رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السادات «الرجل» بعينى جيهان «المرأة»

جريدة الدستور


أعطى الرئيس السادات مصر أكثر مما أخذ.
أعطاها عمره وحياته، وفى النهاية لم يحصل على التقدير الذى يستحقه، على الأقل كرئيس له أخطاؤه ومعجزاته.
مؤكد أنك استمعت للسيدة جيهان السادات وهى تتحدث عنه كرئيس، تعلقت بما قالته عنه كزعيم، توقفت عند ملامحه كمحارب وقائد، تحيرت فى تفاصيل حياته كسياسى، لكنك ربما تكون عبرت سريعًا عند ما تحدثت عنه كرجل احبته وعشقته إلى درجة الوله.
هنا محاولة لقراءة مختلفة لقصة لا تزال تفاصيلها مخبوءة بين السطور، اقتراب من امرأة عاشت فى ظل رجل ولا تزال.
وضعت يدى على ما كتبته جيهان السادات فى كتابيها، الأول «سيدة من مصر»، الذى صدر فى العام ١٩٨٧، والثانى «أملى فى السلام» الذى صدر فى العام ٢٠٠٩، بحثت بين السطور عن العلاقة الخاصة جدًا بين الرجل «الرئيس» والمرأة «السيدة الأولى»، عن مواطن الحب بينهما، عن نظرة الرجل لحبيبته والمرأة لمعشوقها.
فالرئيس فى النهاية بشر له مشاعر وأحاسيس، يعرف كيف يحب ويعبر عن هذا الحب، ولأن السادات كان رئيسًا على الطريقة الغربية، فلم يخف تفاصيل قصة حبه، وهى قصة تستحق أن تروى على الأقل من وجهة نظر المرأة الزوجة العاشقة جيهان السادات.
تكشف جيهان السادات عن اللحظة الأولى التى التقت فيها بأنور فتقول عن ذلك، إنه منذ لحظة لقائها بأنور كانت تعلم أنها صغيرة السن «كانت فى الخامسة عشرة تقريبًا وكان السادات يبلغ الثلاثين» لكنها استشعرت بأنه يجسد كل ما نما إليها أو تعلمته عن أهمية الشخصية القوية، بل والإيمان القوى، لقد جاءا من عالمين مختلفين فى الظاهر.
جاءت هى من عائلة تنتمى إلى الطبقة الوسطى فى القاهرة، بينما جاء هو من عائلة فقيرة، وكان سؤال جيهان هو:
ما الذى يمكن أن يجمع بينهما؟
ما الذى يمكن أن يشتركا فيه؟
وكانت الإجابة التى ألقت بها فى كتابها الأخير، أى بعد سنوات طويلة من انطفاء العاطفة وخمودها، أن ما جمع بينهما أنهما فى جوهرهما أحبا الله.
كان أنور السادات يتلو الآيات القرآنية من الذاكرة لا لأنه حفظها، لكن لأنه، وهو الأهم، عاش وفقًا لها، لقد اختبره الله بطرق لم تكن جيهان تستوعبها، دخل السجن، حيث عاش ظروفًا يرثى لها، احتمل مشقة جسدية وألمًا فظيعين.
كانت جيهان السادات كما ترى نفسها مثالية جدًا عندما التقت السادات، وكذلك كان هو، كان طموحًا، لا لنفسه فقط، بل لبلده وشعبه، وتقول جيهان: «لقد كان زواجى بهذا الرجل نعمة، وإن تملكنى القلق خاصة أن يناله أى أذى، كثيرا ما كان يتكلم ويتصرف دون مراعاة سلامته الشخصية، وقد تجاهل فى الأغلب نصائحى بتحرى السلامة».
كانت مشاعر السادات تجاه زوجته جياشة جدًا، تزوجها فى ١٩٤٩، لكن يبدو أن مسئولياته العسكرية، وكان قد عاد إلى الجيش، قد حالت بين أن يستمتع العاشقان بحياتهما، وهو ما يبدو من الرسالة التى كتبها السادات لجيهان ٩ يونيو ١٩٤٩.
