رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسلاميات كاتب مسيحى «19»

محمد الباز يكتب: القصة الشائكة.. حقيقة زواج الرسول من زوجة ابنه بالتبنى

جريدة الدستور

- الرسول زوّج زينب بنت جحش لـ«زيد بن حارثة» بهدف تحطيم الفوارق بين المسلمين
- زينب أصرت على الطلاق من زيد وقاومت اقترابهما لأنها لم تتقبل يومًا الزواج من عبد عتيق وإن كان ابن محمد بالتبنى
- الرسول تزوج زينب بنت جحش تكفيرًا عن خطأ تزويجها رجلًا لم تحبه يومًا واستهدف بذلك أيضًا القضاء على «سلطان التبنى» الذى كان سائدًا آنذاك
- زواج الرسول من زينب بنت جحش كان من أعمال النخوة المأثورة عن النبى

هذه قصة درامية لها تفاصيلها وأسرارها.
قد تكون قرأتها هنا أو هناك فى واحد من كتب التراث، أو لدى من بحثوا فى مسألة زوجات النبى محمد، صلى الله عليه وسلم.
إنها هى تحديدًا.. قصة زواج النبى من السيدة زينب بنت جحش التى حاول نظمى لوقا أن يدخلها بمنطقه ومذهبه مدافعًا عن صاحب الدعوة.
وأجدنى لأول مرة أمام محاولة متهافتة من نظمى، الذى وقع أسيرًا وبشكل كامل هذه المرة لمرويات التراث وتخريجات من تحدثوا فى شأن زواج النبى من بنت عمته السيدة زينب بنت جحش.
يعرف الفيلسوف المسيحى أى أرض يخوضها.
ولذلك يقول: هذه زوجة كثر فى زواج محمد بها اللغط، وعلت للمغرضين ضجة كبيرة تولى كبرها مستشرقون كثر، وتبعهم من السوقة أقوام وأقوام، وكان سندهم فيها كالعهد بمنطق الأكذوبة أسسًا تاريخية ثابتة أقاموا عليها صرح المغالطة.
الأول: «تزوج محمد بنت عمته زينب بنت جحش».
والثانى: «كانت زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة قبل ذلك، ثم طلقها بعد خلاف بينهما وجفوة».
والثالث: «زيد بن حارثة كان ابنًا بالتبنى لمحمد منذ الجاهلية، وهو الذى زوّجه بنت عمته هذه».
ولا ينكر نظمى أن هذه حقائق تاريخية ثابتة، وليست موضع جدل أو تشكيك.
لكن ما يتصدى له وينكره فهى القصة التى تم تركيبها من هذه الأسس التاريخية الثلاثة، وهى قصة، كما يقول، عجيبة حقًا فى ألوانها البراقة واستهوائها للعقول الساذجة والنيات الخبيثة.
ملامح هذه القصة أن زينب كانت وضيئة الحسن، وهى حقيقة لا تنكر، وأن الرسول آثر بها زيدًا، ثم حدث أن رآها ذات يوم وقد ذهب ينشد زيدًا فى داره، فقيل إنها خرجت تستقبله وترحب به عندما سمعت صوته ينادى زيدًا من خارج الدار، وكان خروجها على غير أهبة كاملة فى الزى، فوقعت فى قلبه موقعًا حسنًا.
لم يخترع المشككون فى النبى محمد هذه القصة من عندهم بالطبع.
فهى موجودة بتفاصيلها فى كتب السيرة والتفاسير.
أشار نظمى إلى رواية الطبرى التى تقول إن النبى محمد عند وقوفه بباب زيد عبث الهواء بستر من الشعر مسدل على حجرة زينب، فانكشف عنها وهى فى حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها فى قلب الرسول، ونهضت زينب تدعوه للدخول كالعادة المتبعة فى المجاملة، فأبى وولى وهو يهمهم بكلمات لم تميز منها زينب سوى قوله: سبحان الله العظيم.. سبحان مصرف القلوب.
فلما حضر زيد روت له زينب ما كان من حضور النبى، وما سمعته من كلامه وهو منصرف، فذهب زيد إليه، وعرض عليه أن يفارقها.
هتف به النبى: أرابك منها شيئًا؟
فقال له: لا والله يا رسول الله، ما رابنى منها شىء، ولا رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم على لشرفها وتؤذينى.
