رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيلفى مع أحمد حلمى الصحفى الأول وسجين الحرية والصحافة

أحمد حلمي سجين الحرية
أحمد حلمي سجين الحرية و الصحافة

نجد في الخيال متعة تشبع دوافعنا عندما يتحمل شطح أفكارنا حيث اللامعقول، وقد نجده من خلال الماضي وشخصياته التي خلدها التاريخ بفضل الرسائل النبيلة والسامية التي حملوها، فهزت العالم، وشكلت مستقبلنا وأصبحت مثالًا يحتذى به، ووسط كل هؤلاء نجد شخصية أثرت في مسيرتنا الصحفية وشكلت وجدان كبار الصحفيين المصريين، إنه "سجين الحرية والصحافة" كما أطلق على نفسه، وهو أول من لُقب بالصحفي الأول لجريدة "اللواء"، إنه الأستاذ أحمد حلمي، الصحفي الذي ساعد الزعيم مصطفى كامل في كشف بشاعة حادثة "دنشواي" وأول صحفي يدعو إلى قلب نظام حكم سياسي بمصر وأول مطالب بإنشاء نقابة للزراعة ووزارة لها وأول صحفي يتم سجنه بتهمة العيب في ذات الحاكم، وبات اسمه الآن يُطلق على "محطة مصر".

تحديات الأستاذ أحمد حلمي دفعتني ليكون هذا المناضل ضيفًا خياليًا خاصةً بعد أن تردد اسمه كثيرًا خلال الدورة التدريبية التي نتلقاها الآن في مقر نقابة الصحفيين استعدادًا لعضوية النقابة، وبالفعل ذهبت إليه في نقابة الصحفيين المصريين لكي التقط مع تمثاله صورة سيلفي، وأثناء تحضيري لزاوية مناسبة لالتقاط الصورة همس في أذني وسألني من أنتِ؟

عرّفته بنفسي وشرحت له سبب التقاط هذا السيلفي ودفعني صمته وعدم مقاطعته لي لأطلب منه عمل حوار صحفي يربط بين الماضي والحاضر، ولكن هل تعرف يا أستاذي معنى الصورة السيلفي؟

بالتأكيد: وجودي الدائم دخل نقابة الصحفيين يجعلني على دراية كاملة بكل جديد.

أخبرني مبتسمًا: أنا سعيد بهذا الحوار فهذه المرة الأولى التي أتحدث فيها مع أحد منذ وُضعت في مبنى نقابة الصحفيين يوم تكريم اسمي عام 1957 حين أزاح عن تمثالي الستار الأستاذ "فتحي رضوان" وزير الإرشاد القومي في ذلك الوقت، وقد تنقل هذا التمثال بين المقرات المتعاقبة لنقابة الصحفيين المصريين إلى أن استقر في بهو المقر الحالي للنقابة.

لماذا اخترت مهنة الصحافة وكيف كانت مسيرتك الصحفية؟

أنا صحفي يطربني صوت الوطنية حين يناديني ألبي نداءه، الصحافة منبر أستطيع من خلاله أن ألقي على الأمة كل ما أريد من مبادئ الوطنية الصادقة لأحث أفرادها على الأخلاق الرفيعة وإبراز المثل العليا، مستهدفًا من ذلك صالح المجتمع ونهضته. 

أما عن بداية مسيرتي الصحفية، فقد كان أول عملي بالصحافة يوم 8 مارس 1900 من خلال "جريدة السلام" بالإسكندرية لصاحبها "غالب محمد طليمات" كمراسل أنقل أخبار القصر الخديوي وأرسلها لهم من القاهرة. 