يقول فيها: «جينى.. زوجتى حبيبتى.. أحبك وأقبلك.. إنها أول مرة أكتب إليك فيها بعد زواجنا، وبعد أن حملت اسمى إلى الأبد، ولذلك تجدينى حائرًا، ماذا أكتب؟ هل أقول لك أحبك، إننى أحبك يا زوجتى العزيزة الحبيبة، إذا قلت ذلك، فإنه لا يكفى للتعبير عن حقيقة الرباط السامى العميق الذى جمع بين قلبينا قبل أن يرى أحدنا الآخر، ثم لم يلبث أن ألف بين روحينا فتزوجنا، وامتزجت نفوسنا من قبل قراننا بزمان طويل، إننى أكتب إليك يا حبى وأملى وملهمتى وكلى نشوة وسعادة، وسأظل ما حييت أحمد الله القوى الجميل على ما منحنى، وأدعوه أن يحفظك لى أبدًا حنوًا وإخلاصًا وطهرًا وقوة فى الخلق والدين وعفة فى النفس وروعة وعمق فى العاطفة والمشاعر.
لماذا لا تكتبين لى يا (هنى) وأنت تعلمين مقدار تعلقى وحنينى بك وإليك، أنا أخبارى هنا مملة، لو كتبتها إليك فلا شىء غير العمل والعمل الشاق المضنى كما تعلمين، ولكنى أريد أن تكتبى لى عن صحتك وعن يومك كاملًا وعن صدى زواجنا عند الجميع وعن.. وعن.. اكتبى إلى يا (هنى) عن كل شىء لأعيش معك لحظة بلحظة، وختامًا تقبلى حبى وقلبى ودعواتى بكل القوة والتوفيق»، والتوقيع زوجك أنور.
تعرفت جيهان السادات على زوجها أنور فى بيت حسن عزت، زوج عمتها بالسويس، كانت قد سمعت عنه وعن مغامراته وبطولاته الكثير، وعندما رأته وجهًا لوجه لم تصدق نفسها، عن اللحظة الأولى التى رأته فيها تقول جيهان: «التفت نحوى ببطء.. كنت أعلم أنى لا بد أن أخفض بصرى وألا أنظر إلى هذا الرجل، أو أى رجل آخر وبهذه الجرأة، ولكن فى تلك اللحظة لم أقو على ضبط نفسى، كان الممر مظلمًا، ولكن ملامحه كانت مألوفة لى بعد كل الصور التى شاهدتها له، لدرجة أنى شعرت بالأضواء وكأنها باهرة، وعندما التقت نظراتنا، لمحت فى عينيه مسحة من الجدية والحزن، ولم أستطع أن أبتعد بعينى عنه، كان وجهه يبدو أكثر سمرة مما يبدو فى صوره، وبدا وكأنه يحمل عبء العالم على كتفيه، وخلال وقفتى فى الممر شعرت بمدى الإجهاد الذى لا بد أنه يعانى منه».
لمدة يومين كاملين لم يتحدث أنور السادات وهو فى بيت حسن عزت، لم تستطع جيهان أن تنام، لم يغمض لها جفن، لم تكن مصدقة أنه معها فى منزل واحد، طلبت من والدها أن تمكث فترة أطول لدى عمتها؛ لأن الجو فى القاهرة حار، كانت تريد أن تظل أطول فترة ممكنة إلى جوار أنور السادات، دون أن يلحظ أحد أنها مهتمة به.
كان هناك أكثر من زوج رشحته العائلة للزواج من جيهان، وقت أن قابلت أنور السادات كان عمرها ١٥ عامًا فقط، وكانت العادة قد جرت فى أسر الطبقة المتوسطة أن الزواج يتم فى السابعة عشرة، لذا كان هناك من يدور فى فلك العروس الشابة الجميلة.
من بين هؤلاء العرسان كان على شقيق حسن عزت، زوج عمتها، وكان قد أفصح عن نواياه ورغبته بالفعل من خلال زياراته المتكررة لبيت جيهان فى القاهرة، لكنها لم تكن متقبلة تمامًا الفكرة، كان على شابًا لطيفًا، كما تقول جيهان، يشغل وظيفة تدر عليه دخلًا كبيرًا، ويملك سيارة، لكن شخصيته كانت ضعيفة، كما كان يفتقد روح الدعابة، كما أنها كانت تتشكك فى شجاعته.
