رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحقيقة الغائبة 2.. فرج فودة يكتب: قراءة جديدة فى أوراق "الراشدين"

فرج فودة
فرج فودة

للقارئ أن يحزن ومن حقه أن يتعجب، وهو يستعرض معنا ما عرضناه فى الفصل الأول حول مصرع عثمان، أما الحزن فأسبابه مفهومة، وأما التعجب فأبوابه كثيرة، إن سددت منها بابًا وحسبت أنك استرحت، انفتحت عليك أبواب، وأثقلتك هموم، وحسبك أنك إن أدنت لا تدرى من تدين، فأنت إن أدنت الثائرين لا تملك أن تبرئ عثمان، وأنت إن أدنت عثمان لا تملك أن تبرئ الثائرين، وأنت إن أدنت الثائرين لا تملك إلا أن تتعاطف معهم فى نوازعهم، وأنت إن أدنت عثمان لا تملك إلا أن تتعاطف معه فى مصرعه، ولعلك بحكم العاطفة الدينية أقرب إلى إنصاف عثمان، وإلى تلمس الأعذار له، لكنك تصطدم فى سبيلك هذا بأقوال كبار الصحابة وأفعالهم ودعوة بعضهم الصريحة إلى حمل السيف والخروج عليه، فهذا عبدالرحمن بن عوف يقول لعلى: إن شئت أخذت سيفك وآخذ سيفى، فقد خالف ما أعطانى، ثم يقول البعض فى المرض الذى مات فيه: عالجوه قبل أن يطغى ملكه، وهذا طلحة فى المرض يؤلب الثائرين حتى لا يجد على مفرًا من أن يفتح بيت المال، ويوزع من أمواله عليهم حتى يتفرقوا، ويقره عثمان على ما فعل، ولن تمر شهور حتى يقتل عثمان، وحتى يخرج طلحة نفسه مطالبًا بالثأر له فى جيش عائشة، وحتى يصاب بسهم رماه به مروان بن الحكم، صفى عثمان وساعده الأيمن، وخليفة المسلمين بعد ذلك بثلاثين عامًا، ورفيق طلحة فى الجيش الثائر من أجل الثأر، وساعتها سوف يدرك طلحة أنها النهاية، فيردد فى لحظات الصدق مع النفس ومع الله، هذا سهم رمانى به الله، اللهم خذ لعثمان منى حتى ترضى، وهو قول بالغ الدلالة على صحوة الضمير، وتيقن الخطأ، ولم يكن طلحة فى هذا مبتدعًا، وإنما كان مسايرًا لفعل أصحابه، وهم أنفسهم صحابة الرسول، غاية ما فى الأمر أنه كان أكثر تطرفًا، فأهلك وهلك، أما على والزبير وابن مسعود وعمار وغيرهم، فقد تراوحوا فى معارضتهم بين العنف واللين، وانتهوا ما انتهى إليه طلحة، حين هلك بعضهم معه، وتأخر البعض إلى حين.
حدث ما حدث، وقُتِل المسلمون بسيوف المسلمين، وهلك الصحابة بسيوف الصحابة، وبقيت دلالات الحوادث تؤرق أذهاننا حتى اليوم، واختلف الفقهاء حتى يومنا هذا مع ما لم يتمنَّ أحد أن يناقَش، ناهيك عن أن يحدث، وهو (شرعة قتال أهل القبلة)، أى مشروعية قتال المسلمين للمسلمين، ويحلو للبعض أن ينسب نشأة هذه الظاهرة إلى أوائل عهد على، لكنا نعود بها إلى عهد أبى بكر، حين نتوقف أمام حروب الردة متأملين مفرقين بين قتال أبى بكر للمرتدين عن الإسلام، وبين قتاله للممتنعين عن دفع الزكاة له أو لبيت المال، ولنا فى التفرقة بين الفريقين منطق بسيط، يسلم بارتداد الفريق الأول، ويتحرز فى وصف الفريق الثانى بالردة، فقد كانوا ينطقون بالشهادتين، ويؤدون الزكاة نفسها لكن للمحتاج وليس للخليفة أو لبيت المال، وكانت حجتهم فى ذلك الآية الكريمة (خذ من أموالهم)، منصرفة إلى الرسول، موجهة إليه، ولا يجوز أن تنصرف لغيره، لأنها لم توجه إلى غيره، حتى لو كان هذا الغير خليفة الرسول، ولعلنا ونحن نتأمل ونفرق، وربما نتعاطف، نستحضر فى أذهاننا موقف عمر من أبى بكر، وهو يسائله عن حجته فى قتل من ينطق بالشهادتين، فيجيبه أبوبكر بما يعنى أن للشهادة (حقها)، يقصد بهذا الحق أداء الزكاة لبيت المال، وهو اجتهاد مجهد وجهيد، ولعل عمر كان يستحضر فى ذهنه وهو يحاور أبا بكر حديث الرسول عن أن المسلم لا يقتل إلا لثلاث، إن زنى بعد إحصان، أو ارتد بعد إيمان، أو قصاصًا لقتل النفس بغير حق، ولعله كان يرى أن نفى الإيمان عن ناطق الشهادتين، مؤدى الصلاة، صائم رمضان، حاج البيت إن استطاع لذلك سبيلاً، مؤدى الزكاة إلى المحتاج دون وساطة، أمر إن لم يتسع له الإنكار، ونظنه يتسع له، فلا بد أن يضيق به باب القبول أى ضيق، ولعلنا إلى مثل ذلك الضيق أقرب، بل لعلنا منكرون كل الإنكار، لسبب يتصل بنا أكثر مما يتصل بعمر أو بأبى بكر.
فنحن نفعل ما فعله أولئك القوم تمامًا، وندفع الزكاة للمحتاج كما كانوا يدفعونها تمامًا، ولا ندفعها مثلاً لوزارة الخزانة أو لرئيس الجمهورية، وإن جاز لأبى بكر قتالهم وقتلهم، فإنه يجوز للبعض أن يخرجوا علينا مقاتلين وقاتلين، لا يشفع لنا عندهم أن نرفع عقيرتنا بالنطق بالشهادتين، ولا أن نقسم على أننا ملتزمون بأركان الدين ملزمون لأنفسنا بها، ولولا أننا لم نجد فى ديننا عصمة لغير النبى، ولولا أيضًا أننا نرى أن اجتهاد أبى بكر بشأن من يليه ليس من الدين، وإلا لسلك جميع الخلفاء سبيله فى تولية من يليهم، بالنص على اسمه فى كتاب مغلق يبايعون عليه مغلقًا، وهو ما لم يأخذ به أحد بعده.. لولا هذا كله، ولولا إيماننا بأن الإسلام حق، والقرآن حق، ونبوة الأنبياء حق، وبشرية غيرهم حق، ما تناولنا ما أوردناه، وما استطردنا فذكرنا أن أبا بكر كان على حق، إذا ناقشنا الأمر من باب آخر هو باب السياسة. فلولا ما فعل ما أصبح للإسلام دولة ثابتة الأركان، متينة البينان، تفتح البلدان، وتنشر العقيدة وتثبت دعائمها، ولقد اجتهد أبوبكر فى السياسة فأصاب دون شك، واجتهد فى الدين فأصاب أجرين فى رأيه، وأجرًا واحدًا فى رأينا، وربما أثبت لمن يرونه أصاب أجرًا واحدًا أن السياسة قد تتناقض مع قواعد الدين وأصوله، تلك المحفوظة لنا تمامًا كما وجدها، وكما نجدها قرآنًا وسنة.
وما كان اجتهادنا إلا اجتهادا وما كان لأحد أن يزعم أن اجتهاد أبى بكر أصل من أصول العقيدة أو ركيزة من ركائز الإيمان، وما كان لنا أن نؤيد ما قد يراه من أن قرار أبى بكر كان سياسيًا وليس دينيًا، وبمعنى آخر كان علمانيًا يفصل بين السياسة والدين، فنحن لا نود أن نرد على تعسف فى الاجتهاد بتعسف فى الاستنتاج، ولعل فيما ذكرناه ونذكره الكفاية لاستنزال اللعنات علينا ممن يرون فى أسماء الصحابة قدسًا من الأقداس، وفى أفعالهم طوطمًا لا يمس، وحسبنا أن نذكرهم بحديث الرسول الكريم، عن أن عمار بن ياسر سوف تقتله الفئة الباغية، وهو حديث ثابت وصحيح، لأن الجميع تذكره حين قتل عمار، تذكره جيش على فتهلل، وتذكره جيش معاوية فتزلزل، ولم يهدئ روعه إلا رد معاوية المحنك "قتله من أخرجه".
غير أنا نرى الأمر بعد هذه السنوات عظيمًا وجليلاً وذا خطر، ونقرأه بعد كل هذه السنوات فنتزلزل، فإحدى الفئتين باغية لا شك، ولو سلمنا بظاهر الحديث لحكمنا عل جيش معاوية بالبغى، ولأصبح معاوية باغيًا وعمرو بن العاص باغيًا، ومروان بن الحكم باغيًا، وعبيد الله بن عمر باغيًا، وغيرهم وغيرهم.
