رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من التحرير.. إلى الحضارة


مومياوات ٤ ملكات و١٨ ملكًا و١٧ تابوتًا ملكيًا، انتقلت من المتحف المصرى بميدان التحرير إلى «المتحف القومى للحضارة المصرية» بالفسطاط، مساء أمس السبت، فى موكب مهيب أضيئت خلاله سماء القاهرة بأسماء الملكات والملوك، وتم إطلاق الأعيرة النارية تحية لهم، كما أزيح الستار عن تماثيل الكباش الأربعة، التى تم نقلها من معبد الكرنك لتُزين قلب العاصمة.
كل الوزارات والمؤسسات وقطاعات الدولة المختلفة، باستثناء وزارة الدولة للإعلام، شاركت فى تلك الاحتفالية، بدءًا من وزارة السياحة والآثار وليس انتهاءً بالهيئة الهندسية، التابعة لقواتنا المسلحة، التى قامت بإنشاء «محور الحضارات»، ووزارة الإنتاج الحربى، التى قام أحد مصانعها، بتصنيع ٢٢ عجلة حربية، هى تلك التى جرتها الخيول، والتى تكاد تتطابق مع العجلات التى دهس بها أجدادنا أعداءهم.
استعدادًا لذلك الحدث، وما سيترتب عليه، أزيلت المناطق العشوائية، وتم إنشاء «محور الحضارات»، وجرت توسعة الطرق وإعادة رصفها، وأصبحت المنطقة بأكملها مهيأة لأن تكون منطقة سياحية. وهناك مشروعات أخرى شبيهة تم الانتهاء من بعضها، وجار العمل فى بعضها الآخر، حتى تستعيد العاصمة القديمة، والدائمة، دورها التاريخى، الثقافى، السياحى، والأثرى، مع انتقال الوزراء ووزاراتهم والمسئولين ومقارهم الإدارية، إلى العاصمة الإدارية الجديدة.
الهدف الأساسى من التحنيط، كان حفظ جثمان المتوفى لأطول فترة ممكنة، حتى تتمكن روحه من التعرف على جسده فى العالم الآخر ويعود للحياة من جديد، ولأن تلك اللحظة، لحظة معرفة الروح للجسد، لم تأت بعد، كان جسد الملك سقنن رع تاعا الثانى فى المتحف المصرى، إلى أن غادره، مساء أمس، ليقود الموكب الملكى المنتقل إلى متحف الحضارة.
سقنن رع، هو الذى تسلم تلك الرسالة العجيبة، التى زعم فيها ملك الهكسوس أن أصوات أفراس النهر التى تسبح فى البحيرة المقدسة بمعبد الإله آمون تمنعه من النوم فى عاصمته البعيدة أواريس على بعد مئات الكيلومترات عن طيبة. وبعدها بدأت حرب التحرير، التى أنهاها ابنه أحمس الأول، بانتصاره وطرده الهكسوس من مصر.
مومياء الملك سقنن رع تاعا الثانى تم العثور عليها سنة ١٨٨١، داخل تابوت ضخم فى خبيئة الدير البحرى، غرب الأقصر. وتم فحصها لأول مرة فى ستينيات القرن الماضى، أما فحصها الأخير فقام به الدكتور زاهى حواس، وزير الآثار الأسبق، والدكتورة سحر سليم، أستاذة الأشعة فى كلية الطب، وظهرت نتائجه فى دراسة نشرتها مجلة «فرونتيرز إن ميديسن»، فى فبراير الماضى، وعرفنا منها أنه مات فى الأربعين من عمره نتيجة كسر فى الجمجمة وإصابات بالغة فى الرأس، خلال معاركه ضد الهكسوس، الذين استولوا على الدلتا لمدة قرن تقريبًا.
أفراس النهر ما زالت تزعج أحفاد ملك الهكسوس، و«سوف يجىء يوم، نجلس فيه لنقص ونروى ماذا فعل كل منا فى موقعه، وكيف حمل كل منّا الأمانة، وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة فى فترة حالكة؛ ليحملوا مشاعل النور؛ وليضيئوا الطريق، حتى نستطيع أن نعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء». والأهم، هو أن «هذا الوطن يستطيع أن يطمئن ويأمن بعد خوف أنه قد أصبح له درع وسيف»، وثبت، مرارًا وتكرارًا، أن هزائمنا وأزماتنا لم تكن غير استثناءات فى تاريخ طويل، استوعب ٧٠٠٠ سنة، على الأقل من الحضارة، التى أكد قيمها نضال شعب لا يعلو عليه شعب، وبطولات جيش لا يدانيه جيش.
بالتزامن مع موكب المومياوات الملكية، تم افتتاح القاعة المركزية وقاعة المومياوات الملكية بالمتحف القومى للحضارة المصرية، أحد أهم وأكبر متاحف الآثار فى العالم، وأول متحف يتم تخصيصه لمجمل الحضارة المصرية، ويضم أكثر من ٥٠ ألف قطعة أثرية تحكى مراحل تطور الحضارة، منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث، من بينها «مجموعة تماثيل خشبية ملونة لآلهة من عصر أمنحتب الثانى، مجموعة أوانٍ وتمائم للملك تحتمس الرابع مصنوعة من الفيانس الأزرق، نسخة من كتاب الموتى، باب خشبى للمهندس كائم ست، و... و... وتمثال للكاتب المصرى مصنوع من الجرانيت الأحمر مع أدوات الكتابة الخاصة به».
التحية واجبة لكل من شاركوا فى احتفالية أمس، وإلى كل المشاركين فيما سبقها، وسيلحق بها، من منجزات، الذين كتب رعمسيس الثانى، على لوح حجرى، مخاطبًا أجدادهم: أيها العاملون المختارون البواسل.. أنتم يا أيها المحاربون الأشاوس الذين لا يعرفون الكلل.. أنتم يا مَن يقال لهم «اعملوا وفقًا للخطط».. أنا رعمسيس محبوب آمون.. أنا الذى يساعد الأجيال الشابة لكى تنمو وتترعرع.. وسوف تغمركم الأطعمة.. سوف أوفر لكم كل ما تحتاجون إليه بشتى الوسائل. هكذا، ستعملون من أجلى بقلب مُحب، فأنا حامى مِهنكم القوى، والمدافع عنها. وبين أيديكم ستكون الأطعمة أثقل من الأعمال التى تقومون بها. هكذا تتمكنون من العيش والنمو.