لقد أفصحت جيهان عن مواصفات فارس أحلامها، فهى تريده رجلًا لا يخشى الغارات الجوية ولا يهاب الموت، ولم يكن يعجبها رجل يمكن أن ينبطح على الأرض، ويبدو أن جيهان لم تكن تتحدث عن فتى أحلامها بقدر ما كانت تتحدث عن السادات.
كان هناك ما يعوق الزواج بين السادات وجيهان، كان متزوجًا ولديه أولاد، وقد أخبرها حسن عزت بكل شىء عن حياة السادات العائلية، لكن جيهان تقول: «من الناحية العملية تسبب ما أخبرنى به حسن عزت عن أنور السادات فى إخماد عاطفتى وشعورى وأحاسيسى المتزايدة، لكن هل من الممكن لبنت الخامسة عشرة أن تكون عملية؟ عوضًا عن هذا كنت أنظر إلى لون بشرته القاتم، الذى يعتبر فى رأى كثير من المصريين ليس جذابًا، فأراه رائعًا وجذابًا، ونظرت إلى سترته البيضاء المجعدة وبنطلونه البسيط فوجدته من وجهة نظرى بلا عيب، بل أنيق، وعلى قسمات وجهه رأيت سنه، فهو يكبرنى بخمسة عشر عامًا، ولكننى أحسست أنه مثل للشباب القوى».
كان الإعجاب هو الذى جمع بين جيهان وأنور، لكن متى ولد الحب؟
فى أول رحلة إلى شاطئ الإسماعيلية، وهى الرحلة التى حكى فيها أنور لجيهان كل شىء عن حياته تحول الإعجاب إلى حب تقول هى: «احتفظ أنور بمشاعره لنفسه، وكان ارتياحه فى التحدث مساويًا لاشتياقى إلى الاستماع، لكن بقى القليل الذى لم نتكلم عنه خلال أول لقاء بيننا على شاطئ الإسماعيلية، وخلال باقى اللقاءات فى ذلك الصيف، حيث كنا نسير ونتحدث فى حقول السويس، وزاد احترامى له وإعجابى وتعلقى به وأنا مراهقة ثم سرعان ما تحول إلى حب».
لم تكن جيهان السادات فى حاجة لمن يحدثها عن قوة الحب، فرغم أنها كانت فى الخامسة عشرة، إلا أنها كانت تعرف أن عاطفة الحب التى تشعر بها المرأة شعور طبيعى، وتسيطر عليها فى بعض الأحيان بكل بهجتها وآلامها، لكنها كانت ترى أنه ورغم أن مشاعر الحب لم تكن بعيدة عن السادات، إلا أن كلمة الحب لم ترد على لسانه أبدًا، خاصة طوال فترة زواجهما، تقول جيهان: «كثيرًا ما كنت أداعبه محاولة أن أدفعه لكى يقول إنه يحبنى.. ولم أكن أريد إلا إعادة تأكيد حبه لى مثلى فى ذلك مثل كل النساء».
كانت جيهان تطلب من السادات أن يقول لها إنه يحبها، إنها زوجة رئيس تعرف أعباءه جيدًا، لكنها فى النهاية امرأة يحركها ما يحرك النساء.
قالت: «مع أننى كنت أعرف أنه يحبنى، إلا أنه لم ينطق بهذه الكلمة أبدًا، وكان يعنفنى قائلًا: دعى عنك هذا، إنك تعرفين كيف أشعر فى تصرفاتى معك وفى احترامى لك وكل ما لدى فهو لك، إلا أننى كنت أصر فى عناد: حسنا أريد أن أسمعها منك، ثم أداعبه قائلة: أريد أن أتأكد من حبك لى، إلا أنه لم يرضخ أبدًا، ربما كان شديد الخجل ليفصح».