ولو سلمنا بتفسير معاوية لأصبح البغاة فريقًا من كبار الصالحين لا نجرؤ على ذكر أسمائهم مقترنة بالبغى، وإذا كنا قد توقفنا عند مقابلة اجتهاد أبى بكر باجتهاد مقابل، فإن بعضًا من كبار الصالحين مثل واصل بن عطاء، فقيه المعتزلة وإمامهم، وعمرو بن عبيد، الزاهد الورع، الذى وصفه الخليفة المنصور بقوله الشهير "كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد)، كانا أجرأ منا حين أطلقا لعقولهم العنان، وهما من هما، تدينًا وفقهًا وعلمًا، فأنكرا فعل الفريقين فى أصحاب الجمل، وأصحاب صفين، وذكرا أنه "لا تجوز قبول شهادة على وطلحة والزبير على باقة بقل (كل نبات اخضرت له الأرض) "، وأوضح من قول واصل وعمرو، قول عبدالله بن عباس لعبدالله بن الزبير (لو كان جيش الإمام على حق فقد كفر الزبير بقتاله، ولو كان جيش عائشة على حق فقد كفر الزبير بتخليه عنه).
وهى أقوال لا نفحصها ولا نمحصها، وإنما نذكرها متأملين، مقارنين عصرًا بعصر، ومناخًا بمناخ، وفكرًا بفكر، وحسبنا أننا لا نتجاوز الاجتهاد فى تفسير الوقائع، بينما اجتهد عمر بن الخطاب فيما هو أجلّ وأعظم، مخالفًا ما نعرفه ونلتزم به من أنه لا اجتهاد فى النص، أو لا اجتهاد مع وجود نص، ولم يكن اجتهاده قاصرًا على التفسير أو التعديل، بل امتد إلى التعطيل والمخالفة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة اجتهاده، ولعلنا لا نعرف نظيرًا لعمر كرجل دين ورجل دولة على مدى التاريخ الإسلامى كله، فهو القاسى على نفسه فى الحق، ومن هنا قبلت الرعية قسوته، ثقة منها أنه على حق، وهو الزاهد فى الدنيا زهدًا لم يعرفه حاكم قبله أو بعده ومن هنا قبل الجميع أن يحاسبهم، وأن يتحرى عن كسبهم، وأن يأخذ منهم ما يفيض عن حاجتهم، وأن يعنف عليهم أشد العنف، إن رأى فيهم أهون الميل للهوى، أو الهوى للميل، وهو الذى يخطئ فيتعلم من الخطأ ولا تأخذه العزة بالإثم.
فها هو يولى عمار بن ياسر على الكوفة، ثم لا يلبث أن يتبين أن صلاح الدين لا يعنى بالضرورة صلاح الدنيا، وأن للحكم ميدانه وللسياسة فرسانها، وليس بالضرورة أن يكونوا رجال الدين وفرسانه، فيعزل عمار، ويولى أمثال المغيرة بن شعبة ويزيد بن أبى سفيان ومعاوية بن أبى سفيان، ويرفض أن يولى أبا ذر معلنًا أمامه أن به ضعفًا، وأن الضعيف لا يولى مهما ارتفع فى سلم العقيدة درجات، فهذه ساحة وتلك ساحة، إن اجتمعتا -ونادرًا ما تجتمعان- فهو الكمال، وإن افترقتا -وغالبًا ما تفترقان- فلكل ساحة رجالها، ولكل ميدان فرسانه، فرجال السياسة أجدر بالحكم، ورجال الدين أحفظ للعقيدة، غير أن أعظم ما تركه عمر لنا، هو ذاته أكثر ما تجنبه اللاحقون، وما ارتعدوا عند ذكره، ناهيك عن الإقدام عليه، ونقصد به الاجتهاد، ذلك الذى بدأنا حديث عمر بذكره وما تميز عمر فيه عن الجميع، حين اجتهد -كما ذكرنا- مع وجود النص القرآنى، وبالمخالفة له، وقدم فى تبرير ذلك حجة رائعة، ما أجدر المنغلقين فى زماننا أن يقفوا أمامها بالتأمل طويلاً، وما أجدرنا بأن نذكرها لهم تفصيلاً، عسى أن تتسع لها قلوبهم، ويتعلموا منها أن العقل قد يسبق النقل، وأن التفكير لا بد أن يسبق التكفير، ولعلنا نسائلهم مداعبين قبل أن نعرض عليهم ما نعرض، ما حكمكم إذا ذكرنا لكم دون تخصيص أو تفصيل أن حاكمًا مسلمًا، لدولة مسلمة، قد أفتى بمخالفة نص قرآنى مع علمه به، وطبق قاعدة مختلفة معه ومخالفة له، وأفتى بجواز مخالفة النص ذاكرًا أن واقع الحياة قد تجاوزه، وأن المنطق لم يعد يستقيم معه، ولعلنا متصورون، بل ومتأكدون من الإجابة، ولعلنا أيضًا هاتفون بهم حنانيكم، تمهلوا قليلاً، وتحسبوا كثيرًا، فنحن نتحدث عن عمر بن الخطاب، وهاكم النموذج كما يسرده عالم جليل، فى كتاب من أهم وأرقى ما كتب فى السنوات الأخيرة.
أما العالم فهو الدكتور عبدالمنعم النمر وأما الكتاب فعنوانه "الاجتهاد"، وأما القاعدة التى نتحدث عنها فهى خاصة بسهم المؤلفة قلوبهم وهاكم ما كتبه الدكتور النمر:
[سهم المؤلفة قلوبهم وهو سهم قد نص عليه القرآن الكريم فى آية توزيع الزكاة {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم} (التوبة: 60).
وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعطيهم -وهم كفار- أو ليسوا على إسلام صحيح صادق بل متأرجحين، ليتألف بالعطاء قلوبهم -وطالما استعبد الإنسان إحسان- فيكفوا عن المسلمين شرهم، وليكسب ودهم أو لسانهم، وربما حبهم وإسلامهم، يروى سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال: "أعطانى رسول الله وإنه لأبغض الناس إلى، فما زال يعطينى حتى أنه لأحب الخلق إلى".
وسار أبوبكر (رضى الله عنه) فى خلافته على ما سار عليه الرسول، حتى جاءه عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، فسألا أبا بكر: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ، ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها؟ فأقطعهما أبوبكر إياها، على أنهما من المؤلفة قلوبهم، وكتب لهما كتابًا بذلك، وأشهد عليه، ولم يكن عمر حاضرًا، فذهب إلى عمر ليشهد، فعارض عمر ذلك بشدة، ومحا الكتابة.. فتذمرا وقالا مقالة سيئة، قال لهما: "إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام. اذهبا فاجهدا جهدكم لا يرعى الله عليكما أن رعيتما".
والشاهد هنا، أن عمر أوقف حكمًا كان مستقرًا فى أيام الرسول، وجزء من خلافة أبى بكر، بناء على اجتهاد له، فى سبب إعطاء هؤلاء حيث اعتبر أن السبب الآن غير قائم، فلا داعى للإعطاء، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، كما عرفنا فعمر (رضى الله عنه)، لم يقف جامدًا عند حدود النص وظاهره ولا حدود الفعل، بل غاص إلى سببه وعلته، وحكم اجتهادا منه فى فهم الحكم، على ضوء ظروف الإسلام، حين صار قويًا فى غير حاجة إلى تأليف قلوب هؤلاء].
كلام منطقى، وواضح، وصريح، يترتب عليه سؤال منطقى، وواضح، وصريح أيضًا، مضمونه: هل يجوز لنا أن نتأسى بعمر فنعطل نصًا، أو نجتهد مع وجوده، ويصل بنا الاجتهاد إلى مخالفته، إذا انعدمت علته أو تغيرت أسبابه؟
سؤال صعب، وأجابته خطيرة، وتداعيات أجابته أخطر، ليس على الإسلام، بل على قلوب عليها أقفالها، وعقول تعرف الضبة وتنكر المفتاح، غير أنا نلمح فى أذهانهم طوق نجاة، قد يتشبثون به، وهو قولهم بأن ذلك قد يجوز، إن تشابهت الحالة أو تماثلت مع ما سبق دون أن ينصرف ذلك إلى قواعد الدين وتعاليمه الواضحة، مثل الحدود الثابتة بيقين فى نصوص القرآن، ولعلنا بهذا القول نتفاءل كثيرًا، ونتوقع منهم ما لا نعرفه عنهم قياسًا على تجربة سابقة لنا معهم، لكن ما ضرنا إن تفاءلنا، وما خسراننا إن أحسنا الظن، وما أجدرنا بأن نسحب منهم طوق النجاة، وأن نحيلهم فى ردنا عليهم إلى مثال آخر لاجتهاد عمر، عطل فيه حدًا من الحدود الثابتة، وهو حد السرقة، إذا كان السارق محتاجًا، ثم أوقف تنفيذه فى عام المجاعة، وجدير بنا قبل عرض هذا الاجتهاد، أن نرد على بعض من ادّعوا التفقه، وأزعجهم اجتهاد عمر، فأفتوا بما يخالف الحقيقة، ظنًا منهم أن أحدًا لا يقرأ، أو أن الغاية تبرر الوسيلة.
