رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«هنا تنزانيا».. «الدستور» تتجول فى بلد جوليوس نيريرى: الشوارع ذات طابع عربى

هنا تنزانيا
هنا تنزانيا

لم تكن رحلتى شاقة على عكس المتوقع والمعروف عن إفريقيا، حيث رسخ الإعلام فكرة أنها أقسى بلاد الله، وهذا لا يعكس الواقع كله.. نعم لا يمكن إنكار أن إفريقيا قارة تحمل أعلى معدلات الفقر والعنف والمرض ولكن هذا ليس كل الأمر، فهناك أبراج شاهقة ومليارديرات يعيشون على أرض القارة التى ستشكل يومًا ما أمل الكوكب الوحيد فى البقاء.

الآن نحن فى الطريق إلى تنزانيا.. دولة ربما لم يسمع بها كثير من المصريين إلا فى كرة القدم، لكنها باتت تشغل حيزًا أوسع فى التغطية الإعلامية مع تنفيذ مصر «سد جوليوس نيريرى» هناك، وهذا السد يعد مشروعًا قوميًا لأبناء الشعب التنزانى لتوليد الطاقة الكهرومائية، حيث ينتظر أن تبلغ سعته التخزينية ٣٤ مليار متر مكعب.

رحلتى بدأت من العاصمة الكينية «نيروبى» حيث كنت، صعدت إلى حافلة- حصلت على تذكرتها بعدما دفعت ٣٥ دولارًا- متجهة إلى العاصمة التنزانية «دار السلام»، وكان مقعد الحافلة سريرًا لنحو ٢٠ ساعة، مدة الطريق، لم أفارقه إلا مرتين مرة لأختم جواز سفرى خروجًا من كينيا ودخولًا إلى تنزانيا وأدفع تأشيرة الدخول وقيمتها ٥٠ دولارًا وإجراء مسحة «كورونا» وتكلفتها ٢٥ دولارًا، والمرة الأخرى لشراء بعض الطعام فى نصف الرحلة تقريبًا.

يسهل إدراك أن الحافلة تقترب من «دار السلام» عاصمة الدولة ذات التعداد السكانى الذى يقترب من ٥٨ مليون نسمة عندما تسمع الكثير من اللغة السواحيلية، ورغم أن كينيا وتنزانيا من دول اتحاد شرق إفريقيا ولكن شتان، فالأرض والناس والطباع تختلف كثيرًا.

فى الطريق صعد أحد الرجال يرتدى بذلة ويحمل فى يده كتابًا وبدأ فى القراءة بصوت عالٍ، عرفت بعدها أنه مُبشر بالمسيحية، والكتاب هو الإنجيل باللغة السواحيلية، وهذا الأمر معتاد فى وسائل المواصلات هنا، وعلى طول الطريق يصعد البعض وينزل راكب أو اثنان.

اختفت الشمس وظننت أنه لا مزيد من الصعود ولا النزول إلى أن صعد رجل يحمل بعض المنتجات ليبيعها، ولأن الظلام حالك حمل كشافًا صغيرًا يستخدمه لمن يريد أن يعاين منتجه.

يُبهرنى كثيرًا دأب أهل إفريقيا خاصة من قرر منهم أن يكف عن الرضا بالقليل، حيث تجده ينبش فى كل مكان طالبًا رزقه، بالطرق الشرعية فى معظم الوقت وبطرق لا تريح القلب أحيانًا، حتى تظن أنهم شعب لا ينام حتى ليلًا كبائع الحافلة، على عكس الشائع أن الرجل الإفريقى يفضل الكسل والمال السهل على الكد.

يا عزيزى القارئ لا يوجد رجل يهوى مجلس النساء، لكنه الوضع الاقتصادى الطاحن خاصة بعد أن ضرب فيروس «كوفيد- ١٩» فرص العمل.

وصلت عند منتصف الليل، ومكثت فى محطة الحافلات حتى الساعة الرابعة فجرًا، ثم أجّرت سيارة أجرة حتى موقف العبّارة التى ستحملنى لجزيرة «زنجبار» التنزانية بحوالى ١٠ دولارات.

ورغم أن المسافة كانت قصيرة على الأجرة التى طلبها لكن الغريب أعمى كما يقولون، والوقت كان متأخرًا جدًا وتلك هى ساعاتى الأولى فى دولة أزورها للمرة الأولى.

بدا منطقيًا أن أدفع له ما يطلبه بدلًا من انتظار المجهول، وصلنا وابتعت تذكرة العبّارة السريعة التى ستقطع ما يقرب من ١٦٠ ميلًا خلال ساعة ونصف الساعة بما يوازى ٣٥ دولارًا، عرفت أن العبّارة ستقلع فى السابعة من صباح اليوم وكان أمامى ما لا يقل عن ساعتين من الانتظار، قررت التجوّل حول الميناء وشراء بعض الطعام لتناوله.

