رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لعبة نيوتن.. كيف خرجت هذه التحفة الفنية إلى النور؟

لعبة نيوتن
لعبة نيوتن

هو مسلسل وعمل فنى مثل كرة الثلج.. التى تبدأ صغيرة ثم تتدحرج وتكبر، ثم تكبر، لتحطم كل شىء أمامها أو تتحطم هى. هذا أبسط تعبير عن مسلسل «لعبة نيوتن»، هذا العمل الفنى المتميز، المعقد فى تركيبته، الذى بدأ بحياة بسيطة وحلم مشترك لبطلى القصة، لينتهى إلى كابوس مرعب، هو فى مصر متورط فى جريمة قتل، وهى وابنها مهددان فى أمريكا. ولأن اسم المسلسل «لعبة نيوتن»، فإن حبكته الأساسية تعتمد على ردود الأفعال، ولأن لكل فعل رد فعل كما نص قانون نيوتن الثالث، بدأت اللعنة هنا، وانجلى شرخ كبير أنهى قصة حب البطلين، لتبدأ رحلة طويلة مع باقى قوانين نيوتن التى اتضح لنا أنها لا تحكم حركة الأجسام فى الكون فقط، بل العلاقات البشرية أيضًا.

منى زكى النضج بطاقة تمثيلية متفردة

تقدم منى زكى شخصية «هناء»، مهندسة زراعية، استكملت تعليمها وحصلت على الماجستير، درست الزراعة لأن والدها كان مهندسًا زراعيًا، مخاوفها كثيرة، وتعقيداتها أكثر، تزوجت من المحاسب «حازم»، هذا المحاسب هو الفنان محمد ممدوح، الذى تم فصله من البنك وأصبح عاطلًا، ليشارك زوجته فى مشروع «منحل».

ورغم الحب بينهما، فإن التعقيدات داخل كل منهما واضحة منذ اللحظة الأولى، هذه التعقيدات أظهرت خليطًا من المشاعر المركبة التى نجحت منى زكى فى التعبير عنها بطاقة تمثيلية متفردة، ما بين مشاعر توتر وخوف وخذلان وعدم ثقة، كل ذلك قدمته ببراعة بصوتها وعينيها وحركات جسدها، فهى فى هذا العمل تتحدى نفسها لتؤكد أنها نجمة النجوم فى هذا الموسم.

وعنصر الخبرة فارق كثيرًا، فمنى زكى ممثلة قديرة، لم تعد الوجه الجديد الذى اكتشفه المخرج إسماعيل عبدالحافظ فى نهاية القرن الماضى، بل أصبحت أهم ممثلة فى مصر، تجيد تقديم أعقد الشخصيات وأكثرها تنوعًا، فهى فى شخصية «هناء» تتحدى نفسها وتقدم أداءً مدهشًا فى تحولاتها النفسية فى نفس المشهد ونفس اللحظة ونفس اللقطة، وكان مشهد انهيارها العصبى فى المستشفى عندما أخذوا الابن منها هو أكبر دليل على أنها ليست مجرد ممثلة، إنما كتلة مشاعر متحركة تمشى على قدمين.

و«هناء» هى امرأة مثل أغلب نساء مجتمعنا، ليست شخصية غريبة، بل تعبر عن ملايين السيدات، لا تثق بنفسها، الكلمة تجرحها، لكنها الدافع الحقيقى لإثبات قدرتها على فعل المستحيل.

ليس ذلك فقط، فإن الشخصية التى تقدمها منى زكى هى شخصية تبحث عن ذاتها المعدومة، تقاتل من أجل التغيير والتطوير والتحليق، هى مثل عصفور يريد أن يطير، بينما زوجها دائمًا ما يقص لها جناحاتها، إما بكلماته القاسية، وإما بمحاولات السيطرة عليها.

وهذا اتضح فى أول مشاهد المسلسل، عندما انقطعت الكهرباء وكانت فى الحمام وحدها، قمة الخوف والرعب لم تكن طبيعية، بل مرض وفوبيا، وحين حاول زوجها أن يساعدها لتخرج وقال لها: «ابعدى مش هتعرفى تفتحى الباب»، صرخت فى وجهه، لتثبت أنه بإمكانها أن تخرج وحدها، وأنها ستسافر وتنجب ابنها فى أمريكا وستعود لتثبت له أنها مثل «الستات الناصحة»، على حد قولها.

كانت شخصية «هناء» فى حاجة إلى رد فعل يعطى لها المزيد من الثقة، لتكشف ما فى داخلها من قدرات، فرغم أنها كانت تموت رعبًا من الكلاب فى الشارع فى مصر فى الحلقة الأولى، وجدناها فى أمريكا تتغلب على هذا الخوف وتنام مع كلب فى غرفة واحدة، بل ورأيناها فى قمة الشجاعة فى مواجهة الفتى المسلح الذى هجم على مسكن الشاب زياد.

باختصار شديد، تقدم منى زكى متعة فنية، وانفعالات تبدو وكأنها حقيقية لا تمثيل، وهذا هو قمة الصدق، وقمة النجاح، وقمة التألق.