ومثال ذلك ما ذكره الأستاذ الحمزة دعبس فى حواره مع وزير مغربى، وهو حوار منشور فى جريدة "النور"، التى يرأس الأستاذ الحمزة تحريرها، حين سأل الحمزة الوزير، محاولاً إحراجه، عن سبب عدم تطبيق الحدود الشرعية فى المغرب، فكان رد الوزير أن تعطيل الحد اجتهاد، وأن لذلك سابقة تتمثل فى تعطيل عمر لحد السرقة فى عام المجاعة، فرد عليه الأستاذ الحمزة على الفور، بلغة الواثق من علمه "إن عمر لم يطبق حد السرقة، لأن المبلغ المسروق كان أقل من النصاب"، والحقيقة أن الواقعة التى عطل فيها عمر الحد، والتى وردت فى "الموطأ" للإمام مالك، كانت تتعلق بسرقة ناقة، وهى ما يفوق النصاب كثيرًا، بل ما يتناوله البسطاء فى أحاديثهم عندما يتندرون فيقولون: إن سرقت فاسرق جملاً، دلالة على ضخامة حجم السرقة وجسامته.
والمثال الثانى ما يتردد كثيرًا على ألسنة بعض الفقهاء، وفى مقالات بعض الكتاب ممن يسمون أنفسهم بالإسلاميين من أن عمر لم يعطل الحد، بل أقام شروطه، لأن من هذه الشروط توفير الحد الأدنى للمعيشة والمعاش، وردنا على ذلك يسير، ورأينا فيه أنه مغالطة واضحة، لأن جميع ما توافر أمام عمر وقت أن اجتهد، لم يكن يزيد عن أمرين:
* أولهما: نص قرآنى صريح واضح قاطع بقطع اليد فى السرقة دون ذكر لأى شرط.
* وثانيهما: سنة قولية وفعلية نقلتها لنا كتب الأحاديث الصحاح وراجعناها جميعًا فلم نجد إلا اختلافًا حول تحديد النصاب أى الحد الأدنى لقيمة ما يسرق، فتقطع اليد فى مقابله، ولعلنا نضيف إلى علمهم تصحيحًا، وإلى معلوماتهم تصحيفًا، فنذكر لهم أن ما اختلط فى أذهانهم، هو الشروط التى ذكرها الفقهاء بعد عمر بنحو قرن أو قرنين، وهى شروط عديدة تمثل اجتهادا منهم لمسايرة ما واجهوه من ظروف الحياة وهى متغيرة، بنصوص الشريعة وهى ثابتة، وكل ذلك أتى بعد عمر بكثير ولم يكن عمر فى اجتهاده مقتفيًا أثر الشافعى أو أبى حنيفة، وإنما كان العكس هو الصحيح، وكان اجتهاد عمر فى هذه الواقعة هو الذى فتح باب الاجتهاد لهم، وهو الذى قنن لهم شرطًا فأضافوا شروطًا، ولنقرأ معًا ما أورده الدكتور النمر فى كتابه (الاجتهاد) بشأن هذا الاجتهاد من عمر:
[عدم إقامة الحد على السارق: وهذا اجتهاد جديد فى إقامة الحد، اجتهد عمر فى ألا يقيمه بعد ثبوت السرقة على السارقين.. ووجوب الحد عليهم، فى الحضر لا فى السفر، ولا فى الغزو.
فقد روى مالك فى الموطأ، أن رقيقا لحاطب بن أبى بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها، فأمر عمر بقطع أيديهم، ثم أوقف القطع، وفكر فى أن يعرف السبب الذى من أجله سرق هؤلاء فلعلهم جياع، وجاء حاطب فقال له عمر إنكم تستعملونهم وتجيعونهم والله لأغرمنك غرامة توجعك، وفرض عليه ضعف ثمنها، وأعفى السارقين من القطع لحاجتهم.
ولم يقف عمر بهذا عند ظاهر النص جامدًا، بل غاص إلى ما وراءه، ووجد أنه لا يقام حين يكون السارق فى حاجة تلجئه إلى السرقة، كما قال لحاطب: "لولا أنكم تستعملونهم وتجيعونهم، حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه، لقطعتهم".
وعمر بهذا وضع أساسا لعدم تطبيق الحد على المحتاجين الذين تحدث عنهم، وهى وجهة نظر جديدة فى تطبيق الآية:
{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، نكالاً من الله.. } (المائدة: 38).
راعى فيها عمر علة القطع وظروفه، ودار مع العلة، وإن أدى ذلك إلى تخصيص النص أو ترك ظاهره، كما قال المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى، وهذه النظرة هى التى حملته على إيقاف حد السرقة أيضًا عام المجاعة، كما حملته على إيقاف الحدود فى السفر مثل ما فعل حذيفة أيضًا فأوقف الحد على شارب الخمر، وقال: "تحدون أمريكم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم؟".
وقد أصدر عمر أمره إلى قواده ألا يجلدوا أحدًا حتى يطلعوا من الدرب راجعين، وكره أن تحمل المحدود حمية الشيطان على اللحوق بالكفار، وهو لم يوقف الحد وإنما أجله لظروف، حتى تزول هذه الظروف، وهذه كلها اجتهادات لأحكام جديدة، لم تكن قبل ذلك.. وفيها ظاهرة مخالفة لما كان فى أيام الرسول وأبى بكر].
 
وهكذا يتضح لنا أن عمر قد اجتهد فألغى سهم المؤلفة قلوبهم مخالفة للنص القرآنى، وأوقف حد السرقة على المحتاج، ثم عطله فى عام المجاعة، وعطل التعزير بالجلد فى شرب الخمر فى الحروب، ونضيف إلى ذلك أنه خالف السنة فى تقسيم الغنائم فلم يوزع الأرض الخصبة على الفاتحين، وقتل الجماعة بالواحد مخالفًا قاعدة المساواة فى القصاص، ولا نملك ونحن نستعرض ما فعل، فى ضوء الملابسات المحيطة بكل حادثة، إلا أن نكتشف حقيقتين مهمتين:
أولاهما أنه استخدم عقله فى التحليل والتعليل، ولم يقف عند ظاهر النص.
وثانيتهما أنه طبق روح الإسلام وجوهره مدركًا أن العدل غاية النص، وأن مخالفة النص من أجل العدل، أصح فى ميزان الإسلام الصحيح من مجافاة العدل بالتزام النص، وهذه الروح العظيمة فى التطبيق، تخالف أشد المخالفة روح القسوة فيمن نراهم ونسمع عنهم، وتتناقض مع منهجهم المتزمت، وتوقفهم أمام ظاهر النص لا جوهره، ونكاد نجزم أنهم لو عاشوا فى زمن عمر، لاتهموه بالمخالفة لمعلوم من الدين بالضرورة، ولقاعدة شرعية لا لبس فيها ولا غموض، ولحد من حدود الله لا شبهة فى وجوب إقامته، ولرفعوا عقيرتهم فى مواجهته بالآيات التى لا يملون تكرارها {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}، دون توقف أمام أسباب التنزيل، أو حكمة النص أو العقوبة، ولعلهم يدركون أن التأسى بعمر وارد، وأن الباب الذى فتحه باجتهاده يتسع لكثير مما نراه ونقبله، ويرونه فينكرونه، ويسمح لنا بأن نوجه إليهم سؤالاً محددًا وواضحًا:
هل تعطيل إقامة الحد جائز، وهل مخالفة النص القرآنى جائزة، وهل مخالفة السنة الثابتة، قولية كانت أم فعلية، جائزة؟
ولعلهم أمام ثلاث إجابات لا رابع لها:
- أولها: أن الحكم بالجواز على إطلاقه لا يجوز ونحن نوافقهم على ذلك.
- وثانيها: أن الحكم بإنكار الجواز على إطلاقه لا يجوز ونحن نسلم معهم بذلك، وحجتنا عليه اجتهاد عمر.
- وثالثها: أن الحكم بالجواز جائز فى بعض الحالات، وللضرورة، ولأسباب منطقية وواضحة، تتسق مع روح النص وعلته.
وفى هذا مساحة واسعة لنقاش طويل، وأخذ ورد، وحجة وحجة، واجتهاد واجتهاد، دون رمى لقفاز التكفير فى الوجوه، ودون ادعاء باطل بأنهم المسلمون، وأننا الكافرون الظالمون الفاسقون، وأن ما فى مخيلتهم وحدهم هو الإسلام، وأن ما فى حياتنا كله هو الجاهلية بعينها، غاية ما فى الأمر أنها جاهلية معاصرة إلى غير ذلك مما يرونه حقًا ونراه باطلاً، ويرونه علمًا بالفقه ونراه جهلاً بالفقه وبالتاريخ، ويرونه إيمانا ونراه تعصبًا مقيتًا.
