رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شعب لبنان يريد لبنان جديدًا


شعب لبنان ينزف، ويتألم، ويثور، ويتظاهر، ويعانى، ويستشهد أبناؤه مع كارثة الانفجار المروع بمرفأ بيروت، إنه زلزال لم يهز بيروت مدينة الجمال، والأناقة والبهجة فقط؛ بل هز العالم أيضًا.
نعم هز العالم أجمع، وأصابنا فى مصر بالحزن الشديد على شعب شقيق طيب، كنّا نحس بينهم أننا فى بلدنا الثانى، وأنهم محبون لمصر وللمصريين، ومحبون للحياة ومقبلون عليها.
كان مشهد الانفجار الرهيب فى مرفأ بيروت، الذى شاهدناه بعد لحظات من وقوعه على شاشات الفضائيات، كما شاهده العالم أجمع مثلنا- من أكثر المشاهد ترويعًا ودمارًا، وهولًا.
أما مشاهد أبناء الشعب من الشهداء والجرحى والمصابين، والملتاعين، والمنكوبين فى الشوارع؛ فكانت- فى الحقيقة- تُدمى القلب، وتهز الوجدان وتصدم العين.
تهدمت المبانى من قوة الانفجار، وامتد الدمار الكاسح إلى كل أنحاء بيروت، وكأنه انفجار قنبلة نووية.
لقد ذكّرنا هذا الانفجار أيضًا بأول قنبلة نووية تسقط على مدينة هيروشيما اليابانية، تلك القنبلة التى خلفت دمارًا هائلًا وضحايا، ومشوهين.
صحيح أن جريمة إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما مضى عليها هذه الأيام نحو ٧٥ عامًا، لكن الغريب فى أمرها أنها تزامنت مع فاجعة انفجار مرفأ بيروت.
ومن مشهد هول الانفجار، قفزت علامات استفهام كثيرة تدور أكثرها حول سبب الانفجار المروع، وهل هو بفعل فاعل؟.. ومن الفاعل؟، ثم لماذا تم ترك هذه الكمية الهائلة فى مكان كهذا منذ عام ٢٠١٤، رغم أنه معروف أنها فى منتهى الخطورة وقابلة للانفجار؟، ولماذا تُركت هناك كل تلك السنوات؟.
كل هذه تساؤلات وجيهة ومشروعة؛ طرحت نفسها تلقائيًا، وبسرعة فى كل مكان تعليقًا على حدث خطير كهذا، ولأن هذا الانفجار أكبر بكثير من أن يمر مرور الكرام مثل جرائم كثيرة تُرتكب هنا وهناك، فقد تحرك رؤساء وزعماء ودول ومؤسسات دولية لإغاثة بيروت، وكان الرئيس الفرنسى ماكرون أول من توجه إلى بيروت للمساعدة بعدة أفكار ومطالبات وأسئلة عن احتياجات الإغاثة وغيرها.
«ماكرون» فعل ذلك لاهتمامه الشديد بهذا البلد الشقيق، وكرئيس دولة مثل فرنسا، كما وجه أيضًا رئيسنا عبدالفتاح السيسى بسرعة وجود جسر جوى لمساعدات عديدة ومتنوعة للشعب اللبنانى، كما زار أمين عام جامعة الدول العربية، أحمد أبوالغيط، بيروت، عارضًا استعداد الجامعة لتقديم المساعدة فى التحقيقات بشأن الانفجار، بحيث تكون تلك التحقيقات شفافة ودعمًا حقيقيًا للبنان من خلال الإمكانات المتاحة للجامعة.
كما زار لبنان أيضًا شارل ميشيل، رئيس الاتحاد الأوروبى، الذى أكد رغبة جميع القادة الأوروبيين فى العمل على إعادة إعمار وبناء البنية التحتية اللبنانية.
كل هذا وغيره الكثير، شاهدناه، وسيسهم بشكل أو بآخر فى إعاده إعمار بيروت، ومع كل ما سبق، يبقى السؤال الأهم فى تقديرى، وهو: هل ستعود بيروت كما كانت، وكما نأمل لها جميعًا «باريس الشرق» مرة أخرى؟!
بظنى أنها ستعود لسابق عهدها إن شاء الله، ستعود كما عرفناها وأحببناها، بيروت التى كانت يومًا ما من أجمل مدن العالم، حيث تغمرها الفرحة وتميزها الموضة، ويبهرنا مزاراتها العصرية، وحفلاتها ومقاهيها.
