رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانتحار فى زمن كورونا.. كيف يمكننا حماية الأطقم الطبية والمرضى من الاحتراق؟

الانتحار في زمن كورونا
الانتحار في زمن كورونا

- كيف عاش المصابون بـ"الوسواس القهري" أزمة كورونا فى مصر؟
- لماذا استعنا بنظريتي "العلاج بالمعنى" و"نحن والآن" لمواجهة احتراق كورونا؟

ببدلته الأنيقة ورابطة عنقه الداكنة، ظهر الدكتور أحمد المنظرى المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط في مراسم المؤتمر الصحفي لمنظمة الصحة العالمية لعرض أحدث التطورات المتعلقة بفيروس كورونا المستجد "كوفيد 19"، في 13 مايو الماضي، معبرا عن أسفه الشديد بعد مرور 105 أيام منذ الإبلاغ عن أول حالة إصابة بمرض كوفيد-19 في إقليم شرق المتوسط؛ بسبب وجود محاولات انتحار في صفوف الأطقم الطبية.

وبينما كانت إشارات البث تنقل وقائع المؤتمر حول انتحار الأطقم الطبية المتعاملين مع مرضى "كوفيد 19"، كانت مدينة أوسيم بالجيزة على موعد مع حادث مأساوي عندما أنهى مريض كورونا ثلاثيني حياته شنقًا لعدم تحمله آلام المرض وعدم تمكنه من الذهاب لمستشفى خاص لارتفاع تكاليفه.

انتبه الكثير من دول العالم، وعلى رأسها مصر، لكارثة الانهيار النفسي للأطقم الطبية وكذلك المرضى والمواطنين ممن يعانون القلق والفزع المستمر خوفًا من الإصابة، وما ستؤول له الأمور إذا ما أصيبوا ونقلوا العدوى لأسرهم، ولذلك أعلنت الأمانة العامة للصحة النفسية فى مصر توفير سبل الدعم النفسي للأطقم الطبية وخاصة فى مستشفيات العزل خوفًا من سقوطهم بعد ظهور ما يسمى بـ"الاحتراق الداخلي" أى الانهيار الذاتي والسقوط جراء ما يحدث لهم من عمل متواصل، وكذلك المرضى الذي يفقد بعضهم الأمل فى الشفاء ويكونون فريسة سهلة للاكتئاب ومن ثم الاحتراق.

حتى إن "مركز الدماغ والنفس" في "جامعة سيدني" قدر احتمال حدوث 750: 1500 حالة انتحار إضافية سنويًا في الأعوام الخمسة المقبلة بسبب تأثير الوباء وعواقبه الاقتصادية.

واستعان الأطباء الذين تحدثوا لـ"الدستور" بما أسموه نظرية "العلاج بالمعنى" من الحقبة السابقة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما بدأ المعالجون النفسيون في الانجذاب إلى الفلسفة الوجودية والاسترشاد بمبادئها، والتي أسسها الطبيب النفسي النمساوي فيكتور فرانكل، التى تحولت بعد ذلك لمدرسة للعلاج بالمعنى في العشرينيات على يد فرانكل الشهير بتجربته المريرة في معسكرات الاعتقال النازية بألمانيا لعمال المناجم الذين يموتون، وبحث عن إجابة لسؤالهم "لو لم يعطهم معنى للحياة سيموتون منتحرين".

ويعتبر الدكتور محمد صديق أخصائي الطب النفسي، وأحد المشاركين بالحملة القومية المصرية التى أعلنتها الصحة المصرية لتقديم الدعم النفسي للأطباء ثم لجميع فئات المجتمع فى ظل أزمة كورونا، أن سبب اهتمام المجتمع الدولى بالطب النفسي الآن والاستعانة به خلال الأزمة الحالية بعدما كان يعتبره البعض أنه خرافات وكلام فلسفي غير قابل للتطبيق، لأن المشهد كان يتصدره مجموعات تمارس ذلك بدون علم، وهو ما أبعد الناس عن الدعم النفسي، خاصة أنه يعد من العلوم الحديثة التى لا تتخطى تاريخها العملي الطبي نحو 80 عامًا بخلاف القطاعات الطبية الأخرى التي هي من قديم الأزل.

وأوضح صديق لـ"الدستور" أن المجتمع كان يتعامل مع من يعالج نفسيا بأنه ضعيف، وهو ما دفع الكثير للعلاج بشكل سري، إلى جانب تصدير الإعلام لهم بأنهم مصابون بالفصام ويتمتعون بالجنون والغرابة والتطرف، لافتًا إلى أن الأزمة الحالية التى تمثل خطرًا لم تواجهه البشرية من قبل، بل أكبر حدث تاريخي، ورغم ذلك يحاول البشر التكيف معه وتسيير أحوالهم فى ظل المكوث فى المنازل، خاصة أنهم قبل ذلك كانوا يتمتعون بمرونة خلال عملهم خارج المنازل وبدأ البحث عن تحقيق المرونة ولكن فى المنازل لتغيير نمط السلوك.