ولعلنا لا نتجاوز سيرة عمر، دون أن نتوقف أمام قرار خطير وجليل، ربما مر على البعض دون أن يعيروه التفاتا، بينما هو فى رأينا مفتاح لتفسير ما بدأنا به الحديث، وهو الفتنة الكبرى التى حدثت فى عهد عثمان، وانتهت بمصرعه، واستمرت طوال عهد على وانتهت بمصرعه أيضًا.
لقد ألزم عمر كبار الصحابة بالبقاء فى المدينة، وحظر عليهم مغادرتها إلا بإذنه، وفسر ذلك لهم فى رفق بأنه يحب أن يستأنس بهم، ويهتدى بمشورتهم، بينما حقيقة الأمر أنه خشى أن يفتتن الناس بهم، وأن يفتتنوا هم أنفسهم بالناس، وبما يفتن الناس، وأجرى عليهم أرزاقا محددة ومحدودة، ألزمهم بها، وألزم نفسه بها قبلهم، فقبلوها منه، مثلما قبلوا مجمل سيرته، التى لا تأتى إلا منه، ولعلهم ضاقوا بذلك أشد الضيق، وكرهوه غاية الكره، فهم فى النهاية بشر يكرهون أن يمنعوا ما هو متاح للآخرين، لكن ضيقهم من عمر، كان يصطدم بسيرة عمر مع نفسه، ومع أهله وخاصته، فيستحيل الضيق رضا، والتبرم صمتًا، والكراهية صبرًا جميلاً.
ولعلنا فى تخيلنا للكراهية أو التبرم أو الضيق لم نتجاوز الحقيقة، ولم نحلق فى الخيال، دليلنا على ذلك أن أول ما فعله عثمان غداة ولايته، أن أطلق الصحابة يذهبون حيث شاءوا وزاد على ذلك بأن أجزل لهم العطايا، وذلك أمر يتفق مع طبيعة عثمان وما جبل عليه من لين ورقة وكرم وتسامح، ولم تكن عطايا عثمان هينة أو محدودة، فقد أعطى الزبير ستمائة ألف وأعطى طلحة مائة ألف.
ولعله كان يتألف قلوبهم، لعلمه أن اجتهاداته قد تختلف مع اجتهاداتهم، وأنه مقدم على أمور لن تكون منهم محل قبول، ومن صالحه أن يذهبوا فى الآفاق، وأن يكون قبولهم لعطاياه مانعًا لهم من الثورة أو حتى الغضب، حين يعلمون أنه وهب ابنه الحارث مثلها، أو أنه أقطع القطائع الكثيرة فى الأمصار لبنى أمية، غير أنهم لم يأبهوا لشىء من هذا فى أول الأمر، فقد خرجوا إلى الأمصار، وإذا بالدنيا تقبل عليهم إقبالاً لم يخطر لهم على بال أو خيال، وأقبلوا هم أيضًا على الدنيا.
وحين تقبل الدنيا دون حدود، فلا بد أن تُدبِر العقيدة ولو بقدر محدود، أما كيف أقبلت هذه، وكيف أدبرت تلك، فتعالَ معى وتأمل، وتدبر معى:
ثروات خمسة من كبار الصحابة أسماؤهم لوامع بل إن شئت الدقة أسماؤهم اللوامع، فهم جميعًا مبشرون بالجنة وهم من الستة الذين حصر فيهم عمر الخلافة، وأحدهم هو الخليفة المختار، وهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيدالله وعبدالرحمن بن عوف، ننقلها إليك من كتاب موثوق به هو "الطبقات الكبرى لابن سعد".
يقول ابن سعد بسنده:
[كان لعثمان ابن عفان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف (الألف ألف هى المليون) درهم وخمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار (الدرهم عملة فارس والدينار عملة الروم) فانتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة وترك صدقات كان تصدق بها ببر أديس وخيبر ووادى القرى قيمة مئتى ألف دينار.
- كانت قيمة ما ترك الزبير واحد وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف. وكان للزبير بمصر خطط وبالإسكندرية خطط وبالكوفة خطط وبالبصرة دور وكانت له غلات تقدم عليه من أعراض المدينة.
- عن عائشة بنت سعد ابن أبى وقاص: مات أبى (رحمه الله) فى قصره بالعتيق على عشرة أميال من المدينة، وترك يوم مات مئتى ألف وخمسين ألف درهم.
- كانت قيمة ما ترك طلحة بن عبيدالله من العقار والأموال وما ترك من الناض ثلاثين ألف درهم، ترك من العين ألفى ألف ومئتى ألف دينار، والباقى عروض.
- ترك عبدالرحمن بن عوف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة بالبقيع ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا، وكان فيما ترك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدى الرجال منه وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفًا].
وقد ذكر المسعودى تقديرات مقاربة لما سبق من ثروات مع اختلاف فى التفاصيل، واستند طه حسين فى كتابه الفتنة الكبرى لتقديرات ابن سعد، وذكر ابن كثير أن ثروة الزبير قد بلغت سبعة وخمسين مليونًا وأن أموال طلحة بلغت ألف درهم كل يوم.
ولعل القارئ قد تململ كثيرًا، وهو يستعرض ضخامة ما تركه كبار الصحابة من ثروات، ولعله انزعج كما انزعجنا لحديث الملايين ولعله أيضًا يتلمس مهربًا بتصور أن الدراهم والدنانير لم تكن ذات قيمة كبيرة فى عصرها، لكنى استأذنه أن يراجع نفسه.
فابن عوف توفى بعد عمر بن الخطاب بثمانى سنوات، والزبير وطلحة توفيا بعد عمر بثلاث عشرة سنة، وأقصى ما يفعله التضخم (بلغة عصرنا الحديث) فى تلك الفترة القصيرة، أن يهبط بقيمة النقد إلى النصف مثلاً، ويحكى المسعودى عن عمر أنه:
[حج فأنفق فى ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر دينارًا فقال لولده عبدالله: لقد أسرفنا فى نفقتنا فى سفرنا هذا]، وإذا كانت الستة عشر دينارًا قد كفت عمرًا وولده، أو كفت عمرًا وحده، شهرًا كاملاً، فلنا أن نتخيل ما تفعله عشرات الملايين، وما يملكه صاحب الذهب الذى يقصر جهد الرجال عن قطعة (بالفؤوس).
ولنا أن نسوق مثالاً أوضح من المثال السابق، عن سادس الستة الذين رشحهم عمر، ونقصد به عليًا، الذى توفى بعد طلحة والزبير بأربعة أعوام ونصف العام، وبعد ابن عوف بنحو عشرة أعوام، وهاكم ما تركه فى رواية المسعودى:
[لم يترك صفراء ولا بيضاء، إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه، أراد أن يشترى بها خادمًا لأهله، وقال بعضهم: ترك لأهله مئتين وخمسين درهمًا ومصحفه وسيفه].
نحن هنا أمام نموذج ونماذج، ومثال وأمثلة، وتركة وتركات، وأمام مؤشر خطير لما حدث للمسلمين، وأمام نذير خطير لما سيحدث لهم، فالدين والدنيا لا يجتمعان معًا إلا بشق الأنفس، وجمع المال على هذا النحو لا يستقيم مع نقاء الإيمان وصفاء السريرة إلا بجهد مجهد وجهيد، وقول الرسول عن ابن عوف أنه يدخل الجنة حبوًا يطرق الأذهان فى عنف، فغنى عبدالرحمن وثروته يثقلان خطوه إلى الجنة، ولا لوم ولا تثريب على المسلم إن أثرى كما يشاء، وأدى حق الله فى ماله كما يحب، لكن ميزان كبار الصحابة ليس كميزان غيرهم، فهم أثقل من غيرهم بالزهد، وأجدر من غيرهم بالخصاصة، وقد عهدناهم حين هاجروا من مكة قبل ذلك بسنوات لا يملكون غير ملابسهم، ويبيتون على الطوى سجدًا خاشعين، وكانوا فى الميزان أغنى الأغنياء، لكن الزمن قد دار إلى غير عودة، وما ضر المقبل على الثروة أن يقبل على الحكم، فهما وجهان لعملة واحدة هى الدنيا المقبلة، وسوف يأتى على خليفة بعد عثمان، وسوف يكون الخليفة الحق فى الزمان الخطأ، وسوف يحدث له ما حدث، لأنه لا بد أن يحدث، غاية ما فى الأمر أنه كانت هناك جذوة من العقيدة ما زالت مشتعلة، أبقت حكمه قرابة خمس سنوات، ولم يكن له أن يتساءل مستنكرًا: أُعصى ويطاع معاوية؟ فالتساؤل على مرارته مجاب عليه: نعم يا أبا الحسن، تُعصى لأنك على دين، ويطاع معاوية لأنه على دنيا، فكما تكونوا يولّ عليكم، وقد كان القوم أقرب إلى معاوية منك، ولم يكن لهم أن يصبروا عليك وأنت تحاول إدارة العجلة إلى الخلف، إلى الزمن السعيد والصحيح، فليس لها أن تدور إلا حيث تريد لها الرعية أن تدور، وإذا كان أصحابك قد أقبلوا على الدنيا هذا الإقبال، أتنكر أنت على الرعية أن تقبل هى الأخرى آخذة منها بنصيب، ساعية إلى من ييسر لها ما ترضاه، ويتألف قلوبها بما أنست إليه، وتألفت معه، وأقبلت عليه، وأدبرت أنت عنه.
