رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحب الأول في حياة نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين.. «هي لا تحبك أنت»

نجيب محفوظ وتوفيق
نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم

وعذلت أهل العشق حتى ذقته..فعجبت كيف يموت من لايعشق. كتب"المتنبي" هذا البيت بعدما هام عشقًا بخولة أخت سيف الدولة الحمداني، ويقول تولستوي في مذكراته 1862:"كل يوم يمر اعتقد فيه اني لن احتمل المزيد من شعوري بالسعادة، سأذهب في الغد إليهم وسأصارح لهم بكل شىء وإلا فأني أنتحر؟، كتبها بعد علاقته الاولى بامرأة ريفية"اكسينيا".
الحب الأول، خاطف، يحتاج لشجاعة في الاعتراف من أحد الطرفين، عاني بعض الأدباء من قلق الاعتراف للمعشوقة، وتشجع بعضهم واعترف، سردوا لنا حكاية الحب الأول في مذكراتهم.

حب من طرف واحد
"من أول نظرة يا قلبي، ما ارتدت عنها عيناي حتى آمنت بانها زيارة مقيم لا زيارة عابرة، لحظة خاطفة حاسمة، ولكن في مثلها تخلق الأرواح في الأرحام وتزلزل الأرض، رباه لم أعد أنا، قلبي تلاطمه جدران الأضلع"، يقول نجيب محفوظ.
في سن المراهقة، 15 عامًا، تعلّق أديب نوبل نجيب محفوظ بوجه ساحر لفتاة في العشرين من عمرها، تطل من شرفة أحد منازل حي الجمالية بالقاهرة القديمة، أسرتها معروفة، لها وجه أشبه بلوحة الموناليزا، لكن الحب كان من طرف واحد، لم يجرأ على محادثتها أو الاقتراب منها، أو محاولة لفت انتباهها، روى نجيب محفوظ في مذكراته لرجاء النقاش:"عرفت كيف يغيب الإنسان وهو حاضر، ويصحو وهو نائم، كيف يفنى في الوحدة وسط الزحام ويصادق الألم".
"الحب الأول هو تلك النسمة الحية التي تشيع في جميع الكائنات الحية، نبصرها تآلف الخلايا وتجاذب الأطيار وتزاوج الإنسان"، نجيب محفوظ في مقال نُشر عام1934.
وصف نجيب محفوظ ملامح صاحبة قصة الحب الأول، في روايته المرايا، يقول:"كانت بيضاء زرقاء العينين ناعمة الصوت، عندما شاهدتها للمرة الأولى تسلل إلى روحي قلق نشيط غامض تتجاذبه قوى خفية من البهجة والكآبة".
وفي مذكراته بعنوان"أنا نجيب محفوظ" التي حررها الكاتب الصحفي إبراهيم عبد العزيز، يقول نجيب محفوظ:"الحب ان لم ينته بالزواج يخفت ويتوارى ولكنه يطل من الذاكرة بين الحين والآخر، ولقد صورت قصتي مع الحب في العديد من رواياتي، واستطع أن أقول أن ما كتبته في"قصر الشوق" يمثل جوهر تلك القصة، فحين يصل الانسان إلى سن الحب يخيل إليه أنه وقع في حب كل جميل يصادفه، حتى يأتي شىء يفهمه أن الحب غير كل ما قلت، أما لماذا اتجه الحب لهذا الشخص بالذات دون شخص آخر فهذا سر مغلق ولا يزال سرًا مغلقًا حتى الآن".
قصة لا تنتهي
"إذا كنت تحيب امرأة وهي لا تعلم إنك تحبها، فأنت لا ينقصك إلا الشجاعة، لأنها تقول لها إنك تحبها، وإذا كنت تحب امرأة وهي لا تحبك، فأنت تعيس، وعليك أن تكف عن محاولة جذبها إليك، فكل ما ينطق عن الشفتين ولا يصل إلى المحبوب فهو وهم، والحب ليس وهمًا بل حقيقة، والطريق إليه يبدأ بالخوف وينتهي بالشجاعة"، يقول توفيق الحكيم في مقاله بعنوان"ألوان من الحب"، عام1970.
في السابعة والعشرين من عمره سافر توفيق الحكيم إلى فرنسا، واستأجر غرفة صغيرة في باريس، الفرنسيون كان يرونه شابًا خياليًا، وهذا الخيال دفعه ليعشق فتاة لم يرها سوى مرة واحدة، تبيع التذاكر في مسرح الأوديون قال عنها:"أراها تشرق كل مساء بعينين فيروزيتين جميلتين وابتسامة ساحرة". حب رسائله في كتابه "زهرة العمر"، 1944.
"أندريه" صديق توفيق الحكيم ينصحه أن بيقدم لها باقة من الزهور ويفاتحها بما في نفسه من مشاعر، لكن"الحكيم" يرفض ويقول له:"يا عزيزي أندريه، ما زال في رأسي قليل من الإدراك يكفي لإفهامي على الأقل أن مثل هذا الجمال في شباك مفتوح للجمهور، لا يمكن أن يبقى حتى الآن في انتظار قدوم هذا الصعلوك الشارد الذي هو أنا".
وفي رسالة نشرها في كتابه"زهرة العمر" يقول فيها لصديقه أندريه:"إن الحب قصة لا يجب أن تنتهي، إن الحب مسألة رياضية لم تحل، إن جوهر الحب مثل جوهر الوجود لابد أن يكون فيه ذلك يسمونه المجهول أو المطلق، إن حمى الحب عندي هي نوع من حمى المعرفة واستكشاف المجهول والجري وراء المطلق".