هل كانت لمقالاتك افتتاحية ثابتة؟ 

نعم، كنت أكتب (الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله) ثم أعلن أن صاحب هذه الجريدة الغراء، قد انتدبني لمراسلتها بالعاصمة والتي هي قاعدة النظارات وباقي دواوين الحكومة وقنصليات الدول، ثم أعترف بالعبء الملقى على كاهلي، ذلك العبء الذي كان يكلفني "عزمًا ماضيًا وثباتًا مكينًا" ثم أتحدث عما أوافيه من أخبار والسلام، ثم عملت كصحفي منفرد سنة 1901 أحرر جريدة "اللواء" حتى قدمت استقالتي منها بعد أن قضيت ست سنوات في تحريرها.

وما هي أسباب استقالتك من جريدة "اللواء"؟

كنت اعترض على سياسة "علي فهمي كامل" في إدارة الجريدة بعد وفاة مؤسسها "مصطفى كامل" فموت الزعيم لا يعني موت مبادئه، وبالفعل أعلنت جريدة اللواء بعد ذلك تكوين شركة "اللواء" برأس مال 40 ألف جنيه كما ضمت أعضاء كثيرين من الحزب الوطني وبذلك أصبحت لسان حال الحزب الوطني، بعد أن كانت "الراية التي التف حولها الوطنيون سنين عدة".

كيف كانت علاقتك بالزعيم "مصطفى كامل"؟

كانت بيننا صداقهة وشعور دائم بالأخوة، وقد كان يتوسم الخير دائما في شخصي بسبب عملي الدائم على أهداف الجريدة للصالح، وكان يحرص على إسناد تحرير جريدة "اللواء" إلى دائمًا، وكان يؤكد لي دائمًا من خلال مراسلاته أنه لا يوجد بيننا رئيس ومرؤوس كما كان يلقبني بحضرة الماجد، لقد كان بمثابة أخ وصديق ومثل أعلى يحتذى به التاريخ فهو أكبر المناهضين للاستعمار الإنجليزي. 

كيف دافعت عن ضحايا حادثة "دنشواي" وكيف نقلت للعالم ما حدث فيها رغم أنك لم تشاهدها بعينيك؟

 كنت صغيرًا وأثناء عودتي من "الكتّاب" شاهدت جماعة من الجنود الإنجليز يهاجمون بائع "بطاطا" جوالًا و ينهبون تجارته ولم يكتفوا بذلك بل ضربوا البائع المسكين، فذهبت للمنزل وأنا منفعل واتخذت من النوم مهربًا، في صباح اليوم التالي قصصت على خالي ما حدث، وصدمت من كلامه عن جلب الخديوي لهم لحمايته، فألقيت على نفسي منذ ذلك اليوم بغض الإنجليز وكره الخديوي، لقد استطاع ذلك المشهد أن يؤثر على تشكيل قناعاتي تجاه الإنجليز والخديوي وما يصدر عنهم من أفعال إجرامية شنيعة.

لذلك عندما سمعت عن حادث "دنشواي" الذي وقع بتاريخ 13 يونيو 1906 تذكرت تلك الحادثة التي شكلت وجداني وقناعاتي تجاه بطش الاحتلال وخيانة الخديوي، وقررت أن أرصد الحادثة وأنقلها للعالم بعدة لغات مختلفة، وحادثة "دنشواي" تعتبر من أشهر حوادث مصر التاريخية لما كان لها من أثر بليغ في تطوير الحركة الوطنية، فقد كانت بداية مرحلة جديدة من مراحل الجهاد القومي والشعور الوطني، لذلك سافرت بنفسي لتغطية أحداث المذبحة ونقلت صورة البشاعة الإنجليزية هناك، وكتبت مقالًا اعتمد عليه "مصطفى كامل" بشكل واضح في مساعيه لعزل "اللورد كرومر" بعد ذلك.

وجهت لك تهم كثيرة بسبب مقالاتك، هل كان هناك من يتربص بك؟

أراد "أحمد بك شوقي" رئيس قلم الترجمة في المعية السنية استقطابي ليحقق بذلك انضمامي إلى "جريدة القطر المصري" لتكون جريدة تحارب الحزب الوطني، ولكنني لم أوافق.