هون عليك يا أبا الحسن، فسوف يأتى بعدك بسبعين عامًا من لا يستوعب درسك فيحاول ما حاولت، ويقضى بأسرع مما قضيت، سوف يأتى عمر بن عبدالعزيز، ولن يستمر أكثر من سنتين وثلاثة أشهر، وسوف يموت دون الأربعين، مسمومًا فى أرجح الأقوال مُخليًا مكانه ليزيد بن عبدالملك، شاعر المغانى والقيان، عاشق سلامة وجبابة، وأول شهداء العشق والغرام فى تاريخ الخلفاء، كما سنروى للقارئ بعد قليل.
وسوف يأتى بعد عمر بن عبدالعزيز بقرن ونصف قرن، خليفة عباسى اسمه المهتدى بالله يحاول أن يحتذى حذوه فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويزهد فى الدنيا، ويقرب العلماء، ويرفع من منازل الفقهاء، ويتهجد فى الليل، ويطيل الصلاة، ويلبس جبة من شعر وسوف يكون مصيره كما ذكر المسعودى: "فثقلت وطأته على العامة والخاصة بحمله إياهم على الطريقة الواضحة فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة حتى قتلوه، ولما قبضوا عليه قالوا له أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها؟ فقال: أريد أن أحملهم على سيرة الرسول وأهل بيته والخلفاء الراشدين، فقيل له: إن الرسول كان مع قوم قد زهدوا فى الدنيا ورغبوا فى الآخرة كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وغيرهم، وأنت إنما رجالك تركى وخزرى ومغربى وغير ذلك من أنواع الأعاجم لا يعلمون ما يجب عليهم فى أمر آخرتهم وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة؟".
وقد قتل المهتدى بعد أقل من أحد عشر شهرًا من خلافته، واختلف فى قتله، فذكر البعض أنه قتل بالخناجر، وشرب القتلة من دمه حتى رووا منه، (ومنهم من رأى أنه عصرت مذاكيره حتى مات، ومنه من رأى أنه جعل بين لوحين عظيمين وشد بالحبال إلى أن مات، وقتل خنقًا؟ كبس عليه بالبسط والوسائد حتى مات)، لا تحزن يا أبا الحسن ولا تغضب، فزمانك لا شك أعظم مِن زمن مَن يليك، وحسبك أن عهدك كان فيصلاً أو معبرًا إلى زمان جديد، لا ترتبط فيه الخلافة بالإسلام إلا بالاسم، ولا نتلمس فيه هذه الصلة بين الإسلام والخلافة، إلا كالبرق الخاطف، يومض عامين فى عهد عمر بن عبدالعزيز، وأحد عشر شهرًا فى عهد المهتدى وخلا ذلك دنيا وسلطان، وملك وطغيان، وأفانين من الخروج على العقيدة لن تخطر لك على بال، وربما لم تخطر للقارئ على بال؛ ما نقلوه إليه كان ابتسارًا للحقيقة، وإهدارا للحقائق، وانتقاصًا من الحق، وإذا كان الشىء يذكر يا أبا الحسن، فدعنا نقص على القراء ما راعك وما سيروعهم، وما أفزعك وما سيفزعهم، وسوف ننقله إليهم موثقًا بالرسائل، تلك التى تداولتها أنت وابن عمك وأقرب الناس إليك، عبدالله بن عباس، حبر الأمة وبحرها، وأحد أكثر من نقلت عنهم أحاديث الرسول، وواليك على البصرة، أعظم الأمصار وأجلها خطرًا، ولعلك يا أبا الحسن كنت تتوقع أن تسمع عن عبدالله بن عباس أى شىء إلا ما سمعت، حين أتتك من صاحب بيت المال فى البصرة (أبو الأسود الدؤلى) رسالة ينبئك فيها أن (عاملك وابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك).
ولعلك يا أبا الحسن لم تصدق، ولعله لم يكن أمامك إلا أن ترسل لعبدالله بن عباس مستفسرًا، متمنيًا أن يحصحص الحق فيسفر عن بياض صفحته، وها هو خطابك إليه مختصرًا: "أما بعد، فقد بلغنى عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وأخربت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين: بلغنى أنك جردت الأرض وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلى حسابك واعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس".
ويأتيك يا أبا الحسن: "أما بعد، فإن الذى بلغك باطل، وأنا لما تحت يدى أضبط وأحفظ، فلا تصدق على الأظناء، رحمك الله، والسلام".
رد كأنه إحدى رسائل التلكس فى أيامنا الحاضرة، وهو رد لا يغنى من جوع، ولا يسمن من شبع، فعلى قد طلب حساب بيت المال، فلم يظفر من ابن عباس إلا بنفى التهمة وبالسلام، وما عليه إلا أن يعاود الكرة، موضحًا ما يطلبه، مؤكدًا عليه، محاولاً استثارة النخوة الدينية لديه، ولنقرأ خطاب على:
"أما بعد، فإنه لا يسعنى تركك حتى تعلِمَنى ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذته، وفيما وضعت ما أنفقت منه، فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه، فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل، وتبعة ذلك شديدة، والسلام".
لم يعد الأمر اتهاما ينفيه ابن عباس، بل طلبًا واضحًا ومحددًا، ومطلوب من ابن عباس أن يجيبه، وهو أن يكتب له (كشف حساب) يوضح فى جانب منه موارده من الجزية، وفى الجانب الآخر أوجه الإنفاق.
والحقيقة أن ابن عباس قد أجاب، وهو فى أجابته لم يذكر شيئًا عن موارده وإنفاقه، وإنما تقدم بالخصومة بينه وبين على خطوة واسعة، ورد عليه اتهاما باتهام، فعلى يتهمه باغتصاب المال، وهو يتهم عليًا بسفك دماء الأمة من أجل الملك والإمارة، وهكذا جريمة بجريمة، بل إن جريمة على (هكذا قال وهكذا أفتى) أعظم عند الله من جريمته التى لم ينفِها أو يعتذر عنها، ولنقرأ معًا رسالة عبدالله بن عباس إلى على (أما بعد، فقد فهمت تعظيمك على ما بلغك أنى رزأته أهل هذه البلاد، والله لأن ألقى الله بما فى بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها وبطلاع ما على ظهرها، أحب إلى من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة. فابعث إلى عملك من أحببت".
استقالة أسبابها غير مقنعة، ضرب على عند قراءتها كفًا بكف، مرددًا:
"وابن عباس لم يشاركنا فى سفك هذه الدماء؟".. ولو رمى ابن عباس باستقالته تلك واكتفى، لآخذناه على ما جاء فيها، ولبررناها بغضبه من اتهام ظالم وجسيم، أطلق منه نوازع الغضب وانفعالات الثورة، فكتب ما كتب تحت وطأة الغيظ وفى ظل انفعال من يتهم وهو برىء، لكنه فعل بعد كتابة هذا الخطاب ما لم يخطر لعلى على بال، وما لا يخطر للقارئ على بال، وما لا سبيل إلى نجاته من وزره أمام الله، وأمام على، وأمامنا جميعًا..
لقد جمع ما تبقى من أموال فى بيت المال، وقدره نحو ستة ملايين درهم، ودعا إليه من كان فى البصرة من أخواله من بنى هلال، وطلب إليهم أن يجيروه حتى يبلغ مأمنه ففعلوا، وحاول أهل البصرة مقاومتهم وناوشوا بنى هلال قليلاً، ثم أقنعوا أنفسهم بترك المال عوضًا عن سفك الدماء، ومضى ابن عباس بالمال، آمنًا، محروسًا، قريرًا، هانئًا، حتى بلغ البيت الحرام فى مكة، فاستأمن به، وأوسع على نفسه، واشترى ثلاثة جوار مولدات حور بثلاثة آلاف دينار.