الآنسة"سيادات" التي أصبحت زوجة توفيق الحكيم، قالت في حوار لها مع الكاتب الصحفي مصطفى أمين وهي تصف اللقاء الأول:"لم أتبهرج لتوفيق لأبهره بجمالي، وحاولت أن أستعرض معلوماتي عن كل ماكتب، ويومها ذهل توفيق من إطلاعي الواسع على كتبه ومؤلفاته ومن حفظي لجمل معينة من قصصه".
لم يستطع توفيق الحكيم أن يمنع نفسه من رؤية الجارة الحسناء، فطلبها للزواج ليرضي قلبه، ووضع 15 شرطًا قاسيًا لتوافق عليها"سيادات" قبل زفافهما، فوافقت على كل شروطه، وتم زفافهما، وهو يكبرها بعشرين عامًا، لكنها ألغت كل الشروط التي وضعها الحكيم قبل الزواج، وهو في غاية الرضا هو يتنازل عن كل الشروط، شرطًا تلو الآخر، ليكتب مقالًا في أخبار اليوم يقول فيه:"الحب، ليس غير الحب هو وحده الذي يستطيع أن يجعل حياتك سعيدة".
الحب الفلسفي
"كنت أول أجنبي تلتقيه هذه الفتاة، وكانت أول فتاة تزورني، وكان من الطبيعي إذن ألا تجري محادثاتنا مجرى سهلًا"، يقول "طه حسين في حواره مع غالي شكري، المنشور في كتاب"ماذا بقى من طه حسين؟؟".
أما الفتاة الأجنبية "سوزان" قالت في حوار مع الكاتبة الصحفية أمينة السعيد بمجلة المصور 1962:"كنت على شىء من الحيرة، إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت أعمى".
توطدت العلاقة بينهما، فتتحول "سوزان" إلى مرشدة تدله على ما خفي من الأدب الفرنسي، يقول طه حسين:"كانت صديقتي وأستاذتي وأنا مدين لها أن تعلمت اللاتينية من خلالها ونجحت في نيل إجازة الأدب، وأنا مدين لها أخيرًا حين استطعت أن أقرأ أفلاطون بلغته الأصلية".حسب كتاب"سؤال الحب..من تولستوي لإينشتاين".
تتذكر:"سوزان" في كتابه"معك" الأيام الأولى للقاءها بطه حسين:"كنا أمي وأختي وأنا قد أقمنا في باريس وكنا نلتقي، وكان ثمة غرفة شاغرة في بيتنا، وكان"طه" يبدو مهملًا ضائعًا برغم حضور أخ له لم يكن للأسف معينا، بحيث أن إمي اقترحت عليه المجىء للسكن عندنا، وقبل، لكن بعد كثير من التردد لأنه كان شديد الخجل في حياته اليومية، لم يقبل إطلاقًا أن يتناول وجباته معنا، كان ثمة قارئة تأتيه بانتظام، وكانت هناك سيدة أكبر في العمر تصحبه إلى السور بالجامعة، لكني شيئًا فشيئًا أخذت أتدخل في ذلك وأصحبه أنا الأخرى إلى الجامعة من وقت لآخر حتى بت أصحبه غالبًا، وكنت أقرأ له عندما يكون وحيدًا، كنا نتحدث بكثرة، وكان يحقق تقدمًا عظيما في اللغة الفرنسية، وذات يوم قال لي: اغفري لي، اريد أن تقرأي لي شيئًا من أوغست كونت، فقلت: لم أسمع بهذا الاسم من قبل، وكان لابد أن ابحث عن كتب هذا الفيلسوف، ويوم وجدتها امتلًا قلبي بالفرح، بعد أيام وأنا اقرأ له فصلًا كتبه أوغست كونت عن الحب، سمعت يقول المعذرة، لابد أن أقول لك شيئًا، ثم صمت وبعد دقائق قال: أنا أحبك، وصرخت وقد أذهلتني المفاجأة بفظاظة: ولكني لا أحبك، كنت أعني الحب بين الرجل والمرأة بلاشك، فقال بحزن: آه إنني أعرف ذلك جيدًا وأعرف جيدًا أنه مستحيل".
صرحت"سوزان" برغبتها في الزواج من طه حسين فصعقت العائلة، كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى، وفوق كل ذلك مسلم؟، لكن عمها كان قسًا وساعدها في الزواج من طه حسين، وتمت مراسم الزواج عام 1971، وبعد خمسة أعوام كتب طه حسين أغنية لزوجته سوزان، وقدمها للملحن كامل الخلعي، وغنتها منيرة المهدية، وظهرت الأغنية على أسطوانة لشركة فونوغراف، مكتوب عليها أغنية من كلمات الدكتور طه حسين:"أنا لولاك ما كنت ملاك، غير مسموح أن أهوى سواك، سامحني بين العشاق أنا مشتاق، أبكي وأبوح بالأشواق، صدقني عهدك فين يانور العين، بالمفتوح تهوى اتنين، جاوبني، واحد بس يهوى لاقلب، قلبي ينوح له بالحب، طاوعني، أنا أهواك مين قساك، أنا مجروح غايتي رضاك، واصلني، كا أحلاك وقت رضا، لما تلوح ما أبهاك، كلمني".
في إحدى الليالي، كانت سوزان نائمة، فأشار طه حسين إليها وقال لابنته أمينة:"هذه المرأة جعلت من أبيك إنسانًا آخر".