رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السلام ليس تطبيعًا.. والتطبيع ليس سلامًا

هل لتحقيق السلام لابد من التطبيع؟ وهل التطبيع يعد سلامًا؟ هنالك خلط متعمد ما بين ثقافة السلام  الرامية لإنهاء نزيف الحرب ووقف إطلاق النار من ناحية وبين ثقافة التطبيع من ناحية أخرى، وهذا الخلط تسببت وما زالت تتسبب فيه دولة الكيان الصهيوني عن عمد لإحداث بلبلة، بل أراها حربا جديدة، حربا إعلامية ودعائية، وحربا في العوالم الافتراضية.. وللحرب وجوه عديدة.

البعض يقول متشدقًا ومناشدًا "قد حان السلام"، وهناك بون شاسع بين فكرة السلام ومنطلقاته ومبرراته وبين التطبيع وهو توجه وهدف تشكل على هيئة مصطلح صكته واخترعته إسرائيل بعد أن خسرت الحرب على أرض الواقع لاختراق ضمائرنا والاستمرار في حربها معنا، ومرة أخرى أعود وأكرر أن للحرب وجوها عديدة.

فالتطبيع مصطلح أطلقه الكيان بالتزامن مع توقيع اتفاقية السلام المبرمة منذ ٤١ عامًا مع مصر، والتي على ما يبدو أن الكيان يراها الآن مجرد حبر على ورق لأن تلك الاتفاقية لم تحقق لهم هدفهم المنشود وهو التطبيع، فالتطبيع يعني أن يكون بينك وبين الكيان الصهيوني المعتدي والمغتصب، والذي يمارس القتل ويرتكب المجازر الجماعية والتهجير القصري وهدم المنازل، علاقات طبيعية!.. فذلك الكيان ينشد ويريد أن يسوغ ما فعله وما زال يفعله بوصفه شيئًا طبيعيًا علينا قبوله بل مباركته واستحسانه!

التطبيع يعني أن نرى ما فعلوه وما زالوا يفعلوه شيئاً طبيعيًا، وإن حدث وصدقنا نحن أن ما يفعلونه طبيعيا فهذا يعني أننا شركاء لهم في جرائمهم ومتواطئون معهم في ارتكاب تلك الجرائم.

فهل تريد أن ترى وتصدق أن ما فعله وما زال يفعله ذلك الكيان طبيعيًا؟ هل تود أن تكون شريكًا له في المجازر والعدوان والجرم؟ هل تريد التواطؤ معه فيما فعل وتعتبر ما فعله وما زال يفعله طبيعيًا؟.. إن حدث ذلك فهذا هو التطبيع، وهو شيء لا علاقة له بثقافة السلام لأنه شيء بعيد كل البعد عن السلام والسلمية، وثقافة نرفضها حتمًا من منطلق إنساني، فيكون ذلك هو عين السلمية، وبذلك يتحقق السلام، فإن كنت حقًا تريد سلامًا عليك رفض التطبيع مع الكيان المعتدي لردعه- ولو معنويًا- وإشعاره بعدم القبول وعدم الرضا وذلك على أقل تقدير، ليعي ويعي غيره أن ما يفعله ليس طبيعيًا، فالتهاون واستمراء عدم مواجهته بحقيقته سيدفعه حتمًا للمزيد من الغلو والتمادي في الإثم، وحينئذٍ سنكون جميعاً آثمين، والسلام حتماً لا يستوي مع الإثم وأن نرى الآثام أشياء طبيعية!

هم لا يريدون السلام، هم يريدون التطبيع، وأن توصّف أفعالهم بالطبيعية ليتمادوا فيها، ولا يُحاسبوا عليها أو حتى يُلاموا، ولن يتسنى لهم ذلك بعيدًا عن الامتزاج الثقافي والذي سيسهل لهم سرقة ما تبقى من تراث لنا نسبوه وينسبونه دومًا لأنفسهم، سطوا عليه كما سطوا على الأرض منذ زمن طويل.. التلاقي والامتراج الثقافي (التطبيع الثقافي) هو البوابة الآمنة والوحيدة للتطبيع الشعبي، وأن تكون العلاقة بين شعوبنا وبين المستوطنين المعتدين طبيعية.. وأن يوافق شعوب العالم على ما فعلوه ويفعلونه بوصفه شيئًا عاديًا وطبيعيًا.. اتفاقية السلام التي وقّعتها مصر مع إسرائيل تعني وقف إطلاق النار ووقف نزيف الحرب وعدم جر البلاد وقاطنيها لحروب وويلات وخسائر في الأرواح، والمقدرات الاتفاقية كانت لحقن الدماء على أرض الواقع بدافع إنساني ووقائي واحترازي، في حين تستمر آلة الحرب الدعائية الإسرائيلية والتي لم تتوقف يومًا في أعلامهم والآن تنشط في العوالم  الافتراضية التي يحدثونا فيها بالعربية ويبثون من خلالها سمومهم بعد تغليفها بسوليفان براق ألوانه زاهية للتمويه والخداع وغسل عقول الأجيال الجديدة، فأساليب الحرب الملتوية هي أسلوبهم المحبب الذي يتقنونه جيدًا، تلك الحرب الجديدة التي يشنونها علينا ويقودها المتحدث الرسمي لجيش إسرائيل، والذي يطل علينا دومًا بزيه العسكري، فهو رجل حرب من الطراز الأول، رجل حرب لا يعرف سوى الحرب وليس له علاقة بالسلام ولا السلمية من قريب أو بعيد.

إسرائيل ورجلها العسكري يشنون حروبًا يومية على مواقعهم، ويتوجهون بتلك المواقع إلينا وإلى جيل لم يعايش الحرب بل شاهدها فقط على الشاشات، وفي الافتراض، هي حرب تشويش تهدف لإحداث البلبلة وخلط الحابل بالنابل وتنشئة جيل جديد على مبادئ وذهنية تهدف لجعل الجُرم شيئاً طبيعياً!
وترى الحقوق تقليعة بالية عفا عليها الدهر، إنها الحرب القذرة التي تشنها إسرائيل مستهدفةً عقول الشباب دون أن تضحي فيها بروح واحدة من أرواح جنودها، فمن يرتدي الزي العسكري في إسرائيل يعتدي ويجور بكل الأسلحة.. يحارب بسلاحه على الأرض وبالسلاح الدعائي في الافتراض.. يستبدل ساحات القتال وقت الهدنة المؤقتة بساحات الافتراض والحروب الافتراضية التي تغزو الأدمغة وتطمس معالم النبل والضمير والإنسانية بكذب وتدليس فج لكسب موالين سذج يصدقون تدليسهم باسم السلام والمحبة فتصبح جرائمهم من طبائع الأشياء!

فهل حقا يريدون السلام؟ أم التطبيع "التواطؤ" مع الجرائم لنصير شركاء فيها؟.