 
صدمة هائلة، لا لعلى فقط، بل لنا جميعًا، نحن الذين عشنا عمرنا نقرأ عن فقه العبادلة، وزهد العبادلة، وورع العبادلة، (يقصدون عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن جعفر بن أبى طالب)، فإذا بنا نحار فهمًا، ونمسك ألسنتنا غصبًا أمام أشهر العبادلة، ونخشى أن نصف فعله بما يستحق فلا ننجو من الألسنة الحداد ومما هو أكثر، لكنا يجب أن لا نكون أرفق ببعض الصحابة من أنفسهم، ولا أقل من أن نصفهم بما وصف بعضهم به بعضًا، وحسبنا أن عليًا أوجز رأيه فى ابن عباس بأنه (يأكل حرامًا ويشرب حرامًا) وليس لنا إلا أن نقول مع على: صدقت إن صدق ما قلت وحدث ما فعل، بل إننا نتساءل ومعنا كل الحق، هل الاستيلاء على أموال المسلمين بالباطل حلال على مسلم لكونه عاصر الرسول أو الخلفاء أو الصحابة، حرام علينا لأننا جئنا فى عصر بعد العصر، وعاصرنا زمانًا غير الزمان؟، هى حرام عليهم بقدر ما هى حرام علينا، بل هى حرام عليهم أكثر، لأنهم يعرفون من الدين أكثر، ومتفقهون فيه أكثر، ولأنهم الأئمة والمنارة، فإذا فسد الأئمة فمن أين يأتى الصلاح؟، وإذا أظلمت المنارة فبمن نسترشد؟
ولعلى قبل أن أستطرد فى الحديث، وللحديث بقية، أتذكر أن أحد أعضاء تنظيم الجهاد، ممن اغتالوا الرئيس السادات فى المنصة، كان مشهورًا عنه أنه يكحل عينيه، وعندما سئل، قال تأسيًا بابن عباس، ولعله لو قرأ ما قرأناه عنه ما تأسى به وما اكتحل مثله، واقرأوا معى رسالة على لابن عباس، بعد أن استقر فى مكة، هانئًا بين جواريه، قانعًا بأموال المسلمين:
"أما بعد، فإنى كنت أشركتك فى أمانتى، ولم يكن فى أهل بيتى رجل أوثق منك فى نفسى لمواساتى ومؤازرتى وأداء الأمانة إلى. فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو عليه قد حرب، وأمانة الناس قد خربت، وهذه الأمة قد فتنت، قلبت له ظهر المجن، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن لله تريد بجهادك، أو كأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الغرة أسرعت العدوة، وغلطت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الهزيلة وظالعها الكبير، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثم من أخذها، كأنك لا أبًا لغيرك، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك، سبحان الله!!
أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حرامًا وتشرب حرامًا؟ أو ما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟ فاتق الله، وأدِّ أموال القوم فإنك والله إلا تفعل ذلك ثم أمكننى الله منك لأعذرن إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده، وأقمع الظالم، وأنصف المظلوم، والسلام".
خطاب يقطر دمًا، ولو استقبله ابن عباس بقلب فيه ذرة من إيمان لخشع وتاب، ورجع عن فعله وأناب، لكنه يرد مستخفًا فى سطرين لا أكثر فيقول "أما بعد، بلغنى كتابك تعظم على إصابة المال الذى أصبته من مال البصرة، ولعمرى إن حقى فى بيت المال لأعظم مما أخذت منه والسلام".
هذه المرة يأتى الرد سافرًا، نعم أخذت، لكنه حقى، بل إن حقى فيه أكثر، أى حق؟ وبأى حق؟ وهل لعبدالله بن عباس فى بيت مال المسلمين حق أكثر مما لرجل من المسلمين؟
هذا ما تساءل به على فى رده على هذا الخطاب، وهو رد بليغ وحزين لا أريد أن أشغل به القارئ فأزيده حزنًا فوق حزن، لكنى أنتقل به فجأة إلى رد (برقى) آخر من ردود ابن عباس، حسم به النقاش، وأنهى به الجولة، وختم به حديث الدين والعقيدة، مهددًا بسطوة الدنيا وسيفها، وسلطانها وزيفها، قائلاً لابن عمه على:
"لئن لم تدعنى من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به".
وهكذا أصبحت الموعظة الحسنة أساطير لدى عبدالله بن عباس، وأصبحنا نحن فى حيص بيص كما يقولون، نضرب كفًا بكف، ونتساءل فى مرارة: هل نأتمن على ديننا من لم يؤتمن على دنيانا؟.
لا بأس أن نترك عليًا لأحزانه، وهو يرى (كما يقول) أن أمانة الناس قد خربت، والأمة قد فتنت، وابن عمه قد انقلب عليه، وفضل رغد العيش من مال المسلمين فى مكة، على نضال العقيدة من أجل الإسلام فى الكوفة ولن يمر وقت طويل حتى يقتل على، وحتى نرى عبدالله بن عباس، ضيفًا على معاوية فى مقر خلافته فى دمشق، مستقبلاً بالتوقير والملاطفة والعطايا، غير أن العلة لم تكن فقط فى نكوص رموز العقيدة عن حمل أعبائها، بل كانت هناك علل أخرى قد تسللت إلى بنيان الدولة الإسلامية الوليدة فأجهزت عليه وهنا نترك حديث العقيدة ورموزها إلى حديث الدنيا وسياستها، ونشير إلى أن أى حكم فى التاريخ لا بد له مهابة، وأن هيبة الحكم محصلة للتفاعل بين الحاكم والمحكوم، وهى فى النهاية ضرورة ليس لصلاح الحكم، فهذا أمر آخر، بل لتوطيد دعائمه، واستمراره واستقراره، ولا شك فى أن أبا بكر بحروب الردة قد حفظ هذه الهيبة بل ورسخها فى نفوس المحكومين، ولا شك فى أن عمر بعنفه وعدله معًا قد وصل بهذه الهيبة إلى أقصى الدرجات.
ولا شك أيضًا فى أن عثمان قد هبط بها رويدًا رويدًا حتى تلاشت أو كادت، فهو مرة يصدر قرارًا خاطئًا، ثم لا يلبث أن يقف على المنبر لكى يعتذر ويبكى (حتى يبكى الجميع)، ثم لا يلبث أن يعود عن اعتذاره إلى عنف لا يملك مقوماته، وهو فى تأرجحه بين العنف واللين، وتراوحه بين القرار وعكسه، يفقد الحكم هيبته لدى الرعية شيئًا فشيئًا، حتى يصل الأمر إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين، وإلى قذفه بالحجارة وهو على المنبر حتى يغشى عليه، وإلى محاصرته ومنع المياه عنه، بل أن يرسل إليه الأشتر النخعى خطابًا يفتتحه بالعبارة التالية:
"من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره.. ".
ولعلى أجزم بأنه لم يكن هناك سبيل لعودة هذه الهيبة إلا برجل دنيا وسياسة وحكم من شاكلة معاوية، رجل لا يتحرج أن يقتل حُجر بن عدى، على إيمانه وعدله وزهده، حين يعبر حجر الخيط الرفيع بين معارضة الحكم ومحاربته، وبين الاعتراض على الحاكم، والثورة عليه، لأن القضية فى نظره حكم أو لا حكم، وسلطة أو لا سلطة، وهيبة أو لا هيبة.
ولعل هذا المنطق هو ما حفظ جيش (معاوية) من الانقسام، بينما سلك (على) طريق الدين، فحاور المنشقين، وكلما أتوا بحجة أتى بحجة، وإذا ذكروا آية أفحمهم بآية، وإذا استشهدوا بحديث رد عليهم بحديث، وكلما طال النقاش زادت الفرقة واتسع الانقسام، ولم يعد هناك بد من أن يرفع عليهم السيف وأن يرفعوا عليه السيف، وفى النهاية صرعته سيوفهم، لأنه هكذا ينتهى التطرف بالمتحاورين معه، وهكذا يحسم الحوار (الدينى- الدينى) دائمًا، يحسمه الأكثر تطرفًا لصالحه، عادة يحسم معه أشياء كثيرة، منها مبدأ الحوار ذاته، وحياة المحاور ذاتها، وإذا كنا نرى فى أيامنا من المتطرفين عجبًا، فلأنهم رأوا منا عجبًا، تحسسوا هيبة الدولة فلم يجدوا هيبة ولا دولة، عجموا عود النظام فى الهين من الأمر فوجدوه مرنًا مثل (اللادن)، زادوا فوجدوه قد ازداد لينًا، تمادوا فإذا به ينثنى معهم أينما انثنوا، عاجلوه بالجليل من الأمر فعاجلهم بضبط النفس، انتظروا اللوم من قيادات الفكر السياسى ورموز المعارضة فلم يجدوا إلا من يشيد أو يستزيد، ومن يصف مجرميهم بالشهداء، أو ينعت فأسديهم بالشرفاء، ولو طبقت عليهم الشريعة التى ينادون بها لعوملوا معاملة المفسدين فى الأرض، ولقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولصلِّبوا فى ميادين القاهرة والإسكندرية.
