رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سليمان الجوسقى.. شيخ أهلكه «الطموح»

لم تقترن الأساطير بشخصية عاصرت الحملة الفرنسية كما اقترنت بشيخ العميان «سليمان الجوسقى».. تقول أخطر وأشهر هذه الأساطير إن الشيخ «سليمان» صفع نابليون بونابرت على وجهه.

أصل الأسطورة لا تجده فى أحد الكتب التى وثّقت لتاريخ الحملة مثل كتاب «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» لعبدالرحمن الجبرتى، أو كتاب «تاريخ الحملة الفرنسية» للمعلم «نقولا ترك»، بل تجده حاضرًا فى مسرحية وضعها الأديب الكبير على أحمد باكثير تحت عنوان «الدودة والثعبان».

تحكى المسرحية قصة نضال الشيخ سليمان الجوسقى ضد الفرنسيين منذ أن وطئت أقدامهم أرض المحروسة وحتى قيام ثورة القاهرة الأولى، وتوحى القصة بأن «الجوسقى» كان الزعيم الحقيقى للثورة وأن نابليون بونابرت كان يعلم ذلك فأراد أن يسترضيه ويروضه، ووعده بأن يجعل منه سلطانًا على مصر، لكن الأخير كان ضد وجود الفرنجة على طول الخط. 

تصل الأحداث فى المسرحية إلى ذروتها عندما يطلب «الجوسقى» من نابليون أن يمد إليه يده ليتصافحا بعد أن تم الاتفاق بينهما، فيمسك «الجوسقى» يد «بونابرت» بيمناه ثم يلطمه بيده اليسرى لطمة قوية رنّت فى القاعة، فيصيح نابليون: وغد!.. فيرد عليه الجوسقى قائلًا: «معذرة يا بونابرته هذه ليست يدى.. هذه يد الشعب».

مشهد مسرحى بامتياز يشهد على خيال بارع للمؤلف القدير «على باكثير»، لكنه لا يمت إلى حقائق ما حدث خلال ثورة القاهرة الأولى بصلة، تلك الثورة التى لا يستطيع أحد أن ينكر أن «الجوسقى» كان واحدًا من زعمائها، وراح ضحية لها، لكن أمر ثورته لم يصل إلى منصة نابليون وإلى درجة الصفع كما تخيل «باكثير».

أسباب مختلفة أدت إلى اندلاع ثورة المصريين ضد الفرنسيس بعد ٣ أشهر فقط من وجودهم فى القاهرة، يضع «الجبرتى» على رأسها الضريبة التى فرضها الفرنسيون على المنازل والدكاكين، والتى كانت تتدرج فى مقدارها تبعًا لمساحة البيت وحجم النشاط التجارى، فى حين يعزيها «نقولا ترك» إلى تحريض المماليك للأهالى على الثورة ضد الفرنسيين والشائعات التى تواترت بأن العثمانيين سيحركون جيشًا إلى مصر لتحريرها وغير ذلك.

وواقع الحال أن الأصوب هو ما ذهب إليه «الجبرتى» من أن سبب الثورة هو الضرائب التى فرضها صارى عسكر.. فالمصريون لا يثورون لأجل وعود أو تحريض، بل هم أميل للتحرك بالأسباب المباشرة، خصوصًا الأسباب التى تزيد من أوجاعهم المعيشية.

يشير «الجبرتى» إلى أنه بمجرد انتشار الخبر الخاص بفرض ضرائب جديدة حتى هاجت خواطر الناس وأصبحوا يتناجون فيما بينهم حولها وعبّروا عن سخطهم عليها ورفضهم لها، وبدأوا يتنادون فيما بينهم. 

يصف «الجبرتى» مشهد التجمع قائلًا: «فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم، ولا قائد يقودهم، وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزُعر الحارات البرانية».

كلام «الجبرتى» يشير إلى أن الثورة قامت بشكل تلقائى لأسباب معيشية وليس بتحريض أحد، وأن الثوار لم يكن لهم زعيم أو قائد، اللهم إلا السيد بدر الذى حشد الشطار والزعّار والمشاغبين من الأحياء المختلفة، ظهر دور المشايخ بعد ذلك حين وافقوا الأهالى على ثورتهم، بل وانضموا إلى صفوفهم، وكان من بينهم الشيخ سليمان الجوسقى شيخ طائفة العميان بالأزهر، والشيخ عبدالوهاب الشبراوى، والشيخ يوسف المصيلحى، والشيخ إسماعيل البراوى.