نعم ستعود بمطاعمها التى تقدم لك كل ما تطلبه من قِبل شاب أو شابة بابتسامة حقيقية مع أشهى السلطات، والمأكولات اللبنانية.
ستعود بيروت الفنون والثقافة والمؤتمرات العربية الناجحة التى شاركت فى أحدها بفندق فينيسيا، وما زلت أحمل أحلى الذكريات عن بيروت المعنية بالثقافة والمثقفين، خصوصًا هذا المؤتمر الذى أشرت إليه، حيث كان حول تنسيق المشاركة العربية فى معرض فرانكفورت الدولى للكتاب فى ٢٠٠٤.
ستعود بيروت التى يصدح فيها صوت فيروز، وماجدة الرومى، ووديع الصافى، وصباح، ووائل كفورى، وتصور بين جبالها ووديانها الأفلام السينمائية المصرية.
أتمنى أن يضمد أهل بيروت جراحهم، وأن يعودوا كسابق عهدهم، أهل بهجة وفرحة مثلما كانوا قبل أن يستشرى العنف والفساد والدخلاء فى بلدهم.
فى تقديرى، وبعد أن شاهدت الدمار الكاسح، والتظاهرات الغاضبة التى تجتاح شوارع بيروت، أعتقد أن عودة شعب لبنان إلى طبيعته لن تحدث إلا من خلال تغيير شامل فى السلطة، وفى تركيبة الفساد الحالية، وليت ذلك يتم بسرعة وفى وقت قريب.
صحيح أن شعب لبنان من وسط الدمار والجراح والانفجار، قد فجّر غضبه على الفساد بشكل واضح وجاد، وظهر للعالم أن الشعب اللبنانى يريد التغيير الشامل من خلال مجموعة جديدة تؤسس لدولة وطنية ويرفض الصراعات الطائفية.
نعم الشعب اللبنانى نفد صبره، ولا يريد إصلاحات من قِبل السلطة السياسية، حيث طالب حسان دياب، رئيس الوزراء- قبل استقالة حكومته- بمهلة شهرين للاتفاق، بينما فى المقابل أعطى الرئيس ماكرون مهلة للإصلاحات حتى أول سبتمبر، لقد خرج الشعب اللبنانى ليعلن عن غضبه من السلطة السياسية الحالية بسبب خلافاتها السياسية والطائفية التى مزّقت البلاد.
وقد بدا ذلك واضحًا من خلال رؤية وفكر وحديث معظم المحللين السياسيين الذين يرون أنه ينبغى على السلطة الحالية أن ترحل.
ومع ذلك، فإننى أعتقد أنه من خلال المشهد الكارثى المروع الذى شاهدناه مصحوبًا بغضب شعبى عارم، أرى أننا أمام مخاض مرحلة جديدة ستأخذ بعض الوقت حتى يكتمل ميلاد شخصيات وطنية مختلفة، تسعى لبناء دولة وطنية فى لبنان على أسس سليمة ومستقرة.
ولا بد أولًا أن يدرك جميع القوى السياسية المتصارعة أن عليها احترام إرادة الشعب اللبنانى الذى عانى الكثير، ويأمل فى تغيير شامل يفرز له شخصيات جديدة تعمل لمصلحة لبنان الوطن، نعم لا بد من ظهور شخصيات تنأى بنفسها عن الصراعات الطائفية والمصالح الشخصية.
إن شعب لبنان قد سئم من الحروب المستمرة، والاغتيالات السياسية والتقاتل الداخلى وتمزيق البلاد، لذا فلن يعود لبنان إلا إذا تخلى الطامعون والفاسدون عن مآربهم فى لبنان.
أنا لا أقول إن الأمل مفقود فى عودة البهجة والحياة للبنان، لكننى فقط أقول إن احترام إرادة الشعب اللبنانى، هو السبيل الوحيد لتصبح لبنان مرة أخرى «باريس الشرق».
ودعونا نأمل فى ظهور شخصية وطنية تهدف إلى المصلحة الوطنية، وإلى بناء دولة وطنية مستقلة كريمة، تحترم حقوق المواطنة، وتعمل على استقرار لبنان كوطن يلم شمل اللبنانيين.