ما علينا.. ولنعد إلى صفحات التاريخ، فقد توقفنا عند عثمان وعلى وذكرنا أن الخلافة الإسلامية قد انتهت علاقتها بالإسلام بعدهما، ولم تكن لها بالإسلام صلة إلا فى ومضات خاطفة تمثلت فى عهد عمر بن عبدالعزيز أو المهتدى، ولعلها بدأت هذا المسار كما أشرنا فى بداية عهد عثمان، وإذا كنا ننزع صفة الإسلام عن الخلافة فيما ذلك من عهود فإن لنا فى ذلك حجة سوف نسردها فى موقعها من السرد، والصحيح فى رأينا أنها كانت خلافة عربية، إن جاز التعميم وهو جائز، والأدق أن نقول إنها قرشية إن شئنا الدقة فى اللفظ وهو دقيق، فقد حكمت قبيلة قريش المسلمين أكثر من تسعمائة سنة، بينما حكم الإسلام ربع قرن أو أقل، فالخلفاء الراشدون قرشيون، والأمويون قرشيون والعباسيون قرشيون، وقد استمرت الدولة العباسية بصورة رسمية ثم بصورة شكلية بعد سقوط بغداد حتى سقوط دولة المماليك فى أيدى العثمانيين عام 918هــ، وأكاد أجزم بان قبيلة قريش بذلك تمثل أطول أسرة حاكمة فى تاريخ الإنسانية كلها، بل إن التاريخ لا يحدثنا عن أسرة واحدة حكمت نصف هذه الفترة، ولو كان الأمر أمر رضا من المسلمين، أو اختيار منهم لهان علينا وما توقفنا عنده، لكننا نتوقف عنده طويلاً، ونتأمله كثيرًا لكونه ارتبط بأعز ما نملك وهو العقيدة، وتستر بأقدس رداء وهو الدين، واستند إلى أحاديث نبوية ننكرها على من ادعوها، لأنها لا تمت لروح الإسلام بصلة.
وحسبك ذلك الحديث الذى استند إليه العباسيون حتى استمر حكمهم قرابة سبعمائة وستة وثمانين عامًا، ومضمونه أن الخلافة إذا انتقلت إلى أيدى أولاد العباس، ظلت فى أيديهم حتى يسلموها إلى المهدى أو عيسى بن مريم، وهو حديث كاذب، ومختلقه كذوب، وأنا وأنت أيها القارئ لا نختلف الآن على كذب الحديث ولا تكذيب قائله، حجتنا فى ذلك أنه ببساطة لم يتحقق، لكن هذه الحجة لم تكن متاحة لأجدادنا، وما كان لهم إلا أن يخضعوا صاغرين للحديث، وإلا اتهمهم فقهاء العصر، شأنهم شأن بعض الفقهاء الذين يظهرون فى كل عصر، بنقص فى دينهم، والتواء فى عقيدتهم، وحسبنا أن مراجع الحديث ومنها الصحيحان وابن حنبل والدارمى وأبو داود تجمع على حديث (يأتى حديث لو اجتمع عليه أهل الأرض لعارضناه)، فالإسلام السمح، الذى أتى ليساوى بين العربى والأعجمى، لا يميز أسرة من الأسر عن غيرها بدم أزرق، لمجرد أنها قريش، وها هو عمر يعلن قبيل وفاته (لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيًا لوليته)، وما كان سالم قرشيًا، وما كان عمر بالذى يجهل حديثًا له هذا القدر من الأهمية، وها هو سعد بن عبادة (الخزرجى) ينافس أبا بكر على الخلافة، ويرفض بيعته حتى وفاته، ولو علم سعد بالحديث ما نافس ولا أنكر ولا رفض ولا أصر، لكنه هكذا كان الأمر.
وهكذا خضع أجدادنا لحكم الخلفاء، الفضلاء منهم (وما أندرهم) والسفهاء منهم (وما أكثرهم)، خوفًا من اتهامهم بالخروج على الطاعة، أو المخالفة للجماعة، ويا حسرة على إسلام عظيم أتى ليساوى بين الناس، فأحاله البعض بالكذب، إلى دين يرسخ التفرقة العنصرية، ويرفع البعض فوق البعض بالنسب، ولعل المنادين بالخلافة فى عصرنا الحديث، يدلوننا على سبيل نتحقق به من أنسابنا، فربما كنا قرشيين دون أن ندرى، فنزايد فى السياسة مع المزايدين، ونطمع فى الحكم مع الطامعين ونكره المنطق مع الكارهين.
وأخيرًا ونحن نتجاوز عهد الراشدين إلى غيرهم، يجدر بنا أن نستخلص نتيجتين:
النتيجة الأولى:
أن من يتصورون أنه من الممكن إعادة طبع نسخة كربونية من عصر الراشدين، فى عصرنا الحديث، إنما يركبون شططًا من الأمر، وقد يصلون بأنفسهم وبنا لنتائج مؤسفة، فليس كل ما كان مقبولاً فى عهد الصحابة مقبولاً وصحيحًا فى عصر غير العصر، ومع قوم غير القوم، وحتى فى أفعال الرسول نفسه، هناك مساحة واسعة لتأسيه بعصره، ومعايشته لتقاليد قومه، كالزى والعلاج، وهى مساحة لسنا مطالبين بالأخذ بها أو اعتبارها سنة واجبة الاتباع والنفاذ، فالرسول لم يأتِ بزى جديد، وإنما ارتدى زى الجاهلية، وزى الأعاجم عندما أهدى إليه، وعليه فليس الزى النبوى واردًا كسنة للتأسى والمتابعة، وما يقال عن الزى يقال عن الطب، ويقال عن كثير من المفاهيم التى سادت فى عصرنا الحديث، وتقبلها الناس قبولاً حسنًا، وهى أقرب ما تكون إلى الروح العامة للإسلام إذا ما فهمناها بمنطق مخالف للمنطق (الكربونى) سالف الذكر، الذى لو اتبعناه لوصل بنا لنتائج أقل ما توصف به أنها مؤسفة، بل ربما جاز وصفها بما أكثر.
ولنأخذ مثالاً: التعذيب..
لن يختلف اثنان على القول بأن التعذيب بالإيذاء البدنى أو النفسى للحصول على اعتراف أو قبل تنفيذ حكم أو خلال تنفيذ حكم أمر ينكره الدين، ويتنافى مع جوهره فى العدل والرحمة.
هذا هو التفسير العصرى، أى الذى يأخذ روح العصر فيطابقها على روح الدين وجوهره أو يفعل العكس وهو فى الحالتين مقنع ومقبول وصحيح، فماذا عن التفسير الكربونى؟
إليكم واقعتين شهيرتين:
الواقعة الأولى: فى حادثة الإفك المعروفة، حين اتهم البعض عائشة فدعا الرسول عليًّا لاستشارته (فقال يا رسول الله إن النساء لكثير وإنك لقادر على أن تستحلف، وسل الجارية فإنها تصدقك، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "بريرة" يسألها، فلما أتت قام إليها (على) فضربها ضربًا شديدًا وهو يقول اصدقى رسول الله، فتقول والله ما أعلم إلا خيرًا.
هنا إيذاء بدنى من على للجارية بقصد الحصول منها على اعتراف.. ولم ينكر الرسول شيئًا مما فعله على، والتفسير (الكربونى) هنا يصل بنا إلى أنه من (السنة) أن يعذب المتهم للحصول على اعتراف ويصبح ما يثار حول تعذيب أعضاء الجماعات الإسلامية فى السجون أمرًا مشروعًا، وشرعيًا، بل ومحمودًا لأنه تأسٍّ بالسلف الصالح.
بينما وجهة النظر المقابلة، المتسعة الأفق الملتصقة بروح العقيدة، تستـنكر التعذيب، وترى أن هذا حتى لو كان أمرًا مقبولاً فى عصر الرسول، لا ينسحب على غيره من العصور، وإذا كانت الحضارة قد أضافت فيما أضافت، مفهومًا واسعًا لحقوق الإنسان، يرفض فيما يرفض أن يعذب متهم للحصول على اعتراف، فإننا نقبل هذا المفهوم من منطلق إسلامى، ولا نرفضه لمجرد التأسى بعصر أيًا كان هذا العصر، لسببين بسيطين واضحين: أولهما أننا فى عصر غير العصر وثانيهما أن الإسلام لا يتنافى مع روح العصر، أى عصر، فى كل ما هو إنسانى وسمح وعادل.
الواقعة الثانية:
بعد وفاة الإمام على بن أبى طالب بطعنات من عبدالرحمن بن ملجم، دعا عبدالله بن جعفر بابن ملجم، فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فجعل يقول: "إنك يا ابن جعفر لتكحل عينى بملمول مض" أى بمكحال حار محرق، ثم أمر بلسانه أن يخرج ليقطع، فجزع من ذلك، فقل له ابن جعفر: قطعنا يديك ورجليك، وسملنا عينيك، فلم تجزع، فكيف تجزع من قطع لسانك، قال: إنى ما جزعت من ذلك خوفًا من الموت، لكنى جزعت أن أكون حيًا فى الدنيا ساعةً لا أذكر الله فيها. ثم قطع لسانه، فمات.
