رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إدارة رشيدة لمعركة عادلة

باحترافية عالية وبصبرٍ تُحسد عليه وفي كتمان شديد - ضمن نجاح المهمة - وعلى مدار مئة يوم من المفاوضات الشاقة، أدارت مصر ملف قضيتها العادلة مع الشركة المالكة للسفينة البنمية "إيفر جيفن" الجانحة في مياه قناة السويس والمتسببة في التعطيل الكامل لحركة الملاحة فيها خلال الفترة من يوم 23 من مارس الماضي، إلى أن نجحت الإدارة الرشيدة لهيئة قناة السويس في تعويم السفينة وإنهاء الأزمة - بصورة مؤقتة - يوم 29 من الشهر ذاته، لاستعادة حركة الملاحة في قناة السويس.
وبعد تجاوز التحدي - الذي فرضه الموقف على مصر - بنجاح مرشدي الهيئة وعمالها وقياداتها في تعويم السفينة الجانحة مضى نصف العبء، في مشهد يُحسب لرجال هيئة القناة ويُذكرنا بما فعله المرشدون الوطنيون حين انسحب نظراؤهم الأجانب على إثر قرار تأميم القناة في عام 56، وعقب الانتهاء من تعويم السفينة - بكامل حمولتها - تبقى النصف الآخر بل والأهم من المهمة وهو استعادة مصر لحقوقها وتأكيد الهيئة لسمعتها الدولية كأهم مجرى ملاحي عالمي وبقيادة رشيدة للأزمة قادها من الجانب المصري الفريق أسامة ربيع رئيس الهيئة انتهت المفاوضات إلى الوصول لتسوية تمت فيها مراعاة حقوق القناة بالكامل، ووضعت النهاية المُرضية للقضية حرصًا من الهيئة على علاقاتها بالشركة المالكة ومراعاة لمصالح أصحاب البضائع.
والشاهد من هذه الواقعة هو أن مصر وقيادتها الحكيمة لا يمكن أن تتخلى عن حق من حقوقها المشروعة، وأن سياسة النفس الطويل والصبر على النوائب تُؤتي ثمارها في النهاية والأهم هو أن مصر لا ترضخ لأي ضغوط ولا تقبل بأية مساومات حول حق من حقوقها المشروعة وأن الهاجس الدائم للقيادة ليس إلا صالح الوطن والمواطن، وفي ظني أن المشهد الأبرز في احتفالية توديع السفينة كان وقوف الحضور - باختلاف جنسياتهم-  لتوديعها وتلويحهم جميعًا بالعلم المصري، في إخراجٍ مبهرٍ ومشرف لمشهد النهاية في أزمة لم تكن بالهينة، غير أن حُسن إدارة الأزمة - الذي كللته عناية الله وتوفيقه لجهود المعنيين - جعل من هذه الأزمة العابرة في تاريخ القناة الممتد، نقطة تميز ودليلًا على الاحترافية في الأداء الملاحي وكذلك التفاوضي وأظن أن تلك الأزمة العابرة ستظل مرجعية في قانون البحار حال تكرار مثل هذا الموقف في أي مجرى من المجاري الملاحية العالمية.
الأهم في كل ما حدث أن الأزمة لم تمر دون أن يُستفاد منها، فقد اتُخذ القرار بتسريع عملية توسعة وتعميق القناة ليبدأ تنفيذها اعتبارًا من مايو الماضي بدلاً من يناير من العام المقبل، في إشارة واضحة إلى أن مصر لا تفرح بانتهاء أزمة عابرة، ولكنها تستفيد منها لتمنع تكرارها في المستقبل وفي هذا إشارة مطمئنة على العقلية التي تدير الملفات الهامة في مصر، ومن حسن الطالع أن تلك المشكلة رغم خطورتها، جاءت في قطاع ليس لدينا فيه الكثير من خبراء السوشيال ميديا الذين كان من الممكن بتدخلاتهم - بنوايا حسنة ربما - أن يُفشلوا المسار التفاوضي مع الشركة المالكة للسفينة.
والمبهج في الأمر أيضًا أن قصة تعويم السفينة أصبحت ملحمة تُكتب عنها القصص الملهمة للأطفال، فقد استلهم ريان بيترسن كاتب الأطفال فكرة قصة كتبها على ضوء الحادث ليحكي للأطفال كيف يمكن بقوة الإرادة وحسن التصرف لحفار صغير أن يحرك سفينة جانحة يمثل حجمها عشرات أضعاف حجم ذلك الحفار في دلالة على إمكانية تحريك العقبات الكبرى في الحياة إن امتلك المرء إرادة النجاح، ولتتحول تلك الأزمة العابرة في مسيرة قناة السويس إلى ملحمة تؤكد ثقة المصريين في قيادتهم، وأن أزمة كهذه تعطي إشارة لكل الوطنيين أن "كل مُر سيمر" وأن لدينا من العزيمة والإصرار على تجاوز الأزمات والثبات في مواجهة أعتى المشكلات ما يؤهلنا لاجتياز أي أزمة نمر بها حاليًا، يبقى علينا فقط أن نثق بمن فوضناهم ليديروا أمور هذا الوطن ويقودوا سفينته نحو بر الأمان.