فقال له الرسول: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
فأمسكها زيد، ولكن تعاظمها عليه اشتد حتى نفد صبره فطلقها، ففكر الرسول فى الزواج منها ولكنه خشى ألسنة الناس، لأن الابن بالتبنى كان حكمه عند العرب فى الجاهلية حكم الابن الشرعى، فكيف يتزوج الرجل طليقة ابنه؟.
يرسم نظمى ملامح المقولة الغامزة على النبى من كل أطرافها.
يرصد أن أصحابها ذهبوا إلى أن القرآن حل مشكلة هذه الرغبة المتقدة بآيات أحلت له زواج زينب، بل أمرته به أمرًا، وجعلت من ذلك قاعدة عامة حتى لا تكون مطلقات الأبناء بالتبنى أو أراملهم محرمات بعد ذلك على أحد من المسلمين.
يقول ذلك من يقوله، وهو يضع يديه على آية سورة الأحزاب، «وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولًا».
لم تكن الآية وحدها هى سند من تقولوا على النبى محمد.
يشير نظمى إلى أن هناك عددًا من المستشرقين استغلوا ما رواه الطبرى وغيره مثل الزمخشرى الذى قال عند تفسيره هذه الآية: أبصر الرسول، صلى الله عليه وسلم، زينب بعد ما زوجها زيدًا فوقعت فى نفسه، فقال: سبحان مقلب القلوب، وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، ولو أرادها لاختطبها.
يذهب الزمخشرى فى تفسيره الآية إلى ما هو أكثر من ذلك.
فإن قلت: ما الذى أخفى فى نفسه والله مبديه؟
قلت: تعلق قلبه بها أو مودة مفارقة زيد إياها.
فإن قلت: كيف عاتبه الله فى ستر ما استهجن التصريح به، وما له لم يعاتبه فى نفس الأمر، ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها، ولم يعصم نبيه، صلى الله عليه وسلم، عن تعلق الهجنة به، وما يعرضه للقالة؟
قلت: كم من شىء يتحفظ منه الإنسان ويستحى من اطلاع الناس عليه وهو فى نفسه مباح متسع وحلال مطلق لا مقال فيه ولا عيب عند الله، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته غير موصوف بالقبح فى العقل ولا فى الشرع، لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجود باختياره.
الزمخشرى لا يزال يواصل ما يراه فى هذه الآية.
يقول: ومن هنا كان عتاب الله لرسوله، حين كتم الأمر وبالغ فى كتمه، والله لا يرضى له إلا اتحاد الضمير الظاهر، والثبات فى مواطن الحق، حتى يقتدى به المؤمنون، فلا يستحوا من المكافحة بالحق وإن كان مرًا.
نعود إلى نظمى الذى وضع يده على هذه الروايات التى حاول المستشرقون النفخ فيها، واتخاذها عاملًا داعمًا ومساعدًا لتجنيهم على النبى، ولا يحاول هو أن يجادل فى النصوص، لأنها أمور فوق كل جدل.
وقبل أن نتجنى نحن على نظمى لوقا، أجده يقول ما يجعلنى أجدد الثقة فى مذهبه، فهو يعنى بالأمور التى تعلو فوق كل جدل نصوص القرآن وليس نصوص الطبرى والزمخشرى.
يمنح الكتاب السماوى حقه، وينزل آراء البشر مهما كانوا علماء أو فقهاء منازلهم، فلا يقدس ما قالوه أو يجعل منه حائلًا بينه وبين التفكير فيه.
يتحدث نظمى عن الزمخشرى والطبرى صراحة: هما إمامان جليلان، ومسلمان صادقان، ولكن القرب فى الزمان والمكان من شخصية فذة مع الحب والتقديس لهما ليس ضمانًا مطلقًا للعصمة من الخطأ فى فهم الدوافع الحقيقية لتلك الشخصية، وأنا من الذين جربوا صدق المثل السائر: «رب احمنى من أصدقائى، أما أعدائى فأنا كفء لهم».
يضع نظمى أيدينا على ما يمكن اعتباره نظرية جديدة، أو على الأقل رؤية مختلفة.
يقول: إن النهج الصحيح فى فهم أعمال كبار الرجال أن نتصورهم فى ضخامتهم وفى عناصر تكوينهم النفسى، وعلى ضوء هذا التصور نتخير من الدوافع المختلفة الممكنة للعمل الواحد من أعمالهم ما يتفق وشخصيتهم.