والرواية يذكرها ابن سعد، مضيفًا إليها حرقه بعد موته ويذكرها ابن كثير دون ترجيح ويقتصر الطبرى وابن الأثير على الحرق بعد القتل.
والرواية لا تعبر فى رأينا عن روح الإسلام أو تعاليمه، حتى لو اقتصرت على حرق الجثمان بعد القصاص فقد نهى الرسول عن المُثلة ولو بالكلب العقور، ونهى على قبل وفاته فى رواية لابن الأثير عن المُثلة بقاتله، لكنها تعبر من وجهة نظرنا عن روح عصر، سادته القسوة، وتحجر القلب وكان مقبولاً فيه أن يحدث ما فعله عبدالله بن جعفر بابن ملجم، دون استنكار، بل ويكمل المشاهدون المشهد بحرق الجثمان، بينما أضافت الحضارة إلى سلوكنا كثيرًا من الإحساس بعذاب الآخرين، وصعوبة تقبل التمثيل بهم أو تعذيبهم، بل إنه من الصعب أن نتصور صمود مجموعة من المشاهدين لمثل ما فعله عبدالله بن جعفر، بكلب ضال أو بقط شارد.
غير أن لكل حقيقة وجهين، وما أيسر أن يجد أنصار (الكربون) تبريرًا لفعل عبدالله بن جعفر، وللاقتداء به، بإلصاق تهمة الإفساد فى الأرض بابن ملجم، والتأسى بالحسن والحسين، حيث لم يذكر عنهما أنهما أنكرا التمثيل بالجثمان بحرقه بعد القصاص. ولعلنا نتساءل ونحن نتأمل صمود عبدالرحمن بن ملجم، وصبره على قطع أطرافه وسمل عينيه بالحديد المحمى ثم جزعه عند قطع لسانه (حتى لا تمر عليه لحظة لا يذكر فيها الله).. هل هناك مثال أبلغ من هذا المثال، على ما يمكن أن يؤدى إليه التطرف عندما يتسلط على الوجدان فلا يميز المتطرف بين الكفر والإيمان، ويصل به الأمر إلى قتل على ابن أبى طالب، والتلهى عن المُثلة به بقراءة القرآن، والجزع فقط عند قطع اللسان، حتى لا يحرم لحظة من ذكر الرحمن؟!
لا جديد إذن تحت الشمس، وقد لا نجد فى زماننا نظيرًا لعلى، لكننا نجد كثيرًا من أمثال عبدالرحمن.
ونعود إلى هواة الكربون..
أليس الأجدر بهم، رحمةً بنا، وبالإسلام، أن نلتزم بالقرآن، وبالسنة فى شئون العبادة، وأن نترك فى الوقت نفسه، مساحة من أذهاننا للتعرف على العصر والالتقاء معه، وقبول ما يأتى به من قيم تتناسق مع جوهره، ولا تتناقض مع الإيمان والعقيدة، وأن نقبل ما نقبل، ونترك ما نترك، بقلب مؤمن وفكر مفتوح، فلا نرفض حقوق الإنسان لأنها أتت من الأعاجم، ولا نرفض الديمقراطية لأنها بدعة، ولا نرفض عصرنا على إطلاقه، ولا نقبل عصر الراشدين على إطلاقه، ونستخدم العقل فى النقل، والكربون فى طبع مستحدثات الحضارة، تلك التى لا علاقة لها بالفكر أو العقيدة، وإنما علاقتها وطيدة بالتقدم، ذلك الذى أزعم أنه ليس ركنًا من أركان الإسلام، بل هو الإسلام.
 
النتيجة الثانية:
إن قواعد الدين ثابتة، وظروف الحياة متغيرة، وفى المقابلة بين الثابت والمتغير، لا بد أن يحدث جزء من المخالفة، ونقصد بالمخالفة أن يتغير الثابت أو يثبت المتغير، ولأن تثبيت واقع الحياة المتغير مستحيل، فقد كان الأمر ينتهى دائمًا بتغير الثوابت الدينية، وقد حدث هذا دائمًا ومنذ بدء الخلافة الراشدة وحتى انتهت، وتغيير الثوابت هو ما نسميه بالاجتهاد، وقد اتفقنا على أنه ليس مطلقًا، لكنه قائم ومتاح، وما أوردناه من أمثلة لاجتهادات عمر يصلح دليلاً على ما نقول، غير أنه فى بعض الأحيان تفرض تعقيدات الحياة نوعًا من المخالفات، الحادة ليس فيه شىء من تناغم الاجتهاد فى ربطة بين الأسباب والنتائج، فتصبح المخالفة صريحة وواضحة لا يمكن تبريرها بالاجتهاد لافتقاد أسبابه، وإنما تبرر فقط بأن عدم المخالفة مستحيل أو فى أحسن الأحوال غير ممكن، وقد حدث ذلك فى عهد الراشدين كما يحدث فى كل عهد، ومثاله ما حدث عقب مقتل عمر ابن الخطاب، حين انطلق ابنه عبيدالله ابن عمر، وقتل ثلاثة ظن فيهم التآمر على مقتل والده، ولم يثبت ذلك فى حق أحد منهم، وكان أحدهم الهرمزان، الذى أسلم وصح إسلامه، وقد واجه عثمان هذا الموقف فى بدء ولايته وكان رأى الدين فيه واضحًا، أعلنه على وأصر عليه، وهو أن يقتل عبيدالله بدم من قتل، لكن عثمان لم يملك إلا المخالفة لأسباب (إنسانية)، فقد تساءل الناس فى شفقة، أيقتل عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم؟ ألا يكفى آل عمر قتل عمر؟، أيفجعون فيه ثم فى ولده قبل أن تجف دموعهم عليه؟.. منطق.. وإنسانية.. وظروف متغيرة.. لكن حكم الدين ثابت وواضح ولا لبس فيه.. حكم الدين هو القصاص، ولا بد من قتل عبيدالله.
ويقال إن عمرو بن العاص أفتى بفتوى بالغة الذكاء والمهارة عندما تولى عثمان، وسأل عمرو أن يخرجه من المأزق الصعب، فسأله عمرو: هل قتل الهرمزان فى ولاية عمر؟ فأجابه عثمان: لا، كان عمر قد قتل، فسأله ثانية: وهل قتل فى ولايتك؟ فأجابه عثمان: لا، لم أكن قد توليت بعد، فقال عمرو: إذن يتولاه الله.
والشاهد هنا أن عثمان حاول التخلص من المأزق بدفع دية الهرمزان من ماله، ولم يتحمل عبيدالله وزر القتل أو حتى دية القتلى، وهو ما رفضه على، الذى ظل يتوعد عبيدالله كلما لقيه بأنه إذا تولى فسوف يقتله بدم الهرمزان، وما إن تولى على حتى هرب عبيدالله إلى جيش معاوية، وحارب عليًّا إلى أن قتل فى معركة صفين.
ويشاء القدر أن يقع على فى المأزق نفسه، بل ربما بصورة أعقد، فقد ولى ولم يقدر على قتَلة عثمان لأنهم كانوا مسيطرين على المدينة، ثم انتقل من حرب إلى حرب وهم على رأس جيشه فلم يتمكن منهم، وعندما أعلن معاوية أن مطلبه الوحيد أن يدفع على إليه قتَلة عثمان، فوجئ على بجيشه يهتف فى صوت واحد، كلنا قتَلة عثمان، فزاد الموقف تعقيدًا، وأصبح مستحيلاً على الإمام على أن يثأر من القتَلة أو حتى يحاسبهم.
هى الحياة وليست الجنة، والبشر وليس الملائكة، وخلا عصر النبوة لا يوجد عصر للنقاء المطلق، أو انعدام المخالفة المطلق وكلما تغير العصر أو تقدم، تعددت المتغيرات، وزادت المخالفات، وإذا كانت الاجتهادات واسعة، والمخالفات واردة، قبل أن يمر ربع قرن على وفاة الرسول، وفى عهد معاصريه فكيف بنا بعد أربعة عشر قرنًا من وفاة الرسول، ألا نتوقع أن يزداد حجم (المخالفات الاضطرارية)، وأن نتوسع فى (الاجتهادات الضرورية)، وأن نقبل بحد أدنى من تطبيقات الدين، أقل بكثير مما قبله سلف أصلح، فى عصر أكثر تخلفًا، وأقل تعقيدًا، وأكثر انغلاقا واتفاقا؟
الحقيقة أن للقارئ الحرية كل الحرية فى أن يرفض ما أقول وأن يستنكر ما أتوصل إليه، وما أراه رغم كل ما أتوقعه من استنكار واعتراض، حقًا وعدلاً، وأمرًا واقعًا لا مهرب منه، وسوف يرى القارئ فيما سنذكره عن خلفاء بن أمية وبنى العباس، ما يؤكد له صحة ما نقول، وحقيقة ما ندعى.