وقد كانت التهم الموجهة لي والتي لم تنظرها المحاكم المصرية قاطبة من عهد افتتاحها سنة 1883 إلى وقتنا كالتالي:

  • التطاول على مسند الخديوي المصرية.
  • الطعن في نظام حقوق الوراثة فيها.
  • الطعن في حقوق الحضرة الفخرية الخديوية.
  • دعوة الأمة للخروج على طاعة الحضرة الخديوية.
  • انتزاع الملك من العائلة المالكة.
  • والطعن على ذات الحضرة الفخيمة الخديوية.

هل واجهت سوء معاملة في السجن؟ 

لم أعامل كبقيه المسجونين أو أرباب السوابق المعتادين على الإجرام، بل استدعاني مأمور السجن وأحضر لي ملابس زرقاء للسجن لم يرتدها أحد قبلي، ثم أعطيته النقود التي كانت بحوزتي واشترى لي قميصًا وبنطلونًا وحذاءً وجوارب، غير ملابس السجن العمومية، بعد 24 ساعة في السجن كانت قواي قد خارت من التعب وغابت عني شهيتي للطعام الذي كان عبارة عن حزمة فجل وخبز يصلح بديلًا للحجارة في مواد البناء.

صف لي زنزانتك؟ 

زنزانتي كانت تحمل رقم 5، غرفة طولها 13 شبرًا وعرضها 9 أشبار وارتفاعها نحو ثلاثة أمتار ونصف المتر، بها نافذة عرضها 70 سنتيمترًا وارتفاعها 50 سنتيمترًا عليها قضبان حديدية وزجاج سميك وهي مفتوحة ليل نهار، أما عن فرشها فقد كان عبارة عن حصيرة طولها 1،80 سنتيمترًا وعرضها 60 سنتيمتر والغطاء كان ثلاث بطاطين صوف إنجليزي وبدون وسائد أو مصباح. فقط كوز للماء ووعاء للبول، كنت أقوم بكتابة مقالات أهديها للحزب الوطني الذي كافأني بمبلغ 498 مليم مقابل مجهودي الذي احتبس سنة كاملة في السجن بين تلك الجدران التي أتذكرها جيدًا حتى الآن. 

كيف آثرت العمل في الزراعة؟

استأجرت مزرعة كبيرة بمساحة ألف فدان بكفر دملاش مركز شبين محافظة الغربية وقمت بالإشراف عليها من حيث الزراعة والري والصرف بها كما أصلحت الكثير من الأراضي البور وكنت أعلم الفلاحين حقوقهم وما لهم وما عليهم وما هو معنى الحرية، كما عقدت جلسات صلح بين العائلات المتخاصمة، وكنت أنهض دائما بزراعة الأرض واتباع الأساليب المثمرة من خلال إقبالي على قراءة كتب عن الزراعة ومن خلال الزراعة كسبت أموالًا مكّنتني من اقتناء أملاك لا بأس بها، وقمت باستئجار الأراضي الواسعة من دائرة "شريف والمنشاوي" واستأجرت مزرعة "شريف باشا" بالقرب من منية السيرج بضواحي مصر ثم أصدرت جريدة الزراعة سنة 1919 التي دعوت من خلالها إلى إنشاء النقابات الزراعية وشرحت ضرورتها. 

مشتاقة لسماع حديثك عن طفولتك وشريكة حياتك وأبنائك؟

نشأت يتيم الأب تخلو رأسي من ذكرياتي معه فقد مات قبل ولادتي، وكل ما أعرفه عنه من خلال ما كانت ترويه عنه أمي وخالي، فقد كان رجلًا تلازمه صفات الإخلاص والكرم والأمانة، وأنعم الله علي بوجود خالي الذي طالما ناديته "والدي" والذي كان له الفضل في ما أنا عليه الآن، أتذكر يوم اصطحبني إلى كتّاب "خان جعفر" بحي الحسين، حيث تعلمت القراءة والكتابة وحفظت القرآن الكريم، كما ظلت أمي تشجعني وتخبرني عن مدى أهمية التعليم حتى جعلت منها وصيتها.