ويضيف: وليس للقرب فى الزمن أدنى اعتبار فى هذا، فربما كان البعيد أقدر على حسن الفهم وإصابة كبد الحقيقة من المعاصرين، ففى هذه المسائل النفسية يقيس المرء على نفسه غالبًا، وليس من المقطوع به عندى أن يكون المعاصرون للرسول، أو من هم أقرب إلى زمانه منا أشبه به فى تركيبه النفسى أو أقدر على تصور ذلك التركيب والاستنباط منه والقياس عليه، فالقرب زمانًا أو مكانًا ليس حجة على العقل.
يخرج نظمى من المبدأ العام إلى القضية الخاصة، قضية زواج النبى من السيدة زينب بنت جحش.
يثبت أولًا: ليس فى عزمى أن أفيض فى بيان المبدأ، لأنه لو لم يكن صحيحًا، لكان أصح الناس نظرًا وفهمًا هم الأقدم، وليس ذلك صحيحًا، وسأمضى فى عرض عناصر هذه القضية من بدايتها الطبيعية، كى يتضح للعقل وضعها السليم.
بدأ نظمى بقصة زيد وتبنى محمد له، ونقلها عن ابن هشام الذى كان قد نقلها بدوره عن ابن إسحاق المطلبى.
زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبدالعزى بن امرئ القيس الكلبى، مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان أول ذكر أسلم وصلى بعد على بن أبى طالب، وكان حكيم بن حزام بن خويلد قدم من الشام برقيق فيهم زيد بن حارثة، وذلك أن أُم زيد وهى سعدى بنت ثعلبة من بنى معن من طىء كانت قد خرجت بزيد لزيارة أهلها، فأصابته خيل من بنى القين بن جسر، فباعوه بسوق حباشة وهى من أسواق العرب وزيد يومئذ ابن ثمانية أعوام، فدخلت على حكيم بن حزام بن خويلد عمته خديجة بنت خويلد، وهى يومئذ زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال لها: اختارى يا عمة أى هؤلاء الغلمان شئت فهو لك؟.
اختارت خديجة زيدًا فأخذته، فرآه النبى عندها، فاستوهبه منها فوهبته له، فأعتقه وتبناه، وذلك قبل أن يوحى إليه.
وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعًا شديدًا، وبكى عليه حين فقده، وظل ينشده إلى أن عثر عليه وهو فى مكة، فقال رسول الله لزيد: إن شئت فأقم عندى، وإن شئت فانطلق مع أبيك.
فقال: بل أقيم عندك، فلم يزل عند رسول الله حتى بعثه الله فصدقه، ويقال إن الرسول لما رآه اختاره على أبيه أخذ بيده، وقام به إلى ملأ من قريش، فقال: اشهدوا أن هذا ابنى وارثًا وموروثًا.
فطابت نفس أبيه عند ذلك، وكان يدعى زيد بن محمد، فلما أنزل الله عز وجل «ادعوهم لآبائهم»، قال: أنا زيد بن حارثة.
يعلق نظمى على رواية ابن هشام أن هذا هو زيد، وهذا مكانه من المجتمع القرشى، مكان الرق المعتق، وهذه مكانته من محمد، مكانة الولد بالتبنى برًا به وحبًا له ورفعًا لخسيسته فى قريش بعد أن آثره الفتى على أهله الأمجاد قبل البعثة، ومحمد يومئذ فرد من آحاد القريشيين، وفى ذلك ما فيه من آية على دماثته التى فطر عليها منذ كان.
نصل إلى زينب بنت جحش التى هى بنت عمة النبى محمد، لها فى قريش حسب، ولها بين المسلمين قرابة من الرسول، ولها فى الجمال شهرة يتحدث بها معاصروها.
لما بلغ زيد مبلغ الرجال وآن له أن يتزوج، شاء كرم محمد فى بره به أن يزيد من كرامته، وأن يرفعه فوق ما رفع فى قريش من خسيسته، فآثره ببنت عمته العقيلة الكريمة الحسب القريبة النسب الوضيئة الجمال.
لكن هل كان هذا الزواج مستقرًا؟
الإجابة تأتى من عند نظمى: فالذى يدرك بعض الإدراك ما كانت عليه الفتاة العربية يومئذ من موروث الاعتزاز بالأحساب العريقة، والنظر إلى الكفاءة فى الزواج، يدرك ولا شك مدى العار الذى تستشعره مثل زينب من الزواج بعبد جرى عليه الرق ثم أعتق، ولو كان يدعى فى الناس ابن محمد.
تأذت زينب وتأبت، وتأذى أخوها وتأبى، وتحرج الموقف.