لم يكن هناك الكثير من الاختيارات فلا توجد مطاعم تعمل فى هذا الصباح الباكر، ولكن وجدت الكثير من الباعة الجائلين.. ألم أقل لكم إن الإفريقى إذا قرر لا يوقفه الوقت سواء آخر الليل أو بواكير النهار؟

ابتعت بما يساوى دولارًا ما يسمى «بوردج» وهو مشروب يشبه الحساء ذات القوام المتوسط، والمشروب مصنوع من الذرة المجففة والدخن تُبلل بالماء وتترك لتتخمر لبضعة أيام قبل الطهى حسبما أخبرتنى البائعة التى تواصلت معها بلغة الإشارة حيث إننى لا أتحدث إلا القليل من السواحيلية رغم إتقانى الإنجليزية.. لم تسعفنى الأولى فى فهم طريقة الطهى واللغة الثانية لم تكن أصلًا موجودة فى قاموسها ولكن التواصل بالإشارات هوّن الأمر كثيرًا.

علمت وقتها أن علىّ تذكر جل ما أعرفه عن السواحيلية، فالأيام المقبلة لن تكون ذات فائدة إن لم أتكمن من التواصل مع السكان المحليين وجمع الحكايات، أعدت لها الكوب الذى كنت أشرب فيه وقلت: وداعًا للبنايات الحديثة فبعد عبور المحيط سأنزل فى الجزيرة ذات الإيقاع القديم والبطىء جدًا، ولم تخيب الجزيرة توقعى.

بدا الأمر فى بدايته كأنى فعلًا ركبت آلة الزمن، لولا الهواتف الجوالة التى حملها الكثيرون لما صدقت أننا فى الألفية الثانية، ملابس الناس لا تختلف كثيرًا عما كانت عليه قرونًا مضت حيث العباءة والجلباب، الشوارع ذات طابع عربى لم أكن أعرف سره الذى عرفته لاحقًا، حتى العطور تشبه كثيرًا المسك والعنبر والصندل وما يماثلها، والبيوت دوران على الأكثر وأبوابها من ضلفتين خشبيتين، مزينة بمقابض نحاسية، أما الجو فكان استوائيًا جدًا لا تعرف إن كان حارًا أم باردًا عليك أن تحمل «جاكيت» دائمًا تحسبًا لتغيره المفاجئ، وبشكل عام هذا لم يُزعجنى، فهذه هى العادة فى الدول الواقعة حول وعلى خط الاستواء.

وصلت أخيرًا لفندق رخيص، وأجّرت غرفة بما يوازى الـ٣٠ دولارًا أمريكيًا، وقررت أن أستريح قليلًا قبل أن أنزل الشارع لجمع ما يمكن جمعه من الحكايات.

نزلت من الفندق الذى أقيم به، وبالصدفة وجدت أمامى سائق «بودا بودا»، وهو الاسم الذى يطلق على الدراجات البخارية هنا، وكان يوصل إحدى العاملات فى الفندق، استأذنتهما فى التحدث باللغة الإنجليزية بعدما عرفتهما بطبيعة عملى ومهمتى، وهو ما لم يكن سهلًا، لأن اللغة الأم هنا هى السواحيلية، وقلما تجد من يتحدث بغيرها.

سألت عن الشخصيات الأشهر والأكثر أهمية بالنسبة لأهالى البلاد، لإيمانى بأن الأسماء التى يحفظها الناس فى الشارع عادة ما تحمل الكثير من الأهمية والاستحقاق، ورغم أن ذلك لا يكون صحيحًا فى بعض الأحيان لاحتفاء البعض مثلًا بأسماء بعض الفنانين مثلًا على حساب مفكرين وسياسيين أدوا أدوارًا أكثر أهمية، إلا أن ذلك لم يمنعنى من التجربة. 

ساعدنى على السؤال قاموس للغة السواحيلية، كنت قد ابتعته منذ أعوام فى أول زياراتى إلى شرق إفريقيا، مع التواصل بالإشارة قليلًا، وما إن فهم السائق وعاملة الفندق سؤالى حتى أجابانى: «نيريرى».

كنت أعرفه بالتأكيد، لكنى حاولت أن أكرر سؤالى لأصل إلى اسم غيره، لكن الفتاة قاطعتنى مكررة: «نيريرى.. نيريرى»، كأنها تريد أن تخبرنى بأنه لا يمكن ذكر مشاهير آخرين فى تاريخ تنزانيا أولى من هذا الرجل.

حكاية «نيريرى» بدأت عندما كانت مصر تكافح لنيل استقلالها مع صدور تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢، الذى أعلنه المحتل البريطانى ليؤكد أن مصر أصبحت «دولة مستقلة ذات سيادة» لكن مع بقائها تحت الوصاية البريطانية.

