رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أفواه وأرانب



لدىّ يقين بأننا نعانى من كارثتين يمكنهما الفتك بنا بالتراكم ليصبح الانحدار سريعًا وشيكًا، كارثة الانفجار السكانى المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتديّن الشعب، وسطوة رجال الدين على الدولة وقاطنيها.
لقد عمد وخطط رجال الدين لجر أقدام البلاد بقاطنيها للأسفل طوال عقود مضت فحرموا المباهج، وأباحوا بل وباركوا كل مقيت، علموا الناس الانشغال بحاجاتهم الأولية فتحدثوا عن التجارة ورزقها الكبير، فتهالكت الصناعات وعاف المصريون عوالم التصنيع، وصار الاستيراد ومعه التبعية ملمحًا وجوديًا.
شددوا وباركوا وخلقوا حالة من الإلهاء الجماعية للناس بأمور النكاح والتكاثر، فصار الحفاظ على بقاء النوع والنسل أهم من الحفاظ على الحياة نفسها، حتى وصلنا للمقابر، وأصبحنا نحيا جميعًا فى مقبرة كبيرة من الجهل، واحتل الكثير من الأحياء المقابر فى الواقع، ووضعوا أياديهم عليها سطوًا، وعاشوا فيها جنبًا إلى جنب مع الأموات، وهم على قيد الحياة، وصارت الأفواه الكثيرة منشغلة بما يملؤها وتطالب بشكل دائم ومستمر بمن يسدها لها نيابة عنها، تلك الأفواه التى تبتلع كل أخضر وتصيح دومًا مطالبة بالمزيد، ومزيدها يعنى دائمًا الكم لا الكيف.
فالأفواه تطالب بما يملؤها لا ما يثرى روحها، بعد أن فقدت الروح وفقدت الكثير، فمعيار الجودة والمقدرة على الانتقاء والاختيار والرفاهية- حتى المعنوى منها- صار مجرد الحلم به ضربًا من الجنون، بل نوعًا من أنواع الوقاحة.
فإن تمنيت أو رغبت فى صفاء لنفسك بعيدًا عن الصخب أو الغوغائية، أو طالبت بأناقة ما لروحك فورًا تستيقظ وتلوم نفسك قبل أن تُلام، وأصبح جُل الأمانى سد الأفواه المفتوحة الزاعقة الصارخة، وكأنها حفر تريد من أحد أن يهيل عليها التراب، أو حتى يقذفها بالأحجار لتغلق.
ومن ثم باتت حياة الإنسان أحقر من حياة غيره من الكائنات، بعد أن تحول الفرد فى هذا القطيع الزاعق لشىء يتكاثر ليتكاثر، دون أن تكون لديه المقدرة على تمييز أو استيعاب معنى الحياة، أو إدراك سرها، وصارت التعاسة شأنًا مزمنًا عامًا ومعتادًا يدهس الروح ويعانى منها الفرد رغمًا عنه، ويتكبد كلفة دفع فواتير غيره، وإن لم يشترك فى تلك الجريمة المشتهرة فى مجتمعنا باسم الإنجاب والتكاثر والتناسل الذى يمضى فيه القطيع بمنتهى الأريحية ليعانى ذلك الفرد ويسدد من روحه ومن حياته تلك الفواتير التى فرضها عليه غيره.
التصدى لهاتين الكارثتين المتلازمتين بات باتًّا ولم يعد- بل ولم يكن يومًا- رفاهية إن كان صانعو القرار يريدون حقًا إنقاذ ما يمكن إنقاذه.