رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ورثة آل الشيخ».. حكي تاريخي سد فجواته بالخيال

أحمد القرملاوي
أحمد القرملاوي

بعيدا عن الأصناف الروائية سواء الغرائبية أو ما يطلقون عليها الواقعية السحرية٬ والروايات الفنتازية٬ تظل الرواية بشكلها الكلاسيكي (بداية ــ عقدة ــ نهاية) الأكثر رواجا وإقبالا من القراء. تلك الروايات التي تشبه إلي حد بعيد حكايات جداتنا وأمهاتنا حين كنا صغارا. نقبع مبهوري الأنفاس متشوقين للحدث القادم وما ستسفر عنه نهاية الحكاية٬ من أحداث ومصائر أبطالها٬ هؤلاء الذين كنا نرسم ملامحهم في خيالنا كل بما تيسر له من سعة الخيال أو ضيقه.

وفي روايته الأحدث "ورثة آل الشيخ" والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية٬ يبني أحمد القرملاوي عالما كاملا قائم بذاته وشخوصه وحيوات أناسه٬ أحزانهم وبهجاتهم الصغيرة٬ أمانيهم وأحلامهم سواء تلك التي تحصلوا عليها٬ أو غيرها أجهضتها الأيام ومقاديرهم التي قدرت عليهم.

تأسرك الحكايات فتلهث ورائها تتبع سيرة أبطالها تشفق علي بعضهم وتتعاطف مع البعض الأخر٬ تشغف منبهرا من الحيوية الهادرة والتدفق في حيوات بعضهم٬ وتمتعض من سلبية البعض الآخر لكن في المجمل لن تكره أحدا منها.

يحكي "القرملاوي" عن أسطورة الكنز الذي تناقلتها عائلة "الشيخ"٬ وطوال الوقت يحاول أن يقنعنا بأن الكنز المخبوء قدر لواحد من المختارين بين سلالة "الشيخ" أن يعثر عليه٬ لكن في الحقيقة الكنز ليس مالا أو مجوهرات علي طريقة علي بابا٬ إنما الكنز الحقيقي الذي قصده وأراده الشيخ الكبير مؤسس العائلة٬ هو ذريته نفسها٬ تلاحمها واحتواء أفرادها لبعضها البعض.

شخصيات الرواية حقيقية من لحم ودم٬ منحوتة برهافة نحات وحرفية فنان يجيد تطويع سرده الروائي بحبكة دون أن ينفلت منه عقد شخصياته أو أزمانهم الداخلية والخارجية علي حد سواء.

رغم تداخل السرد داخل الرواية٬ بين آني حاضر بصوت الراوي٬ وبين سرد الشخصيات في أزمنة مختلفة متداخلة٬ لا يتشتت متلقي الرواية أو تتوه منه خيوط الحكي.

أهم ما في الحبكة الروائية أنها تورطك مع شخوصها٬ فتأسف علي مصير "نشأت" وتتعاطف مع قصة غرامه بــ "ليليت" وتتمني أن ترفق الأقدار به ويصل لمعشوقته٬ فكيف لهذا البطل الذي فقد قدمه في حرب ــ الحرب العالمية الأولي ــ لا ناقة له فيها ولا جمل٬ أن يحرم من ليليت بسبب الدين. نشأت الذي خاض أكثر من مغامرة ليستطيع فقط أن يسمع صوت ليليت٬ فأرتجل تليفون بدائي استطاع أن يطوره وكان هدية له من قائده في الحرب٬ فكيف بعد كل هذا الحب يفترق العاشقين علي صخرة الديانة؟!

حتي "زبيدة" إبنة الضابط صدقي قد تحنق عليها لبعض الوقت لأنها تجاهلت مشاعر ابن عمها محمد٬ وظلت علي عنتها وقسوتها تجاهه ولم تحفظ له ما قام به من أجلها٬ عندما عرض حياته للخطر وكاد أن يلقي حتفه لينقذ سمعتها وسمعة العائلة عندما تورطت مع المصور الأرمني. لكنك ستعود بعدها لتهدأ قليلا وتلتمس لها أل عذر فالقلب له أحكام٬ ولم تجد زبيدة في روحها ما يهفو إلي ابن عمها٬ بل كانت كل حواسها وشغفها متعلقة ببوادر العصر الحديث المحملة للفتاة المصرية٬ من تعليم وإرتياد لدور المسرح والسينما٬ وآفاق جديدة بعيدة عن القدر المرسوم للفتاة مسبقا في ذلك الزمن ما بين زواج وتكوين أسرة وكونها أم فجدة.

وبعد أن تنتهي من الرواية ستبقي شخوصها معك طويلا٬ خاصة "فاضل" وشغفه بالفن والغناء والموسيقي٬ وتعنت الجميع ووقفهم ضده وضد ما شغفه حبا. فاضل ذا الروح الهائمة الشفيفة المحب المسامح العطوف٬ رغم ما لاقاه من ظلم من أخيه صدقي إلا أنه لم ينسي أولاده وكان لهم السند والحضن الكبير عقب مقتل والدهم صدقي٬ وتصدير صورته علي أنه كان مع الثائرين في ثورة 1919 وأنه شهيد رغم أنه كان ضد الثورة وكان ممن شاركوا في مجابهتها٬ ولم يكن حادث موته إلا حادثا عرضيا.

"ورثة آل الشيخ" رحلة في الزمن وحالة من البوح السردي المتدفق بسلاسة٬ ومحاولة جادة لتأريخ من عاشها٬ ولم يلتفت لهم المؤرخون فهم ليسوا بالقادة أو الملوك٬ لكنهم ملح هذه الأرض٬ قدمهم "القرملاوي" وتاريخهم بحكي سد فجواته بالخيال٬ فليس هناك حقيقة واقعية واحدة٬ إنما هي آلاف من الحكايات بعدد أنفاس أهل مصر.