القصة الكاملة لحريق جمعية النهضة الثقافية ــ جزويت القاهرة
بأصابع مرتعشة تقبض على كوب القهوة الثالث، في أقل من ربع ساعة، ومن إشعال سيجارة، من "عقب" الأخرى، يجلس أبونا وليم سيدهم اليسوعي، رئيس مجلس إدارة جمعية النهضة العلمية والثقافية ــ جزويت القاهرة، منهكا مفجوعا لا تتحمله قدماه من وقع الصدمة التي ألمت به، إثر الحريق الذي التهم مساء أمس "الأحد" مقر جمعية النهضة والمسرح الملحق بها وأتت على جميع محتوياته، دون أن تخلف أي خسائر أو إصابات بشرية.
وعندما أقتربت منه لأربت كتفه: "فداك يا بونا الحمد لله محدش جرى له حاجة وجت ع الحيطان وبس"، فيجيب بصوت مرتعش لا يصدق ما تراه عيناه، ويخبر نفسه بأنه كابوس سرعان ما يستفيق منه بمجرد أن يصحو، فيتبدد هذا الكابوس الرديء المفزع، ويجد نفسه جالسا في مكانه كما اعتاد، بمدخل جمعية النهضة، يرحب بالزائرين والمترددين على المكان من طلاب، من مختلف الأعمار والألوان مسلمين ومسيحيين، ينشر الفن والخير والجمال.
أو كما اعتاد أن يدير الأمسيات الثقافية واللقاءات الفكرية، التي طالما نظمها واستضافها مركز الجزويت، ينشر الدفء بابتسامته الطيبة الحنون، بروح طفل مشاكس. فهنا قبل ثلاثة أعوام حاورت "الدستور" أبونا وليم سيدهم حول جمعية النهضة، وكيف أسسها الآباء اليسوعيين، وعن أحلامه وطموحاته للجمعية، وكيف أنها مكان يتلاقي في الجميع، دون النظر إلي الجنس أو اللون أو الدين، هنا صوت المواطنة فقط، هنا بين رحاب جزويت القاهرة، الفنون والثقافة والإبداع.
أعاود مواساته مرة ثانية٬ فيرد أخيرا: "كل تعب السنين والشغل راح يا نضال، ومش هايتعوض"، ولم أدر كيف أخفف عنه أو أعزيه، فالنيران التي ألتهمت مبنى الجمعية ومكوناتها والمسرح، لم تقض على مكان من حجر، بل حرقت معها ذاكرة المكان وناسه، فلكل طالب أو زائر أو حتى عابر سبيل، على جمعية النهضة، له ذكرى في المكان، هنا جاء الكاتب والسيناريست الكبير "عبد الرحيم كمال قبل ثلاث سنوات تقريبا، وباح بمكنوناته، عن الروح والتصوف، والمحبة، عن الله والفن والجمال. وكانت ليلة مشهودة، حتي أن أكبر قاعات الجمعية ضاقت علي ضيوف الأمسية في تلك الليلة.
هنا أيضا أطلق الأب فرنسيس جوزيف بركماير اليسوعي، ــ الهولندي الجنسية ــ كتابه «طلع من المولد بلا حمص.. الروحانية الواقعية للأمثال الشعبية المصرية»، وفي هذه الليلة صال وجال بخفة دم أولاد البلد، ولا تصدق أن بشرته البيضاء المشربة بحمرة، يمكنها أن تكون بكل هذه الروح المصرية التي تشبعت بها من معاشرته للمصريين ومكوثه بينهم. تحدث ليلتها عن فلسفة الأمثال الشعبية، حتي خيل للحضور أن الأب فرنسيس جوزيف بركماير، ولد وتربى في مصر.
بين جدران جزويت القاهرة آلاف الطلاب، الذين وقعوا أسري لغواية الفن، المسرح، السينما، وكل الأشكال الفنية والإبداعية، حتى أن طلاب الأداء الحركي والمسرحي، لاحظت أكثر من مرة كيف أنهم يخلعون أحذيتهم قبل الدخول لقاعة الدرس والبروفات، وكأن بقلوبهم مكانة الفن ومكانه كمحراب المتعبد.
الصدفة وحدها قادتني لموقع الحدث
لم أكن أتصور أن عربات الإطفاء الآتية من خلفي وأنا أعبر شارع الفجالة، في طريقي المعتاد إلى محطة مترو غمرة، تسبق الوقت في طريقها إلى جمعية النهضة الثقافية والعلمية ــ جزويت القاهرة. ولم أتخيل أن رائحة الدخان التي أزكمت أنفي منبعثة من المكان الذي أرتبطت ذكرياتي الجميلة به، وما أن وصلت لأول شارع "بستان المقسي"، والأدخنة متصاعدة ورائحة الحريق تزداد، وما أن وصلت إلى شارع المهراني حيث مقر الجزويت، وتجمع كبير من سكان المنطقة وعربات الإسعاف والإطفاء. سقط قلبي بين قدمي، واختبرت هشاشتي أمام الفجائع.
كانت الساعة حوالي التاسعة مساء الأحد، وخلال أقل من ربع ساعة، كانت قوات الدفاع المدني قد سيطرت على الحريق، دون أي خسائر بشرية، لكن أحد أفراد قوات الحماية المدنية أكد أن خسائر مبنى الجمعية ومسرحها تبلغ مائة في المائة، مع تأكيد أحد ضباط قسم الأزبكية بأن أسباب الحريق لم يتوصل إليها بعد في انتظار نتائج المعمل الجنائي ومعاينة النيابة.
إمام عبد الجواد أول من أبلغ عن نشوب الحريق
وقال أحد شهود العيان من أهالي شارع المهراني، إن الكابل الكهربائي الخاص بالجمعية، حدث به خلل فأدى إلى نشوب الحريق، وكان أول من لاحظ الحريق أمين الشرطة "إمام عبد الجواد"، أحد أفراد قوة تأمين كنيسة ومدرسة العائلة المقدسة بشارع بستان المقسي.
توجهت إلى شارع بستان المقسي، وسألت عن كيف ومتى بدأ الحادث، فأخبرني أمين الشرطة "إمام عبد الجواد"، أحد أفراد قوة تأمين كنيسة ومدرسة العائلة المقدسة، بأنه وفي الساعة الثامنة والثلث مساء الأحد، لاحظ انبعاث أدخنة، وبتتبعه لرائحة الدخان أكتشف أن الحريق في جمعية النهضة، فسارع إلى فصل الكهرباء والغاز عن الجمعية، وأبلغ قسم الأزبكية، وقوات الحماية المدنية التي وصلت في أقل من خمس دقائق.
تابع "عبد الجواد": ناديت علي أبونا وليم سيدهم، فقد كان قبلها بوقت قصير داخل المدرسة ــ العائلة المقدسة ــ لكنه كان قد غادر قبل قليل.