أما عن زوجتي فقد كانت زوجة صالحة تحب وطنها كحبي له وأبنائي كانوا خير خلف لخير سلف، لم تكن زوجتي غريبة عني فقد جمعتنا صلة قرابة سمحت لنا أن نلعب ونقضي طفولتنا سويًا، وكنت أشعر تجاهها منذ وقت مبكر بعاطفة قوية، فبالرغم من أنها تزوجت من غيري لظروف عائلية إلا أن الله جمعنا سويًا فيما بعد لتصبح أم أولادي ورفيقة دربي التي شاركتني أحزاني وأفراحي. كانت تتمتع بشخصية قوية، لذلك نشأ أبناؤنا نشأة قويمة طيبة مباركة، فلم تخضع للإغراءات أو الذل وفضلت سجني مع كرامتي على أن أكون حرًا يطاردني الذل ما بقيت، وقد ماتت زوجتي بعد وفاتي بثمانية أشهر، أي في أغسطس 1937، تركت أبناءنا بهجت الابن الأكبر وكان مستشارًا بمحكمة الاستئناف بالقاهرة، وهو والد حفيدي "محمد صلاح الدين" الفنان والشاعر الجميل والذي يشتهر بينكم باسم "صلاح جاهين" ولدي ابني الضابط محمد شريف الذي نجا من الموت بأعجوبة اثناء قيادته للحامية التي هاجمت اليهود في "الصبحة"، اما البنات فقد تزوجت إحداهما من الضابط علي أحمد شلبي والأخرى تزوجت من المهندس محمد زكي حسن.

حدثني عن مشهد النهاية في حياتك الحافلة والمليئة بالأحداث؟

في الثلاثينات أصابتني خسائر مالية فادحة فتأثرت حالتي النفسية جراء ما حدث، وأصبت بمرض البول السكري وقد سبب هذا المرض اعتلالًا في صحتي وضعفًا في البصر ولكن لم يمنعني المرض من كتابة مقالات ونشرها في الصحف كما واصلت أعمال البر والخير التي كنت أواظب عليها، كنت متفائلًا وكنت أنوي أن أذهب لقضاء بعض أيام رمضان وعيد الفطر عند نجلي بهجت لألهو قليلا مع حفيدي صلاح، إلا أن المرض اشتد علي وفارقت الحياة رابع أيام شهر شوال الموافق 18 يناير 1936، وشيعت جنازتي في اليوم التالي من منزلي بشارع جميل باشا بحي شبرا.

الآن انتهت أسئلتي فهل أثقلت عليك؟

على العكس فقد تحدثت معك حول أمور لم أنسها أبدَا، أشكرك وأتمنى لك ولكل صحفي التوفيق للصالح دائمًا، كما أتمنى لكل شخص أنعم الله عليه بالعمل في مهنة الصحافة أن يكون خادمًا ومساندًا لوطنه دائمًا وأن يلتزم بالقيم والمبادئ والسياسة التحريرية للجريدة التي ينتمي إليها.

والآن هل تسمح أن التقط صورة سيلفي تجمعنا؟

تفضلي .

اعتذر لقد نفذت بطارية هاتفي ولكني سأعود مره اخري ونلتقط السيلفي سوياً

سأنتظرك.

وتركته وأنا أفكر في عقلية هذا الرجل الذي كان حقًا يستحق أن يخلد اسمه التاريخ ويتشرف ويفخر كل صحفي مصري بمسيرة الصحفي الأول الأستاذ احمد حلمي سجين الحرية والصحافة.

المصدر كتاب "أحمد حلمي سجين الحرية والصحافة" 

للكاتب الدكتور: إبراهيم عبد الله المسلمي