رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على رأسها ريشة!




لاحظ علماء علم النفس ظاهرة ملحوظة بشدة وهى ميل بعض ضحايا العنف والاضطهاد، حال تمكّنهم، وتوافر الفرصة أمامهم، إلى ممارسة ما تعرَّضوا له من أذى، وما وقع عليهم من عدوان، وربما أشد وأنكى، على من هم أضعف، أو فى ظروف تتيح مُمارسة نفس المُمارسات العنيفة، وربما أكثر منها، ضدهم، حيث يتقمص الضحية وضع الجلَّاد، ويلعب الدور الذى طالما لعبه القامعون الأقوياء ضده فى الماضى، وكأنه ينتقم ـ بطريقة منحرفة ـ من مُعذبيه، ويستعيد عبر هذا المدخل المرضى إحساسه بالاطمئنان.
يحدث هذا على المستوى الفردى، والجماعى، والشامل، أى قد يُمارس هذا الدور فرد ضد فرد أو أفراد آخرين، وقد يُمَارس من فرد ضد جماعة، أو من جماعة ضد أخرى، كأن يقوم أعضاء طائفة أو مجموعة عرقية أو سُكّان منطقة مُعيَّنة، تعرَّضوا لممارسات عنصرية عنيفة، ووقعوا تحت تأثير ظروف من الاضطهاد والعدوان، إذا واتتهم الفرصة، بالتحول من ضحايا ومُعتدى عليهم إلى مُجرمين وقتلة، يُمارسون نفس الدور العدوانى المشين الذى عانوا منه، بل وحتى أفظع، لا فى مواجهة من مارس هذا الدور فى السابق، فعلى الأرجح لا يكون هذا الأمر مُتيسرًا، وإنما ضد من هم أضعف، أو يتصورون أنهم أقل منزلةٍ، حيث الانتقام منهم لا يُقابله عقاب، وترويعهم وبث الرعب فى أوصالهم لا يلقى الاستهجان والرد الواجبين!. وأوضح مثال على ذلك هو دولة الاحتلال الصهيونى، التى تزعم أنها قامت لحماية اليهود من أن يتكرر ما حدث ضدهم من اعتداءات ومجازر، وما تعرَّضوا له من مهانات وقتل وممارسات غير إنسانية على يد المتعصبين الأوروبيين، ثم بواسطة النازية ورموزها وفى مقدمتهم زعيمهم «أدولف هتلر»، قبيل الحرب العالمية الثانية!. ورغم المُبالغات الكثيرة فى هذه القضية، وحتى التلفيقات التى كُشف الكثير منها، وغرضها تعميق إحساس الغربيين بالذنب، وابتزازهم ماديًا ومعنويًا، المُستمر لأكثر من ٧٥ عامًا، منذ انتهت الحرب وزال الخطر باندحار النازية وانتحار «هتلر»، وبدلًا من أن تتعلم الضحية معنى ومخاطر الانزلاق إلى هذا المستنقع غير الإنسانى، بتعذيب بشر آخرين والانتقام ممن لا ذنب له، راح المتحدثون والمُتكسبون باسم ضحايا «محارق الإبادة» (أو الهولوكست)، ينتقمون، ويُمعنون فى التشفّى ممن أكرم وفادتهم، وفتح لهم الأبواب بأريحية ونبل لاستضافتهم حينما عز المهرب.. من عرب فلسطين، بل ومن كل أصحاب الأرض، ومواطنى المنطقة التى حلّت عليها لعنة الصهاينة، فراحوا يُمارسون ضدهم أحط ما أورثته النازية لهم من ممارسات، حيث حولوا فلسطين إلى سجن كبير، ملأوه بأشلاء الضحايا، وأنَّات الموجوعين، وصرخات الأطفال المكلومين، دون أدنى إحساس بعذابات ملايين من البشر الأبرياء، الذين لم يرتكبوا جُرمًا فى حق ورثة الضحايا اليهود المزعومين، بل والذين دفعوا، أى أبناء الشعب الفلسطينى، ولا يزالون يدفعون، وبشكل جمعى، وحتى الآن، أكلافًا باهظة لقاء جريمة لم يرتكبوها، ومأساة وقعت على مجموعة بشرية أخرى لم يكن لهم يد فيها!. هكذا تقمَّص اليهودى الصهيونى دور جلَّاده النازى السابق، وتفوق عليه، وراح يتفنَّن فى تعذيب الفلسطينيين، و«يُبدع» فى الانتقام منهم، والتنكيل بهم، وينهب ثرواتهم وأرضهم، ويُصادر ممتلكاتهم ومصادر حياتهم. مُناسبة هذا الحديث، الضجة التى أثارتها دولة الاحتلال الصهيونى ضد «المحكمة الجنائية الدولية»، التى أصدرت، فى الأيام القليلة الماضية، قرارًا بشأن اختصاصها بقضايا جرائم الحرب المُحتملة على الأراضى الفلسطينية فى الضفة الغربية، والقدس وقطاع غزة!. وحتى دون أن تُحدد المحكمة من هى الجهة المُتهمة فى هذا الشأن، «انتفضت» الدولة الصهيونية العنصرية، ومن أمامها وخلفها الراعى الأمريكى الحنون، (هذه المرة ليست إدارة «دونالد ترامب» الشعبوى العنصرى المُتطرّف، وإنما إدارة «جو بايدن» الهادئ المُبتسم الرزين!)، لكى يفتحا النيران على المحكمة، لا لشىء إلا لأنهما يعتقدان أن الدولة الإرهابية الصهيونية، التى جرّعت الفلسطينيين كئوس العذاب، على مدى أكثر من مائة عام، أكبر من أن تُحاسب على جرائمها، وأرفع من أن تُسأل عن أفعالها الخارجة عن كل عرف واعتبار وقانون! وأليس هذا هو ما حدث ضدنا كمصريين، حينما دمرت (إسرائيل) مُدن القناة الآهلة بالسُكّان الأبرياء، وقصفت مدارس أطفالنا فى «بحر البقر»، ومصانعنا فى «أبى زعبل»، وأهالت الرمال على آلاف من جنودنا الضحايا فى حرب ١٩٥٦، دون أن يهتز لها جفن، أو تُحاسب على جرائمها المشينة!. إنها «الجماعة الناجية»، أو «الأرومة المُختارة»، التى على رأسها ريشة، كما يقول التعبير الدارج، والتى لها وحدها حق القتل والتنكيل بمن تشاء، وتملك منفردةً حق الغزو والعدوان على من يعترض مسارها الإجرامى، دون مُحاسبة أو عقاب!. ولم لا؟!.. أليس ذلك هو نفس منطق النازية بالأمس، يعتنقه نازيو اليوم الجُدد، فلهم نفس سحنتهم، ويقترفون نفس جرائمهم، والفرق الوحيد أنهم استبدلوا صليب النازيين المعقوف، بالنجمة السُداسية المُلوثة بيد ملايين الفلسطينيين الأبرياء.