كان يوم زفاف أنور السادات وجيهان مختلفًا على الأقل بالنسبة للفتاة الصغيرة، استيقظت فى الفجر، لتستمتع بالشىء الهادئ الوحيد الذى سيتحقق، بدأت تقرأ فى سورة «يس» وهى ترقب الشمس وهى تمزق الضباب فوق نهر النيل، ولم تذكر أنها شعرت بمثل هذه السعادة من قلبها، كم كان حظها سعيدًا كما تقول هى بأن تزف إلى رجل تعرف أنها تحبه، وهذا شىء لا تعرفه إلا القليلات من صديقاتها، وقد شعرت زميلاتها فى المدرسة بالدهشة حين أخبرتهن، وعرضت عليهن صورة أنور السادات، بدأت الزميلات فى السؤال: هل هو غنى؟ فنفت ذلك، سألن: هل يتولى منصبًا كبيرًا؟ وكان الرد «ليس عنده وظيفة»، فقلن وهن يتضاحكن: إذن لماذا تزوجته وهو أكبر منك سنًا؟ وكان رد جيهان الجاهز للجميع هو: شخصيته هى التى جذبتنى.
عندما وقفت جيهان السادات إلى جوار أنور لالتقاط صورة الزفاف، قال له المصور: إن حظك سعيد حقًا فأنت متزوج من أجمل العرائس اللاتى شاهدتهن.
تحكى جيهان ما جرى: قلت لأنور مداعبة وقد وقف بجانبى وعليه مظاهر الجد «يا لك من رجل محظوظ ألم تسمعه يقول إنى من أجمل العرائس اللاتى شاهدهن»، وكان أنور ساكتًا يحاول أن يتجاهل مداعباتى، كما كان يفعل بعد ذلك بسنوات فى الاستقبالات الرسمية، وكان أحيانًا يقول لى ونحن واقفان لاستقبال طابور طويل من الضيوف: قصى علىَّ نكتة، وأحيانًا أخرى كان يغضب من الدعابات التى أهمسها فى أذنه ويتمتم «اسكتى.. يبدو أن كل إنسان فى استطاعته السكوت ما عداك».
الطريف أن أكثر الزغاريد ارتفاعًا فى يوم زفاف جيهان السادات كانت زغاريدها هى، لم تستطع أن تملك زمام نفسها حين سأل المأذون والدها إذا كان يقبل أنور السادات زوجًا لابنته، لقد سألها أبوها هل تقبل، فهزت رأسها، حتى شعرت بأنها ستكسر رقبتها وقالت: نعم.
تزوج أنور السادات من جيهان على صداق قدره مائة وخمسون جنيهًا، وكان السادات معبرًا عما يشعر به تجاه جيهان عندما قال لوالدها: إنى أقبل منك زواجها منى وآخذها تحت رعايتى وأعد بأن أعطيها حمايتى وأنتم الحاضرين هنا شهود على ما أقول.
استمر حفل الزفاف إلى الفجر، لم تنقطع الراقصات عن الرقص طوال الليل، كانت جيهان تعرف أنها لن تقضى الليلة الأولى مع السادات فى بيته، فقد كانت شقتهما فى عمارة جديدة لم تنته بعد، وبعد أن انتهى الزفاف وأصبح أنور وجيهان بمفردهما قال لها: تعالى، وقاد السيارة وتوجه بها إلى الأهرامات.
تقول جيهان عن هذه اللحظة: بدا سكون الرمال عميقًا لا نهائيًا، وخاصة بعد ضوضاء العرس، وسرنا معًا عبر الرمال إلى قاعدة هرم خوفو، ونظرنا إلى أعلى إلى ارتفاع يصل إلى ٥٠٠ قدم، وعندما ارتفعت الشمس فى السماء أوصلها أنور إلى منزل أسرتها ثم عاد هو إلى البنسيون الذى كان يعيش فيه بمفرده.
لقد حاولت جيهان السادات كثيرًا أن تربط قصة حبها بأنور السادات بحبها لمصر، لكن من بين السطور الكثيرة كانت تتسرب قصة حب بين رجل وامرأة.
فقط لأنهما رجل وامرأة.