والواضح أن حضور الشيخ «الجوسقى» كان لافتًا لأنه كان الأشهر بين جملة المشايخ المنضمين إلى الثورة، كان اسمه معروفًا بين الأهالى بحكم ما تمتعت به شخصيته من قوة وما امتاز به من ثراء وما امتلكه من سطوة على مجموعات كبيرة من العميان الذين كانوا يلهجون بذكره فى كل اتجاه، بحكم أنه كبيرهم وقائدهم وولى أمرهم ونعمتهم.

عندما تولى الشيخ «الجوسقى» رئاسة طائفة العميان سار فيهم، كما يصف الجبرتى، «بشهامة وصرامة وجبروت»، كان الجميع يعملون لحسابه وتحت إشرافه، سواء فى مجال التسول أو التغنى بالمدائح أو قراءة القرآن فى البيوت أو على المقابر أو المساطب، وكان يقاسمهم رزقهم، فيشترى العقارات والمطاحن ويشترى الغلال ويخزنها ثم يبيعها عندما ترتفع أسعارها.

وعلى قدر ما كان الشيخ يأخذ من أبناء طائفته من العميان كان يعطيهم فيرعى فقراءهم وأيتامهم، ولكن ليس بالقدر المطلوب، ورغم ذلك تحلّق الكل من حوله، وكوّن جيشًا من العميان كان يسلطهم على أى تاجر أو ملتزم يتلكأ فى منحه حقوقه.

كثر المال فى يد «الجوسقى» من ريع العقارات والمطاحن وبيع الغلال، بالإضافة إلى أنه وضع قاعدة بأن يرث من يموت من العميان، ونتيجة لذلك فقد انكب على متع الدنيا يعبّ منها، وكما يشير «الجبرتى»: «صار يلبس الملابس والفراوى ويركب البغال، وتزوج الكثير من النساء الغنيات الجميلات، واشترى السرارى البيض والحبش السود، وكان يقرض الأكابر المقادير الكثيرة من المال ليكون له عليهم الفضل والمنة».

يحتار من يقرأ سيرة هذا الرجل الذى انكب على جمع المال بالحق وبالباطل، بالطرق المشروعة وغير المشروعة، وأحب أطايب الدنيا وتلذذ بها، لماذا ترك كل هذا واندفع نحو الانضمام إلى ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيين؟.

يجيب «الجبرتى» عن السؤال بكلمة واحدة، هى «التفاخر»، أو بعبارة أخرى «الكِبر».. فقد داخل «الجوسقى» من فرط سيطرته على طائفة العميان إحساس عميق بالزعامة، وتدعم هذا الإحساس بخضوع الأكابر له بسبب إقراضه لهم.. لقد شعر الرجل بما يمكن أن نصفه بـ«فائض الزعامة»، فانطلق يوسع من مساحتها لتشمل العميان وغيرهم، إن لم تشمل المصريين جميعًا.

تمكن نابليون من فض الثورة وقتل من بين المصريين ما يقرب من ٥ آلاف- كما يقرر «نقولا ترك»- ودخل الفرنسيون الأزهر بخيولهم وضربوا القاهرة بالمدافع، واختبأ الناس فى البيوت، وعلقت الصلاة بالمساجد بما فيها الجامع الأزهر، حتى تشفع الشيخ محمد الجوهرى الذى كان- كما يقول نقولا ترك- لا يقابل أحدًا من الحكام ولا يتعرض لأمر العوام، فعفا بونابرت عنهم وأعطى الأهالى الأمان.

تم القبض على الشيخ «سليمان الجوسقى» والمشايخ الآخرين المشاركين فى الثورة، وتم حبسهم فى القلعة، وقتل أغلبهم، بمن فيهم الشيخ الثائر «الجوسقى».

«لم يُعلم له قبر».. تلك هى الجملة الأخيرة التى اختتم بها «الجبرتى» سيرة «الجوسقى» الرجل الذى تمتع بشخصية فولاذية ولم تهزمه إعاقة أو ظرف، وأدار حياته كما يحب ويهوى، تحكم فى أبناء طائفته، كما تحكم فى غيرهم، جمع الكثير من المال، وتزوج الجميلات الغنيات، واقتنى الجوارى والإماء، لكن ولعه الزائد بالقيادة وطموحه العنيف إلى الزعامة، بالإضافة إلى حبه لبلده وإيمانه بالجهاد فى سبيل تحريره، دفع به إلى الصفوف الأولى فى مواجهة طغيان الفرنسيس ليلقى وجه ربه على أيديهم.