رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النقطة العمياء والتحيز القاتل



بداية عام جديد.. قبل البداية نضع نقطة النهاية.. نقطة ومن أول السطر.. فى النقطة تجتمع البدايات والنهايات، فيها يجتمع سر الخليقة والكون.. فكل شىء متكون من عدد لا محدود من النقاط.
ووفقًا للتعريف الهندسى، لا تمتلك النقطة حجمًا أو أبعادًا أو مساحة، أى ليس لها طول أو عرض أو عمق، لكن نقطتين متجاورتين كافيتان لتحديد قطعة مستقيمة، ولكن ليست كل النقط تؤدى إلى خط مستقيم أو نجوم مرصعة فى السماء، فهناك نقط قد يؤدى عدم إدراك وجودها إلى مشاكل تعقد حياة الإنسان، منها النقطة العمياء: وهى نقطة تخلو من أى مستقبلات للضوء، وتقع هذه النقطة على شبكية العين، حيث يمر العصب البصرى. ونظرًا لعدم وجود مستقبلات للضوء فى هذه النقطة، فإن الجزء المقابل لها فى مجال الرؤية يكون غير مرئى، أى أن أعيننا لا تراه فسيولوجيًا، لكن أدمغتنا تقوم ببعض العمليات لاستكمال التفاصيل التى حجبتها النقطة العمياء على أساس التفاصيل المحيطة بها، والمعلومات القادمة من العين الأخرى، لذلك فنحن لا ندرك «حسيًا» وجود النقطة العمياء.
وإذا كان المخ يستطيع أن يعالج الخلل الناتج عن النقطة العمياء فى العين.. فماذا إذا كانت هناك نقطة عمياء فى المخ نفسه؟ نعم توجد نقطة عمياء فى المخ، وهى ما تعرف بنقطة التحيز العمياء أو عمى التحيز، أى أن يدرك الإنسان تأثير الانحياز على أحكام الآخرين، بينما يفشل فى رؤية تأثير الانحياز على أحكامه هو.
ويرجع انحياز النقطة العمياء إلى العديد من الانحيازات الأخرى، وإلى خداع الذات، حيث يتحمّس الأشخاص لرؤية أنفسهم على نحوٍ إيجابى، لذا يميل الأشخاص إلى الاعتقاد بأنّ آراءهم وتصوّراتهم وأحكامهم عقلانيّة ودقيقة وبعيدة عن أى انحياز، ومن ذات المنطلق يعتقد الأشخاص أنّهم أكثر قدرةً من الآخرين على اتخاذ القرارات.
وقد وضع علماء النفس والاقتصاد السلوكى قائمة طويلة للانحيازات المختلفة، ووجدوا أن هناك عدة انحيازات سلوكية ومعرفية واجتماعية، ومن هذه الانحيازات التى تؤثر سلبًا على سلوكنا وقراراتنا.
- أثر عربة الموسيقى: فاحتمالية اقتناع الشخص بنقطة معينة تزداد بازدياد عدد الأشخاص الذين يتبنونها وهذا أحد أهمّ صور التفكير الجمعى فى مجتمعاتنا.
- تحيز الإثبات: هو ميل الناس لتصديق معلومة ما، لأنها تُثبت اعتقادًا أو رأيًا عندهم بغض النظر عن صحتها من عدمها.
- تحيّز المحافظة: وذلك عندما يسهل على الناس تصديق الأدلة القديمة على أدلة ظهرت حديثًا حول موضوع ما، إذ ينزع الناس إلى عدم قبول الجديد بسهولة.
- أثر الفئة النقدية: وهو التساهل فى إنفاق مبلغ من المال على شكل فئات صغيرة أكثر مما لو كانت من فئات كبيرة.
- فجوة التعاطف: عندما نكون سعيدين، فإنه من الصعب علينا أن نفهم كيف يكون الحزن. يعبّر تولستوى عن ذلك فى مقولته الشهيرة من «آنا كارينيا»: «العائلات السعيدة كلها متشابهة، لكنّ العائلات البائسة بؤس إحداها مختلف عن الأخرى».
- وهم التكرار: عندما تدرك كلمة أو اسمًا أو معنى لأول مرة ثم لا تلبث أن تراها وتسمعها فى كلّ مكان.
- أثر التقديس: عندما ينظر الناس إلى خصلة أو خصال جميلة فى شىء ما، ثم يربطون ذلك بكل ما يتعلق بهذا الإنسان، أو الحزب، أو الفكر، أو الفريق، أو الزعيم، أو الشيخ دون النظر إلى عيوبهم أو نواقصهم.
- تحيز الصعب والسهل: يشعر الناس بثقة عالية أمام التحديات السهلة، ويفقدونها أمام التحديات الصعبة.
القائمة طويلة جدًا وشاملة العديد من المواقف والسلوكيات الإنسانية.
نستطيع من خلالها أن نفسر سلوك المتعصبين، والجماعات المتطرفة، والتجمعات المعروفة بالألتراس، فالمسألة كلها نفسية، وهناك من يستغل عدم وعى الناس بدوافع سلوكهم، وفى ظل فوضى التعبير عن النفس، وفرض ما أراه على الآخرين بقوة التعدى اللفظى والجسدى، تصبح معرفة هذه النقاط العمياء ضرورة لا بد منها لتجنب التحيز القاتل.
فمعرفتنا بوجود نقاط تحيزات عمياء لدينا تجعلنا ندرك أننا غير موضوعيين وغير عقلانيين فى كل الأحوال، وأن نخفف من تعصبنا لما نعرف ونؤمن، وأن نقلل من انتقاداتنا للآخرين، وأن يكون لدينا هذا الميل لتصحيح أخطائنا وتقبل الصورة التى يرانا عليها الآخرون وليس فقط تصورنا عن أنفسنا.