 

محمد ممدوح الزوج الفاشل محور ارتكاز اللعبة

 

محمد ممدوح ممثل يستطيع أن يعبّر عن كل تفاصيل الإنسان، المرهق، المتعب، الحائر، المنفعل بحب، أو المنفعل بكراهية وغل ورغبة فى الانتقام، قادر جدًا على أن يؤثر فينا بضخامته خاصة عندما يبكى، فهذه الضخامة مع الدموع لا بد أن تترك أثرًا كبيرًا داخل كل من يشاهد هذا العمل، ويرى محمد ممدوح وهو يبكى، مفارقة، تبرز دهشة وتعاطفًا كبيرًا.

و«حازم» هو شخص يشعر بالفشل، تخرج فى كلية التجارة، بينما شقيقه مرموق فى الخارج، ويظهر ذلك عندما يجلس مع العائلة ويتحدث لشقيقه ليبحث له عن وظيفة، هنا تظهر أزمته، ليتضح شىء آخر، وهو أن سيطرته على زوجته ليست إلا انعكاسًا لهشاشته، وعدم إحساسه بالقيمة، فهى مصدره الذى يستمد منه قوة خادعة وأهمية مزيفة، ومجرد أن فلتت منه واجه حقيقته، واكتشفنا معه سذاجته فى النصب عليه فى فيزا أمريكا، كما اكتشفنا معه ضعفه وخوفه من خضوعه إلى الحاج «بدر» الذى يلعب دوره الفنان سيد رجب.

عند شخصية «حازم» ترتكز كل خيوط القصة، وسنعرف فيما بعد أن الحب الذى كان بينه وبين «هناء»، لم يكن حبًا حقيقيًا، بل علاقة تجاذب تحولت مع الوقت إلى ألفة انهارت عند أول اختبار حقيقى، فقد انجذب إلى «أمينة»، وقد انجذبت «هناء» إلى مؤنس، ليتحقق قانون نيوتن الأول: «الجسم الساكن يبقى ساكنًا، والجسم المتحرك يبقى متحركًا، ما لم تؤثر عليه قوى ما».

 

 

محمد فراج مؤنس متدين عاشق وقع فى الخطيئة

محمد فراج هو أحد الموهوبين الكبار فى هذا الزمن، يملك قدرة غير عادية على التجسيد المركّب لأعقد الشخصيات، يقدم فى «لعبة نيوتن» شخصية «مؤنس» محامٍ مصرى أمريكى لكنه متدين، ما زال محتفظًا بالشكل الأصولى للدين باللحية والنقاب، هو متدين بحق، ليس مدعيًا ولا يتاجر بالدين، لكنه وقع فى الخطيئة الكبرى، إذ أحب امرأة متزوجة، ولا يقوى على فراقها، بل يريد أن يتزوجها رغم زواجه من امرأة أخرى آية فى الجمال.

شخصية مؤنس تشعر وكأنها مستوحاة من قصة الأديب الكبير يوسف إدريس «أكان لا بد يا لى لى أن تضيء النور»، هذه القصة التى تدور حول شيخ يقع فى الإثم بحبه لفتاة، فيكابد مشقة نفسيًا ويخالف ضميره ووازعه الدينى.

وقدم محمد فراج، أجمل مشاهده عندما كان يناجى ربه ليرزقه بحب «هناء»، مشهد فى قمة الإتقان وهو يدعو ربه: «اللهم إنى أستغفرك لما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منى، اللهم يا مجيب الدعوات لا ترد عبدك، اللهم إنى أسألك أن تغفر لى ولهذه الدموع التى لطالما سقطت اتقاء لعظمتك، هى راجية توفيقك ورحمتك، حقق لى ما يتمناه قلبى عاجلًا غير آجل».

إن هذا المشهد يجسد الإنسان المعذّب بالحب، بمناجاته لربه، بلحظة الإثم التى هى أقرب لحظاته إلى ربه وضعفه وقلة حيلته، فهو رغم ورعه، فإن فتنة «هناء» تغلبه، لنكتشف معًا فى هذه الشخصية معدن الإنسان الذى يثبت على مبادئه فى مواجهة الإغراءات والفتن.

هذا ما يجسده محمد فراج، شخصية معقدة ومركبة، شخص سيمرض بالحب، وستثير «هناء» جنونه، ولن يصبح كما كان، ولا كما عرفناه فى بداية القصة.

 

تامر محسن مُخرج يحكى قصته بعبقرية

كعادة المخرج تامر محسن فى كل أعماله، يجيد سرد قصته بإتقان، وباستراتيجية، فكل مشهد له قيمة، وله أهمية، لا يوجد حشو، فالمشهد المكتوب يبنى عليه مشاهد أخرى، كأنها عملية هندسية متقنة إلى أبعد الحدود.

هذا الأسلوب كان واضحًا من البداية فى مسلسل «لعبة نيوتن»، فالمخرج القدير يلاعبنا نحن أيضًا كمشاهدين باحترافيته العالية، إما بالإشارات وإما باللقطات أو كإدارته وقطعاته التى تبرز احترافيته العالية وتمكنه من كل الأدوات الإخراجية ليخرج لنا فى النهاية هذه الصورة التى تليق بعمل فنى مصرى.

