رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هذا الصباح.. «القهوة» لن تصلح ما أفسده الليل


ليلة الأمس حلمت بك، كيف عرفت عنوان مخدعى؟ كيف اقتحمت خلوة نومى؟ كيف أقنعت هواجس الليل بالتخلى عن مطاردتى؟ كيف قفزت فوق الأسلاك الشائكة التى تحاصر غرفتى؟. غفوت ليلة الأمس، بعد أن قرأت آخر الأخبار، لا شىء جديدًا تحت الشمس إلا ظلام الأفق والدم وانحسار الأحلام، لا شىء جديدًا تحت الشمس إلا أننا نحيا ليس كما يليق بالبشر ونموت، بالصدفة نموت، قبل أن ينتهى العمر، نموت، دون أمنية أخيرة، دون أكفان على مقاس أجسادنا. وفجأة، تظهر «أنت» ضوءًا مبهرًا يشق عتمة الليل. منْ أنت؟ سافرنا عند «البحر»، توقفنا سبحنا معًا حتى بلاد، لا تسأل عن الاسم والديانة وفصيلة الدم والحالة الاجتماعية، عيناك والبحر والسماء حصار أزرق، يفك قيودى.. مشينا فوق سحابات بيضاء تمطر بالبهجة، وأسرار الغِناء. أودعت بين يديك قصائدى، أهديتنى أحزانك، أخبرتك بأن هذا العالم ليس بيتى، لكننى أواصل الحياة لأننى لا أقبل الهزيمة. قلت لى: تعاقب الليل والنهار يدفعنى إلى الجنون.. تكرار المواسم والفصول يفزعنى.. كل الأشياء غريبة عنى القريبة والبعيدة.. اسمى وملامحى ودمى، لا أحتمل وجود الناس حولى. فى الصباح كنت على موعد مع صديقتى لتناول الغداء فى المطعم المطل على النيل واطلعنا على كل أسرارنا. المفاجأة تجمدنى فى مكانى، أهمس «هذا غير معقول.. غير ممكن.. مستحيل»، «أنت» تدخل المكان، تختار مائدة فى الركن البعيد. سألتنى صديقتى: ماذا بك؟ قلت: «ليلة الأمس جاءنى رجل لا أعرفه فى المنام وها هو اليوم وهنا والآن أمامى. أتأملك وأنت تتناول غذاءك، بك شىء من النبل المتوحش لا تدركه إلا امرأة تهوى الخطر، رجولتك لها مذاق الشجن، تأسر دون جهد، تغازل فى صمت بالغ الأدب، لك جاذبية تناجى شيئًا طال غيابه، من عينيك يطل حزن لا تداويه نساء الدنيا، يشع من روحك قلق لا يسكن إلا قلب فنان مبدع، ألهذا ترتدى نظارتك الشمسية حتى فى الحجرات المغلقة؟ اخلع عنك نظارتك وأطلق حزنك فى وجه العالم، لا تخفى خطوط الزمن المرتسمة على ملامحك، إن لم تنل استحسان العالم فهذه مشكلته لا مشكلتك أنت. «أنت» رائع هكذا بأحزانك، ومتاعبك، تصور أنت فى هذه اللحظة تخلع النظارة السوداء كأنك تقرأ خواطرى، لم أنشغل بتخيل لون عينيك، فقد عرفته فى الحلم ليلة أمس، فرغت من طعامك ثم اختفيت. ترمقنى صديقتى بنظرات شفقة: «حياتك كلها أوهام فى أوهام، تصنعين من الخيال حقيقة، ومن الحلم واقعًا، ومن نسمة هواء عاصفة، ومن قطرة ماء بحرًا تغرقين فيه وحدك». أقول: ما الحياة إلا وهم كبير. قلت: قصة جديدة فى الأفق. تهمس صديقتى «دائمًا الكتابة ولا شىء غيرها». نعم دائمًا وأبدًا الكتابة ولا شىء غيرها، أهناك شىء يستحق إلا الكتابة؟ لولا الكتابة ما كنت هزمت الأوهام. فى الصباح التالى استيقظت فى منتهى الإرهاق، كان نومى مؤرقًا متقطعًا، لا يهم، «فالقهوة» دائمًا تصلح ما أفسده الليل، القهوة دائمًا عزائى حين أشتاق إلى العزاء. سقط قلبى، توقفت أنفاسى، تجمدت عيونى، فى الجريدة أرى صورتك وقد كُتب فوقها بخط أسود.. «يفجر رأسه بطلقة رصاص» ترك رسالة تقول: «إلى كل منْ يهمه أمرى.. لا تحزن الآن ولأول مرة أنا بألف خير». أبدأ فى ارتشاف القهوة شاردة نحو أفق لا نهائى، ترى هل أنا التى يقصدها فى الرسالة؟ غير معقول، نحن لم نلتق إلا فوق سحابات المنام. لم أعد أدرى ما الحلم؟ وما الحقيقة؟ كل ما أدركه أن «القهوة» هذا الصباح لن تصلح ما أفسده الليل ولن تطفئ اشتياقى إلى العزاء.