ولفت أخصائي الطب النفسي، إلى أن أطقم الطب النفسي تحاول منع "احتراق الأطباء والأفراد من الداخل"، قائلًا: "نعالجهم نفسيا كى لا ينتشر الفيروس بشكل أكبر وتزيد الوفيات بصورة أضخم" ما يعنى أنهم يتعرضون لساعات عمل مضاعفة وضغوط نفسية وعصبية وأسرية فوق المعتاد ويحدث لهم مثلما حدث للطبيب الذى فقد بصره، مشيرا إلى أنهم يستعينون بنظرية "العلاج بالمعنى" لإعطائهم أملا فى الحياة ومعنى ساميا لما يفعلونه وخاصة لأطقم التمريض الذين يعتبرهم البعض درجة ثانية ولكنهم يقومون بمجهودات خيالية، مطالبًا الحكومات بتدريب الأطباء النفسيين قبل تعاملهم مع الأزمة.

صديق، أكد أنه من المتعارف عليه أن الخروج من الأزمات يصاحبه أمراض نفسية وتوتر ورد فعل عكسي، مشيرا إلى أن النقاشات الدائرة الآن أن من كانوا مصابين بالوسواس القهري كان يتوقع لهم أن ينتكسوا، إلا أنهم فوجئوا بأنهم تحسنوا جدا خلال أزمة كورونا لشعورهم بأن الجميع أصبح مثلهم ولديهم شعور بالخوف، فيما يتوقعون بعد مرور الأزمة انتكاسات كبرى لعدد كبير، موضحًا أنهم فى سياق آخر يتبعون طريقة علاج "هنا والآن" بأقسام رعاية طب نفس المسنين الذين يسمعون ليلا ونهارا أنهم الفئة الأكثر عرضة للموت إذا ما أصيبوا بكوفيد 19 من خلال توضيح أن القدر يمنحنا فرصة للحياة وعلينا الاستمتاع واستذكار الإنجازات، إضافة إلى تفهيمهم بأن الشباب والأصحاء معرضون أيضا للموت ولا يضمن أحد مستقبله.

وبحسب دراسة حديثة نشرتها مجلة "ذا لانسيت" الطبية فإن التأثير النفسي للحجر الصحي يمكن أن يكون كبيرا، مما يؤدي إلى مجموعة من المخاوف حول الصحة العقلية، مثل تزايد القلق والغضب واضطرابات النوم والاكتئاب والأهم "اضطراب ما بعد الصدمة"، مؤكدة فى أبحاث منفصلة لها حول مرضى الحجر الصحي لمرض "سارس" - وهو تفشي سابق من سلالات كورونا الفيروسية حدث عام 2003 - أن ما بين 10% و29% يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة.

ولفتت الدراسة إلى أن مخاوف الصحة العقلية يمكن أن تتفاقم بسبب الضغوطات المرتبطة بالحجر الصحي، مثل مخاوف العدوى، والإحباط، والملل، وعدم كفاية الإمدادات، ونقص المعلومات، والخسارة المالية والوصم المرتبط بالإصابة بالمرض، وهذا يمكن أن يمثل مشكلة ليس فقط للأشخاص الذين لديهم مخاوف تتعلق بالصحة العقلية من قبل، ولكن أيضا لأولئك الذين يتمتعون بصحة نفسية جيدة على ما يبدو.

من جانبها، تؤكد الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع، ضرورة الدعم النفسي فى ظل أزمة كورونا، مشير إلى أن الأزمة اجتماعية ونفسية أكثر من كونها أزمة عضوية وجسدية خاصة أن الأزمات النفسية هي التي تؤدي لحدوث أمراض بدنية بعد تراكمها.

واعتبرت أستاذ علم الاجتماع خلال تصريحاتها لـ"الدستور"، أن جائحة كورونا والأوبئة التي سبقتها، أمراض اجتماعية، خاصة أن البشرية بمحاولة الفرار من كوارثها لا تتخلى عن وصم المصابين بالمرض، مؤكدة أن التاريخ فى العصور القديمة يقول إن من كان يصاب يتم نفيه في جزيرة نائية وكان العقاب لأى من يخالف القرارات بضمه مع المنفيين لأنه لم يكن هناك علاج، وتم استخدام ذلك سياسيا واجتماعيا وكانوا يطلقون عليهم "جزر المجذومين".