فى هذا الوقت، وفى شهر أبريل من عام ١٩٢٢، ولد جوليوس كامباراج نيريرى فى «تنجانيقا»، وهو الاسم الذى كان يطلق على الأرض التى أزورها قبل أن تتحد مع جزيرة «زنجبار» فى عام ١٩٦٤ ليكوّنا معًا جمهورية تنزانيا.

وكان «نيريرى» ضمن ٢٥ طفلًا بقوا على قيد الحياة بعد ميلادهم من بين أبناء الرجل الذى كان يعد زعيمًا شعبيًا، وأقام كل منهم فى كوخ مع أمه، وكانت الأكواخ كلها تحيط منزل الأب بشكله الدائرى، خاصة أن تعدد الزوجات كان أمرًا طبيعيًا فى الثقافة الإفريقية، ما دام الأب قادرًا على إعالة أطفاله.

انتمى «نيريرى» لقبيلة «الزاناكى»، وهى واحدة من ١٢٠ قبيلة فى البلاد التى تقبع تحت سيطرة الاستعمار البريطانى، وكان منذ طفولته مؤمنًا بالآلهة الخاصة بالقبيلة، وعاش فى كوخ والدته يساعدها فى زراعة الدخن والذرة وغيرهما من النشاطات الخاصة برعى الماعز والماشية، كما خضع مثل غيره لطقوس الختان التقليدية، وباعتباره «ابن زعيم» فقد تعرف على السلطة وطريقة إدارتها فى إفريقيا، وهو ما أثر على أفكاره السياسية لاحقًا. 

ووسط هذه الأجواء، رغب المحتل فى دمج أبناء الزعماء الأفارقة فى التعليم البريطانى، ظنًا منه أن ذلك سيسهل من المهمة الاستعمارية، لذا تعلم «نيريرى» فى المدارس التى افتتحت حديثًا فى البلاد، حتى تخرج فيها، لكن أثر هذا التعليم جاء على عكس ما يرغب المستعمر، وصار سببًا فى تطور نخبة أصلية متعلمة تتحدى الحكم الاستعمارى.

فى طفولته أظهر «نيريرى» التفوق الدراسى، وكانت نتائجه النهائية فى الامتحان الأعلى من أى تلميذ فى منطقته، وبعد تفوقه الملحوظ حصل على منحة للدراسة بمدرسة تابورا الثانوية الحكومية وهى مدرسة للصفوة، ووقتها رتب له والده، كما هى العادة فى قبيلة «زاناكى»، زواجًا من فتاة تدعى «ماجورى واتيها»، التى كانت تبلغ فى ذلك الوقت ثلاث أو أربع سنوات فقط، مع استمرار كليهما فى العيش منفصلين لحين البلوغ.

ونشأ الشاب مُحبًا للقراءة، وعبر الكتب تعرف على المسيحية، ورغم أنه بقى على العادات القبلية، ومنها برد الأسنان الأمامية ليصير شكلها مثلثًا، فإنه قرر لاحقًا أن يتعمد مثل أى كاثوليكى، وعند تعميده اختار اسم «يوليوس»، لكنه رأى لاحقًا أنه من السخف أن يغيّر الإفريقى اسمه القبلى بعد أن يعمد، معتمدًا فى ذلك على حلمه بالقومية الإفريقية التى اعتبرها حلمه المنشود، وهو ما تحدث عنه مرارًا بعد ذلك مع صديقه الرئيس المصرى الراحل جمال عبدالناصر، أثناء تبادلهما الزيارات الرئاسية.

فى عام ١٩٤٣، وصل «نيريرى» إلى العاصمة الأوغندية «كامبالا»، للدراسة فى كلية «ماكيريرى»، وبعدما انتهى من الدراسة عاد إلى إقليم «زاناكى» ليبنى منزلًا لأمه الأرملة، مع قضاء الوقت فى القراءة والزراعة.

عُرض عليه العمل فى عدة أماكن، لكنه اختار مدرسة «سانت مارى» ليعمل فيها، مع بدء خطواته الأولى فى عالم السياسية، التى تأثر فيها بمبادئ زعيم الاستقلال الهندى المهاتما غاندى، مع الدعوة لمقاومة المحتل عبر اللا عنف.

بعد ذلك بسنوات قليلة، تم انتخاب «نيريرى» فى المجلس التشريعى فى انتخابات ١٩٥٨-١٩٥٩، ثم قاد حزبه «تنجانيقا للاتحاد الوطنى الإفريقى» أو «تى. إيه. إن. يو» للفوز فى الانتخابات العامة لعام ١٩٦٠، وتفاوض مع المحتل بعدما صار رئيسًا للوزراء، وأسفرت المفاوضات مع السلطات البريطانية عن استقلال «تنجانيقا» فى عام ١٩٦١، وفى عام ١٩٦٢، أصبحت «تنجانيقا» جمهورية، وانتخب «نيريرى» أول رئيس لها، ولقبه الشعب بـ«أبوالأمة».