كان للنبى هدف من وراء ما فعله، كما يرى نظمى.
أراد أن يحطم الفوارق بين المسلمين ويقضى على سمات الجاهلية وعصبيتها، فيثوب الناس إلى أن أكرمهم عند الله أتقاهم حقًا، ولكن أكرم الناس عند الله ليسوا أكرمهم عند الناس فى جميع الأحوال، ولم يتم زواج زينب الحسناء الأبية من زيد إلا بحكم لا رد له.
وحتى يدلل نظمى على ما يقوله، يلجأ إلى مثل يرى أنه حصيف لدى الفرنجة، يسوقونه عندما يتم أمر من غير طيب نفس.
يقول المثل: «فى وسعك أن تأتى بالجواد إلى شاطئ النهر، ولكن ليس فى وسعك أن تحمله على الشرب وهو لا يريد».
وردت زينب مورد زيد، ولكنها ظلت عصية النفس تجد لذلك الزواج غصة تعترض حلقها، وكلما لقيت زيدًا فى الدار تذكرت أن الذى هى فى عصمته إنما دخل دار ابن خالها رقيقًا وصيفًا، فكيف وهى الحرة تسام ذلك الخسف ونظيراتها ومن دونها تزوجن من أكابر الأحرار؟
واصلت زينب تعاظمها على زيد الذى وجد أن الزواج الذى كان سيرفع من خسيسته زادها تأكيدًا.
ضاق زيد بالأمر، وفاتح «محمدًا» فى طلاق زينب أكثر من مرة، وكان لا بد أن يفاتحه فى ذلك، أليس هو الذى زوّجها منه؟ أليس هو منه بمقام الوالد وبه يدعى؟ وأليست هى بنت عمته وقد أرادها على ذلك الزواج حتى أذعنت وفى القلب من ذلك شىء؟
تردد الرسول طويلًا، وكلما خاطبه زيد فى طلاقها قال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
كان عزيزًا على النبى أن ينتهى هذا الزواج الذى سعى فيه وأمر به إلى تصدع وانهيار.
وكان عزيزًا عليه أن تتقوض القاعدة التى أراد بذلك الزواج تقريرها، وهى محو الفوارق وإلغاء الطبقات فى صميم الأسرة العربية وتقاليد المصاهرة فيها، كما محا الفوارق فى الدين والعبادة والجهاد والإمارة.
وكان عزيزًا عليه أن تقف عقلية المرأة وتمسكها باعتبارات التفاخرعقبة دون انتصار هذه الثورة الاجتماعية الإنسانية المنصفة للكرامة البشرية انتصارًا كاملًا شاملًا فى جميع الميادين.
ولكن زينب بنت جحش كانت أقوى من الإصلاح ومن مغزاه الكبير، فاستمرت تؤذى الفتى حتى نفد صبره وطلقها.
طلق زيد زينب ولم تكن له بها حاجة، انقضى وطره منها ولم يعد له فيها مأرب.
ينتقل نظمى إلى زينب، سأل عما ينتظرها؟
يقول: ماذا ينتظر سيدة قومها التى أذعنت طائعة للزواج ممن لا تود، ولكن نفسها لم تنقد سلسة لذلك الزواج فشقيت به وأشقت، وغدت مطلقة صغيرة السن، وضيئة الحسن، بغير زوج يضمها ويعصمها.
عادت زينب بنت عمة محمد إلى بيت آلها جريحة مطعونة فى شعورها الأنثوى وشعورها الاجتماعى، ولم تخل من أسى لتوهم هوانها على ابن خالها حتى زوجها من دعى لصيق وعبد عتيق، فانكسر خاطرها وتأذت كرامتها، ولم تخل من تشاؤم وهَم.
فمن الذى يتزوج ثيبًا، مطلقة مولى عتيق؟
يجيب نظمى: أكبر الظن أنه لن يقدم على ذلك كفء لها ذو منبت عريق، ويزيد موقفها سوءًا، ويزيد وهمها وحشة أنها تزوجت مطلقها بأمر كريم، وعلم القاصى والدانى أنها لم تحسن معاشرة ذلك الزوج المظلوم، فمن يجرؤ على زواجها وهو يعلم أن الرسول أمر بالزواج وعارض فى الطلاق كلما أستأذنه فيه زيد؟
إنها لتحس بوادر النبذ تطبق عليها، ويا له من موقف لحرة حسناء فى مقتبل العمر، وما كان محمد بالذى يفوته ما ينطوى عليه الموقف من اعتبارات دقيقة ثقيلة الوطأة على الشابة المكروبة، وما كان ليغفل عن صلته بما انتهت إليه حيالها.