ولفتت زكريا إلى أن التاريخ يعيد نفسه الآن، فالإنسان القديم يعود بشكله العصري، وظهر ذلك فى بعض المظاهر مثلما يفعل سائقو السيارات التاكسي والتوصيل الآن برفضهم الوقوف أمام المستشفيات أو للأطباء والممرضات خوفًا من الإصابة بالعدوى، مؤكدة أن قطاعا كبيرا يعتبر الأطباء والمصابين موصومين اجتماعيًا، وهو ما يثبت أن البشرية غرائزها لا تتطور.

وأشارت أستاذ علم الاجتماع إلى أن النظر الآن للحياة داخل الجدران تغير مع استيعابها للطاقة الإنسانية وإعادة تقسيم الأدوار من جديد للمشاركين مع أسرهم فى المنازل، كما أن الكثير من علماء النفس فى المنازل الآن يعيدون اكتشاف أخطائهم مع أسرهم وأبنائهم من جديد. وتوقعت أن نهاية أزمة كورونا ستحول المجتمع العالمي لأفضل مما قبل، خاصة أن الشدائد تعطى دروسا فى ظل ظروف الدائرة المقربة خلال الأزمة وظهور الأصدقاء والأعداء والأحباء ومناطق القوة والضعف.

وبحسب أحدث الإحصاءات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، فإن هناك 88 حالة انتحار من بين كل 100 ألف مصري سنويًا، ولفتت المنظمة إلى أن عدد سكان مصر يبلغ 100 مليون نسمة، وهناك قرابة 88 ألف شخص ينتحرون كل عام.

فيما أشارت صحيفة "سود ويست" الفرنسية، إلى ظاهرة ارتفاع حالات الانتحار والوفيات في ظروف غامضة، في السفن السياحية العائمة القابعة تحت الحجر الصحي لفيروس كورونا حول العالم، وعليها عشرات الآلاف من أفراد الأطقم الذين تقطعت بهم السبل حاليا على متن السفن السياحية.

ويعتبر الدكتور محمد المهدي استشاري الأمراض النفسية وأستاذ الطب النفسي بكلية الطب جامعة القاهرة، أن مهمة تقديم الدعم النفسي للأطقم الطبية أصبحت ضرورة تفرضها الأزمة الحالية بشكل ملح خاصة مع الضغط الشديد عليهم خلال فصحهم ومتابعتهم للمصابين على مدار 24 ساعة، لافتًا إلى أن ذلك جانب مع تخوفهم من خطر العدوى وقلق من مصير زملائهم الذين لقوا حتفهم بعدما انتقلت لهم العدوى من المرضى.

وأوضح المهدي أن أطقم الصحة أصبحت تعيش بشكل كامل وتقيم بأماكن العزل والحجر الطبي، بل إن كثيرا ممن يعرفهم من الأطباء فى دول أوربية وعربية أصبحوا يخافون العودة لمنازلهم لسببين الأول هو أنهم لو تركوا مرضاهم وسط انتشار وتضاعف أعداد الإصابة ستكون النتائج سيئة، أما الثاني فيكمن فى خوفهم من أن يكونوا حاملين للفيروس – رغم فحصهم ووقايتهم - وينقلون العدوى لأسرهم، مؤكدًا أنهم يتعرضون لضغط نفسي وعصبي كبير فى ظل الإمكانيات الضئيلة فى الأجهزة والأسرة والأدوات الطبية أمام الإصابات الكثيرة، ويكونون فى حيرة، حيث إنهم لا يستطيعون أن يحصلوا على كمامات وأدوات حماية ولا يستطيعون أن يتركوا أماكنهم.

وكشف استشاري الطب النفسي عن الطرق التى تتبعها الآن الكثير من الدول لتقديم الدعم النفسي للجميع بداية من الأطقم ونهاية بالأفراد فى المنازل والأطفال، مشيرًا إلى أنها أمور تتعلق بالتوتر والاضطراب التى من شأنها السقوط فى بئر الاكتئاب لا سيما أن الحلول تكون عبارة عن توفير فترات للراحة تحت أى ظرف، وتوفير أماكن للنوم أو إعطائه مضادات اكتئاب أو تهيئة ظروف العمل، ويكون ذلك بطرق إعلامية مباشرة أو رسائل موبايل أو فيديو كونفرانس أو محادثات من المسئول فى المنظومة لهم.

وطلب "الدستور" من أخصائيي النفس والاجتماع روشتة للتخلص مما نعيش فيه حتى ينتهى العزل، إلا أنهم نصحوا بإعادة اكتشاف القراءة من جديد، والاختلاء مع الله عبر ممارسة القراءات الدينية، أو الاسترخاء، وعدم متابعة الأخبار التى تخص كورونا إلا من مصدر واحد وعلى فترات متباعدة كى لا يقع البعض فريسة لإعصار الأخبار المضللة التي تنشر الرعب.