فى مشهد «مؤنس» عندما كان يؤم زوجته «هناء» فى الصلاة، كان مشهدًا عبقريًا تلاعب فيه تامر محسن بعدسته وبالمونتاج ليظهر لنا تأثر «مؤنس» فى الصلاة بحبه لـ«هناء» الذى تملك منه، وكيف أنه نسى آيات القرآن فى الصلاة لمجرد أنها تقف خلفه.

ليس ذلك فقط، فقد كانت هناك إشارات عديدة لمشهد العسل الذى وقع على الأرض أمام «هناء» من يد «ندى» حبيبة «حازم» السابقة، وهى إشارة إخراجية بأن «ندى» ستفسد هذه العلاقة ولحظات الود والدفء بين «حازم» و«هناء»، وأيضًا عدد من المشاهد الأخرى التى كان يلعب فيها تامر محسن معنا كمتفرجين ليبرز لنا قدراته الإخراجية، وبالتحديد فى مشهد المطار، الذى بدا واقعيًا جدًا رغم أنه ليس فى مطار حقيقى إنما فى استديو عادى.

 

سيد رجب العجوز الغامض الذى تقتله وحدته

بكل تأكيد، ليس هناك غموض أكثر من شخصية الحاج «بدر» الثرى، التى يقدمها الفنان سيد رجب، شخصية غامضة، لا تعرف هل تحب من حولها أم تكرههم، ماذا يدور فى عقله؟ ماذا يحمل فى قلبه؟ لا أحد يعرف على وجه التحديد.

لكنه بالتأكيد شخص يشعر بالوحدة، رغم ثرائه الفاحش، فإنه لا يملك شيئًا حقيقيًا؛ يعيش مع فتاة وهى «أمينة» لكنه لم يلمسها، لأنها لا تحبه، يؤكد ذلك فى أول لقاءاته مع «حازم» عندما قتل «شاهين»، قال «بدر»: «ليه كل الناس بتسيبنى؟».

كان هذا المشهد إشارة إلى إحساس الفقد، وإحساس الوحدة، وهذا ما يجعله يظهر بمظهر الزاهد فى الحياة وفى كل شىء، ولا يشغله شىء فى الحياة سوى فكرة الموت، وربما أتوقع أن هذه الشخصية ستموت منتحرة فى النهاية، وربما سيموت «موتة أورجانيك» حسب تعبيره، إما بـ«عسل الأفيون» وإما بطريقة أو أخرى.

لكن فى النهاية، يبقى سيد رجب واحدًا من المعلمين الكبار فى مهنة التمثيل، يجسد الشخصية ممسكًا بكل خيوطها وتعقيداتها وغموضها، دون تكلف، دون مبالغات واصطناع وإزعاج.

 

كيف طبَّق مؤلفو العمل قوانين نيوتن الثلاثة على شخصيات المسلسل؟

طبق صناع القصة بقيادة مؤلفها ومخرجها تامر محسن، قوانين نيوتن الثلاثة فى أحداث العمل ببراعة، ليعبر اسم المسلسل بالفعل عن الأحداث، وأنها لعبة وتتحكم فيها قوانين نيوتن الفيزيائية.

ينص القانون الأول لنيوتن على أن: «الجسم الساكن يبقى ساكنًا والجسم المتحرك يبقى متحركًا ما لم تؤثر عليه قوى ما»، ويظهر ذلك فى علاقة «حازم» و«هناء»، كانا يعيشان فى هدوء وسكون، حتى جاءت فكرة السفر والولادة فى الخارج، فتؤثر عليهما. نفس الأمر فى علاقة مؤنس وزوجته سارة، التى كانت علاقة طبيعية وهادئة، لكن بدخول «هناء» فى منزلهما، حركت العلاقة بينهما وتغير كل شىء.

نفس الأمر مع قانون نيوتن الثانى الذى ينص على: «إذا أثرت قوة على جسم ما فإنها تكسبه تسارعًا يتناسب طرديًا مع قوته وعكسيًا مع كتلته»، ويتضح هذا القانون فى تحركات «هناء» التى ترغب فى إثبات ذاتها، ولكن مع المعوقات والتحديات التى تواجهها، تظهر قوة كامنة بداخلها، بينما زوجها «حازم»، الذى يبدو ضخمًا بكتلته الجسدية، إلا أنه فى الحقيقة ضعيف، ويشعر بالفشل وعدم الثقة بنفسه.

أما القانون الثالث لنيوتن الذى ينص على: «لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه»، فقد اتضح فى مواضع كثيرة من القصة، فقد قتل «حازم» «شاهين»، مساعد الحاج «بدر» لأنه استفزه وهدده وتحرش بامرأته، فكان رد فعله قاسيًا على نفس قدر الفعل الذى قام به «شاهين». لذا لم يكن اسم «لعبة نيوتن» من فراغ، إنما يعبّر بدقة عن خيوط القصة وأحداثها.