد. مصر التى أحبها تعنى بالأصيل، ولا تعبأ بالوافد مهما ارتفع ثمنه وزادت بهرجته.

ومع مضى الأيام وتطور وسائل التواصل والاتصال، صار لدى كل مواطن وسيلة إعلام تنقل له أخبار الوطن وناسه. ومع طفرة إعلامية أخرى انفجرت منذ نحو عقدين، صار كل مواطن هو فى حد ذاته وسيلة إعلام متنقلة، تبث ما تشاء على نطاق واسع قد يتجاوز حدود الوطن دون رقيب ولا حسيب إلا ضميره الوطنى. وهنا وقعت الواقعة فقد أظهرت الإتاحة المباحة أسوأ ما فينا. وساعدت على هذا عدة عوامل من بينها: تراجع مستوى التعليم، وسطحية الثقافة، وغياب الوازع الوطنى، وتراجع الإيمان بالمثل العليا. 

وتلك طامة أخرى، يلام فيها أول ما يلام وسائل الإعلام. فبدلًا من أن يثبت الإعلامى الحقيقى على ما علّمته إياه مهنته من ضرورة الدفاع عن ثوابت المجتمع، والحرص على إعلاء المثل العليا وخاصة عند الناشئة، نرى معظمهم– للأسف– وقد جرفهم «التريند» إلى أقصى مدى. وصار الإعلام البديل هو المحرك لسوق الميديا الحقيقية. فنادرًا ما ترى برنامجًا يقدم لك رسالة إيجابية، بتصدير رمز من رموز الوطن الذين شقوا طريقهم وسط الصعاب، وواجهوا التحديات حتى حققوا النجاح الذى جعلهم فى واجهة المشهد، بعد أن ارتقوا السلم الاجتماعى صعودًا مشرفًا ونزيهًا.

لقد صار العكس– للأسف– هو المحتفى به إعلاميًا، بل ومجتمعيًا أيضًا. صار شعار معظم وسائل الإعلام «خالف تعرف»، وأصبح تقدير قيمة المرء أمرًا يتم بمعيار واحد هو ما يملكه هذا الإنسان من مال، دون النظر لمصدر كسب هذا المال، ودون الاكتراث بما أنجزه هذا المواطن أو ذاك، رجلًا كان أو امرأة لصالح وطنهم، وهنا أجدنى مستسلمًا لما رفضته مرارًا من التسليم بنظرية المؤامرة ضد هذا الوطن، فالمقدمات تقود بالبديهة إلى النتائج.

أعود للسؤال الذى اقتبسته من عنوان رواية «من يذكر مصر الأخرى؟»، مصر الأخرى التى تغنى بها ولها المبدعون، فسكنت أغنياتهم ورواياتهم وأفلامهم ومقالاتهم وأشعارهم القلوب، لأنهم كانوا يؤمنون بما يقولون، ويترجمون بإبداع وعبقرية معانى يعيشونها وسط ناسهم، فيصدقها الناس لأنهم يرونها بين ظهرانيهم رؤية العين. أقر أن من سيسعى لاكتشاف ملامح مصر الحقيقية الأصيلة لينقلها للناس سيجد صعوبة فى عمليات البحث والتنقيب، لكنه سيجدها. كما أنه سيجد حالة من عدم التصديق وضعف اليقين بما يقول، لكنه بالتدريج سيكون مقنعًا. والأخطر أنه سيواجه حربًا من السوداويين والمثبطين والعملاء المأجورين لكى يغير وجهته ويلون قلمه بلون قلوبهم السوداء، لكنه بالصبر حتمًا سيصل إلى مبتغاه. 

فيا كل صاحب قلم، ويا كل من يمتلك منبرًا ينشر فيه كلمة خير، ويعلى من خلاله قيمة إنسانية، ويعطى عبره أملًا للناس فى غدٍ أفضل، لا تتردد ولا تتراجع ولا تستسلم أمام طيور الظلام وعشاق الفشل وكارهى الخير للناس. اثبت على موقفك. وانشر لنا صورة مصر الأخرى، بل هى صورة مصر الحقيقية بخيرها وجمالها وطيبة ناسها. فقد اشتقنا والله لقيم تم تغييبها عمدًا، وصرنا فى انتظار الضوء الذى يأتينا وسط العتمة، فكن أنت صانع هذا الضوء، أو على الأقل كن حامل مشعله، وتدريجيًا سيعم النور، وتعود مصر الأخرى لبريقها الذى يتواكب مع طفرة كبيرة نشهدها فى البنيان، فتتكامل الصورة بعودة الرقى للإنسان.