يصور نظمى الموقف بقوله: أبت الفتاة وأصر هو على أن يكون أمره نافذًا، وهو الرسول وابن الخال، وإنه ليعلم علم اليقين، وهو الإنسان ذو القلب الكبير، أن هوى القلوب لا حيلة للمرء فيه ولا يأتمر بإرادة أو يذعن لعقل، فهو لا يستطيع أن يلوم زينب لأن قلبها عصاها وأبى أن يهفو للفتى الذى يحبه هو حب الأبناء، وعلى هذا التأويل أعقل أنا قوله: سبحان مصرف القلوب، أى سبحان الذى صرف قلب الشابة الحسناء عن الفتى الوسيم زيد، فلم تستطع أن تسكن إليه بعد أن تزوجته طائعة مذعنة.
ذكر الرسول عندئذ ربه وحكمته، فكيف بعدئذ يلومها على ما لا تملك من هوى قلبها، وسبحان مصرف القلوب.
لا لوم عليها، فكيف إذن يتركها تحمل وحدها ما لا وزر لها فيه، ولا طاقة لها بدفعه عن نفسها؟
لا بد أن يدفع عنها شعور الهوان والدونية الذى حاق بوهمها من ذلك الزواج غير المتكافئ على ظنها، لا بد من زواج يكون بمثابة رد اعتبار لها، ورأى من واجبه أن يتزوجها، ثم رأى نفسه أمام اعتبار خاص من مخلفات البيئة العربية فى تاريخ جاهليتها الطويل، وما أعنت البيئة الصحراوية فى حفاظها على الموروث من الأنساب، والموروث من التقاليد، رأى نفسه أمام عقيدة مساواة الأدعياء «الأبناء بالتبنى» بالأبناء الحقيقيين فى كل شىء، فأرملة الابن بالتبنى أو مطلقته حرام على الأب بالتبنى حرمة مطلقة الابن الحقيقى أو أرملته، حرمة قديمة متأصلة موروثة، وزينب ذات شهرة مستفيضة بالجمال.
فما عسى أن يقول الناس إذن؟
وما عسى أن تتناجى به أحياء العرب وقد رأوا الرسول يتزوج مطلقة ابنه؟
ألا يرمونه بقالة السوء؟
ألا يخوضون فى نزاهة مقصده؟
وتردد محرجًا بين إرضاء ضميره وإطاعة نخوته بجبر خاطر زينب الكسير ورفعها إلى مقام أمهات المؤمنين، وبين النأى بنفسه عن تلك الشبهات ومن قعد الريبة ركبته، وهو الحصيف الذى خبر قلوب الناس وعرف خوافيهم، غامت نفسه فأنزل الله عليه ما رفع عنه الحرج «وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه».
وبذلك قضى على سلطان التبنى وما يترتب عليه من حرمة لا أساس لها، أم هل يكون الابن بالتبنى الذى له أب معروف أقرب آصرة من الأخ الشقيق؟ وهذه مطلقة الشقيق غير محرمة.
فكيف تحرم مطلقة اللصيق؟
وما أخفى محمد فى نفسه إلا الرغبة فى جبر خاطر كسير لا سبيل إلى علاجه حق العلاج إلا بيده، وما الأمر بالزواج هنا إلا منطوق حكم سبقته حيثياته الملزمة للعقل، وألحقت به القاعدة العامة التى يلتزم بها سائر الناس عن بعد. يخلص نظمى من ذلك إلى أنه لا تثريب فى العقل على من يتزوج مطلقة «قضى زوجها منها وطرًا» أى لم يعد له فيها مأرب، وهى حرة تتزوج من تشاء، وليست فى ذلك حرمة ولا شبهة حرمة، وليست تلك بالتى تسقط مروءة أحد، بل إن ظروف ذلك الزواج جميعًا تؤذن بأنه كان من أعمال النخوة المأثورة عن محمد، ولم يكن تهورًا ساقه إليه هوى صبيانى طائش.
حاول نظمى استخدام مذهبه الفلسفى فى دفع الاتهام عن النبى بأنه دفع زيد إلى طلاق زوجته ليتزوجها، ورغم أنه اجتهد فى إعمال عقله، إلا أنه لم يخرج عما قاله قبله سابقون لم يكونوا فى حاجة إلى مذهب فلسفى ليتأكدوا من نخوة ونزاهبة نبيهم.